توهم تناقض القرآن بشأن الانتفاع بسعي الغير يوم القيامة(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن هناك تناقضا بين قوله سبحانه وتعالى: )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)( (النجم)، وبين قوله سبحانه وتعالى: )والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين (21)( (الطور). ويتساءلون: كيف يثبت القرآن أنه لا ينفع الإنسان إلا عمله وسعيه، وأنه لا يمكنه الانتفاع بعمل أو بسعي غيره في موضع ثم يلمح في موضع آخر أن الأبناء ينتفعون بسعي آبائهم؟! مستدلين بذلك في زعمهم على أن القرآن من صنع البشر مادام فيه هذا التعارض.
وجه إبطال الشبهة:
للعلماء في التوفيق بين الآيتين عدة آراء، منها أن:
· المؤمن ينتفع بعمل نفسه بفضل الله تعالى عليه.
· الآية الأولى عامة خصصت بالآية الثانية، فهي من العام المخصوص.
التفصيل:
للعلماء في توجيه هاتين الآيتين عدة آراء، منها:
1. أن المؤمن ينتفع بعمل نفسه بفضل الله تعالى عليه:
فإيمانه وطاعته سعي منه يستفيد به، ويتداركه - مع هذا - فضل الله عليه في كل الأمور حتى دخول الجنة، فإنه يناله المؤمن بفضل الله ورحمته ففي الحديث: «لن ينجي أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة»[1].
والذرية المؤمنة كان منها السعي الذي هو الإيمان والعمل الصالح، الذي عرضها لفضل الله برفع درجتها.
وعلى هذا، فرفع درجة الذرية ليس بسعي الآباء حتى يقال: انتفع بكسب الغير، وإنما هو بفضل الله؛ لتقر أعين الآباء بوجود ذرياتهم معهم في درجاتهم.
وأما ما ورد في انتفاع الميت بثواب صدقته الجارية، وعلمه المنتفع به، ودعاء ولده الصالح له ففي الحديث الذي جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[2].
فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وعمله، فالصدقة الجارية - كالوقف ونحوه - هي آثار عمله، قال سبحانه وتعالى: )إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم( (يس:١٢)، والعلم الذي نشره في الناس فانتفعوا به هو من سعيه وكسبه، وثبت في الصحيح:«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا»[3]، والولد من كسب الوالد كما جاء في الحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه»[4] [5].
2. الآية الأولى عامة خصصت بالآية الثانية فهي من العام المخصوص:
إن هذا من العام المخصوص، فآية النجم: )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)( (النجم)عامة خصصت بآية الطور: )ألحقنا بهم ذريتهم( (الطور:21)، وبما ورد من شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد، وبما ورد في انتفاع الأموات بدعاء الأحياء، كما في الحديث السابق: "أو ولد صالح يدعو له"، وبتصدقهم عنهم أيضا، كما في الحديث: «أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها[6] ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت. أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم»[7].
قال ابن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة - عد منها واحدا وعشرين، ونجتزئ بعضها -:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
ثانيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها.
ثالثها: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر للخروج من النار، يعتبر انتفاعا بسعي الغير.
رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير.
خامسها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير.
سادسها: أن الميت المدين تبرأ ذمته بقضاء دينه عنه.
وقال الشوكاني: ولم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور؛ فإن الخاص لا ينسخ العام، بل يخصصه، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه، كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم[8].
الخلاصة:
بهذا البيان بطل الزعم القائل: إن هناك تناقضا بين آيات القرآن بشأن الانتفاع بسعي الغير، وعدم الانتفاع به؛ وذلك لأن:
· المؤمن ينتفع بعمل نفسه وبفضل الله تعالى عليه، ورفع درجة الذرية ليس بسعي الآباء حتى يقال: انتفع بكسب الغير، وإنما هو بفضل الله لتقر أعين الآباء بوجود ذرياتهم معهم في درجاتهم، فالولد من كسب الوالد كما جاء في الحديث: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه".
· الآية الأولى من العام المخصوص؛ حيث خصصتها آية الطور: )ألحقنا بهم ذريتهم( (الطور:21)، وخصصت أيضا بما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد، وبما ورد في انتفاع الأموات بدعاء الأحياء.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.