توهم تناقض القرآن في حكمه على النصارى (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين وجود تناقض في القرآن الكريم في حكمه على النصارى، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد( (المائدة: ٧٣)، وقوله سبحانه وتعالى: )من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114)( (آل عمران) ويتساءلون: إذا كان القرآن لا يؤمن بهذه الأقانيم الثلاثة[1]، ويعتبر هذا شركا بالله، فلماذا اعترف بأن النصارى مؤمنون، وهل يعد القرآن المشركين بالجنة؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من التناقض.
وجها إبطال الشبهة:
1) عقيدة التثليث مرفوضة عند المسلمين لفسادها؛ فلم يأت بها المسيح، ولم تقرها الفطرة السليمة؛ إذ إنها من وضع بشر خدعوا بها ضعاف القلوب.
2) إحكام القرآن واستحالة التعارض بين آياته من المسلمات، فمن العدل الإلهي مع أتباع عيسى - عليه السلام - أن يثاب مسلمهم ويذم كافرهم؛ لأن الدين عند الله الإسلام.
التفصيل:
أولا. عقيدة التثليث مرفوضة عند المسلمين لفسادها، فما جاء بها المسيح، ولا تقرها الفطرة السليمة:
في البـدايـة لا بد أن نـشـيـر إلى أن المسـيـحـيـة الحـقـة التي دعـا إلـيـهــا المســيـح عيـسى ابن مريم - عليه السلام - قد قامت على التوحيد فليس فيها نص واحد يمكن أن يتخذ دليلا على الثالوث المزعوم، والمتأمل في القرآن الكريم يتبين له حقيقة الدعوة التوحيدية التي نادى بها نبي الله ورسوله عيسى - عليه السلام - وذلك لأن القرآن الكريم - سراج الله في الأرض - قد تحدث به خالق الأكوان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مخبرا إياه أن دعوات الأنبياء عامة قد قامت على التوحيد، وأن ليس هناك نبي واحد قد دعا إلى ثالوث في يوم ما، قال تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، وقال عز وجل: )واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (45)( (الزخرف)، فإذا كان الأنبياء جميعا يعترفون بعقيدة التوحيد، وإليها يدعون على مر العصور، فهل يقبل عقل سليم أن يتهم المسيح بأنه قد خالف الأنبياء ودعا بغير ما أمرت به السماء؟!
إن هذا الهراء الذي لا يوجد عليه دليل لا يمكن أن يسلم به القرآن الكريم، ولذلك وجدنا القرآن الكريم ينص - كما قال الشيخ محمد أبو زهرة - على أن عقيدة المسيح هي التوحيد الكامل بكل شعبه: التوحيد في العبادة، فلا يعبد إلا الله، التوحيد في التكوين، فخالق السماء والأرض وما بينهما هو الله - عز وجل - والتوحيد في الذات والصفات، فليس ذاته بمركبة وهي منزهة عن مشابهة الحوادث سبحانه وتعالى.
يقول جل جلاله على لسان المسيح عليه السلام: )ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة)، وساعة أن حاول النصارى أن يخرجوا بدعوة المسيح عن الوحدانية ويلبسوها ثوب الوثنية، ألبسهم الله ثوب الكفر، وما أقذره من ثوب، ثم أخبر أنه واحد لا شريك له، وأن على القوم أن ينتهوا عما زعموه في حقه، فقال تعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)( (المائدة)[2].
ويمضي القرآن الكريم في تصحيح عقيدة النصارى الحالية وإثبات حقيقة الدعوة المسيحية، فيقول سبحانه: )لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)( (النساء).
والمفهوم من هذه الآيات كلها: أن المسيح - عليه السلام - ما دعا إلا إلى توحيد الله، وعلى ذلك، فكل ما ليس توحيدا قد دخل النصرانية من بعده - عليه السلام - وما كان عيسى إلا رسول رب العالمين، ولو كان المسيح بخلاف ذلك وعقيدته تغاير عقيدة الأنبياء، لصرح بذلك القرآن الذي شهد له التاريخ بالصدق، والعقلاء بالعصمة.
هذا عن القرآن، أما عن كتبهم المقدسة التي يؤمنون بها والتي شابها الكثير من التحريف، فيذكر د. عبد المنعم فؤاد أنه على الرغم من هذا، فقد أقرت أيضا فكرة التوحيد، ولا نجد بينها ما يثبت فكرة الأقانيم الثلاثة المزعومة.
ومن هنا يتضح لنا أن الله دعا إلى وحدانيته في أول وصاياه لنبيه موسى - عليه السلام - ولا نجد أي نص في التوراة يشير - لا من قريب ولا بعيد - إلى عقيدة التثليث[3].
أما المطلع على الأناجيل ورسائل العهد الجديد يهوله هذا الحشد الهائل من النصوص المتراكمة التي تشير إلى وحدانية الله، وتقرر بشرية المسيح، وتدل على أنه نبي لم يلفظ بكلمة واحدة تؤيد ما يقوله النصارى في الثالوث الوثني الذي نسب زورا إلى المسيحية، ففي إنجيل متى يقول المسيح: "لا تدعوا لكم أبا في الأرض؛ لأن أباكم واحد، الذي في السماوات". (متى 23: 9)، فهو يبين أنه إله واحد ليس له شريك في الأرض ولا في السماء، وفي إنجيل مرقس نجد أن أحد الكتبة يتقدم إلى المسيح قائلا: "أىة وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا: اسمع يا اسرائيل، الرب إلهنا رب واحد". (مرقس 12: 28، 29)، وفي إنجيل لوقا نجد المسيح يقول: "إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد" (لوقا 4: 8).
أما في رسائل التلاميذ فيقول يعقوب: " أنت تؤمن أن الله واحد، حسنا تفعل". (يعقوب 2: 19)، ويقول أيضا: "واحد هو واضع الناموس القادر أن يخلص ويهلك". (يعقوب 4: 12)، وفي إحدى رسائل بولس إلى أهل غلاطية يقول فيها: "ولكن الله واحد". (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 3: 20)[4].
ومن هنا نجد أن المسيحية الحقة ظلت ثلاثة قرون بعد رفع المسيح إلى السماء تدين بالتوحيد الخالص، ولم تعرف عقيدة الثالوث إلا بعد أن نالتها أيدي المحرفين في المجامع التي اختلقت مسيحية أخرى غير التي دعا إليها المسيح عليه السلام.
ويؤكد ذلك أن عقيدة الثالوث ليس لها أدلة ثابتة وصحيحة في العهدين كما أثبتت الترجمات الحديثة التي قام بها النصارى، وفي العصر الحديث وجدنا من يتجهون إلى الإسلام "دين التوحيد الخالص"؛ لأنه ناسب فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فارتموا في أحضانه، ولاذوا به كملجأ تطمئن إليه العقول والقلوب، بل رددوا بكل ارتياح قوله: "لا إله إلا الله عيسى ومحمد رسولا الله". إذن فدخول هؤلاء في الإسلام يؤكد فساد هذه العقيدة كما يرفضها العقل.. وكيف يطمئن القلب إلى فكرة من وضع البشر لا تعظم إلها، ولا تريح الفطرة السليمة.
يقول الشيخ رحمة الله الهندي: إن الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح، أما الثلاثة فلها ثلث صحيح وهو واحد، وأن الثلاثة مجموع آحاد ثلاثة، والواحد الحقيقي جزء الثلاثة، فلو اجتمعا في محل واحد يلزم كون الواحد ثلث نفسه، والثلاثة ثلث الواحد، وكون الثلاثة ثلاثة أمثال نفسها، والواحد ثلاثة أمثال الثلاثة، وهذا محال".
هذا القول ما زال النصارى يدورون حوله بلا حل؛ ذلك لأن الواحد الحقيقي هو الذي لا يقبل الانقسام بوجه من الوجوه، إذن فأصحاب الجمع بين التوحيد والتثليث قد عزلوا العقل عن الحكم عليهم، وهذا هو رأي الكنيسة المسيحية عبر القرون[5].
ثانيا. إحكام القرآن واستحالة التعارض بين آياته:
إن القرآن الكريم لا يمكن أن يناقض نفسه، ولا تتعارض آياته وأحكامه، وما كان الله تعالى ليناقض نفسه: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، والقرآن صريح في الحكم على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة بالكفر، فهو تعالى يقول: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)( (المائدة)، وقال تعالى: )إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية (6)( (البينة).
فمن العدل الإلهي أن يثاب مسلمهم ويذم كافرهم: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: ١٩) والتأويل السريع والفهم الخاطئ للآيات يؤديان إلى مثل هذا اللبس - إذا كان لبسا وليس تعمدا - فالآيات التي يشيرون إليها على أنها اعتراف من القرآن بأن المسيحيين مؤمنون لهم الجنة، فهي قوله تعالى: )من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114)( (آل عمران). وقولـه تعالـى: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسيـن ورهبانـا وأنهـم لا يستكبـرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين (85)( (المائدة).
وهذه الآيات خاصة بمن آمن بالله وبرسوله من أهل الكتاب من علمائهم وأحبارهم ورهبانهم، كعبد الله بن سلام: الحبر اليهودي الذي اعترف بالإسلام، وحسن إسلامه، وعن عطاء: أنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثلاثة من الروم، كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم [6].
وكذلك آيات المائدة، فهي تعني من آمن من أهل الكتاب، وليس جميعهم.
قال ابن عباس في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83)( (المائدة): يريد النجاشي وأصحابه؛ وذلك لأن جعفر الطيار قرأ عليهم سورة مريم، فأخذ النجاشي نبتة من الأرض، وقال: "والله ما زاد على ما قال في الإنجيل"، وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة.
وإذا كان النصارى يرون أنهم المؤمنون، وأنهم أحق بالجنة، وأن غيرهم الكافرون أهل النار، فهنيئا لهم إيمانهم وجنتهم، ونحن كافرون بإيمانهم راضون بإيماننا، وليتعدوا على أمة القرآن الكريم، وليقولوا ما شاءوا: )قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24) قـل لا تسألــون عما أجرمنـا ولا نسأل عما تعملــون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثـم يفتـح بيننـا بالحـق وهـو الفتـاح العليـم (26)( (سبأ)[7].
الخلاصة:
· عقيدة التثليث مرفوضة عند المسلمين الموحدين لفسادها، فما جاء بها المسيح، ولا يوجد لها أصل في كتبهم، بل كل كتبهم قبل تحريفها نصوص تنطق بالتوحيد، فعقيدة التثليث تأباها الفطر السليمة؛ إذ إنها من وضع البشر، تبناها بولس الوثني والمجامع، وعلى أساسها ترقى إلى درجة رسول، ولكنها ليست المسيحية الحقة التي عرفها المسيحيون إلى أن ظهرت هذه الفتنة على يد بولس وغيره ممن حرفوا وغيروا، وخدع بها ضعاف القلوب.
· أما حكم القرآن على هؤلاء فصريح لا يحمل تناقضا أو غموضا، فقد حسن مسلمهم، وقبح كافرهم، وهذا محكم العدل الإلهي، فالدين عند الله الإسلام"، لذلك أثاب من أسلم منهم مثل النجاشي - ملك الحبشة - والذين آمنوا معه، وعبد الله بن سلام الحبر اليهودي، فكان جزاؤهم الجنة بالحجة والمنطق، وبين أوجه الفساد في عقائدهم في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وبذلك يكون الحكم عادلا منصفا.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات.