توهم تناقض القرآن حول نطق الكفار في الآخرة (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن هناك تعارضا بين آيات القرآن الكريم التي تثبت نطق الكافرين في الآخرة بالإنكار أو الاختصام مثل قوله سبحانه وتعالى: )ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23)( (الأنعام)، وقوله سبحانه وتعالى: )إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31)((الزمر)، وبين الآيات التي تنفي ذلك كقوله سبحانه وتعالى: )هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36)( (المرسلات)، وقوله أيضا: )ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85)( (النمل). ويتساءلون: كيف يذكر القرآن في موضع أن الكافرين ينطقون يوم القيامة، ويذكر في موضع آخر أنهم لا ينطقون؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
يمكن التوفيق بين هذه الآيات بأحد رأيين:
· إن القيامة مواقف، والنار حالات، ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون.
· إن الكفار ينطقون بما لا فائدة لهم منه، وما لا فائدة منه في حكم العدم.
التفصيل:
يمكن التوفيق بين الآيات التي تثبت كلام الكفار في الآخرة، وبين الآيات التي تنفي ذلك بأحد رأيين:
1. أن القيامة مواقف، والنار حالات، ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون:
تختلف مواقف القيامة، وحالات النار؛ ولذا فهم ينطقون في بعضها كما دلت بعض الآيات، ولا ينطقون في بعضها كما دلت آيات أخرى، فعن قتادة: أن رجلا جاء إلى عكرمة، فقال: أرأيت قول الله سبحانه وتعالى: )هذا يوم لا ينطقون (35)( (المرسلات)، وقوله: )ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31)( (الزمر) فقال: إنها مواقف، فأما موقف منها فتكلموا واختصموا، ثم ختم الله على أفواههم، فتكلمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا يتكلمون[1].
ومما يدل على اختلاف كلامهم في الآخرة تبعا لاختلاف مواقف القيامة، ما يحكي إنكارهم الشرك وعمل السوء في الدنيا، مثل قوله سبحانه وتعالى: )الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28)( (النحل)، هذا في إنكارهم الشرك عند الموت والاحتضار، وما يحكي إنكارهم الشرك يوم القيامة كقوله سبحانه وتعالى: )ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23)( (الأنعام).
وما يحكي إنكارهم عبادة من عبدوهم من دون الله في النار كقوله سبحانه وتعالى: )ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين (74)( (غافر).
وأما الآيات التي تحكي اختصامهم يوم القيامة، فمنها ما يحكي الاختصام بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الكافرين، مثل قوله ـ سبحانـه وتعالـى ـ: )إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون (31)( (الزمر). ومنها ما يحكي الاختصام بين الكفرة ومعبوديهم في النار مثل قوله سبحانه وتعالى: )وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاوون (94) وجنود إبليس أجمعون (95) قالوا وهم فيها يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلال مبين (97) إذ نسويكم برب العالمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99)( (الشعراء).
ومنها ما يحكي الاختصام بين الكفرة بعضهم مع بعض في النار، كقوله سبحانه وتعالى: )قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38) وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)( (الأعراف)، ونظيرها قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)( (الأحزاب) [2].
وهناك مواقف أخرى لا يستطيع الكفار الكلام ولا ينبغي لهم، وذلك مصداقا لقوله تعالى: )هذا يوم لا ينطقون (35)( (المرسلات).
2. أن الكفار ينطقون بما لا فائدة لهم فيه، وما لا فائدة فيه في حكم العدم:
الكافرون ينطقون بما لا فائدة لهم فيه، والذي لا فائدة فيه يعد في حكم العدم، وهو ما يحكيه تعالى عن اعتذارهم في الآخرة في قوله عز وجل: )يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52)( (غافر)، والأوضح في معنى هذه الآية: أن الكافرين يعتذرون، ولكن لا يقبل اعتذارهم. قال ابن جرير: لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم؛ لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل. وقال الشوكاني: وإنما لم تنفعهم المعذرة؛ لأنها معذرة باطلة، وتعلة داحضة، وشبهة زائفة[3].
وعلى هذا المعنى يمكن تفسير الآيات التي تنفي نطق الكفار في الآخرة كقوله سبحانه وتعالى: )هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36)( (المرسلات)، والمعنى: أن الكفار في الآخرة لا يقدرون على الكلام، ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا؛ لأن هذا لا ينفعهم لعدم إيمانهم في الآخرة، وقوله سبحانه وتعالى: )ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85)( (النمل)؛ والمعنى: وجب الغضب عليهم، أو حق العذاب عليهم بسبب ظلمهم، الذي أعظم أنواعه الشرك بالله، فهم لا ينطقون؛ إذ ليس لهم عذر ينطقون به، أو لا يقدرون على الكلام لما يرونه من الهول العظيم، وقال أكثر المفسرين: يختم على أفواههم فلا ينطقون[4].
ويظهر هذا جليا من كلامهم حين يقول الحق تبارك وتعالى على لسانهم )وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص (21)( (إبراهيم).
فندمهم وتحسرهم هذا لا ينفعهم، بدليل ما قاله الله - عز وجل - على لسان الشيطان لما قضي الأمر: )وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم( (إبراهيم: ٢٢).
والمتتبع لآي القرآن الكريم يجد أن ما قيل على لسان الكفار لا يغني عنهم شيئا، ولا ينفعهم بقليل أو كثير، فعذاب الله واقع بهم لا محالة، فقد رد الله - سبحانه وتعالى - على من طلب الرجعة بعد الموت إلى الحياة مرة ثانية بكلمة "كلا" )حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)( (المؤمنون)، وفي سـورة النبــأ: )إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (40)( (النبأ)، فهل كان ترابا كما تمنى؟!
الخلاصة:
لا يوجد تعارض بين الآيات التي تصرح بنطق الكافرين في الآخرة، وبين الآيات التي تحكي كلامهم واختصامهم يوم القيامة، وذلك لسببين:
· الأول: أن القيامة مواقف، والنار حالات؛ فينطقون ويتكلمون أولا، ثم يمنعون من الكلام بعد ذلك.
· الثاني: أنهم ينطقون بما لا فائدة لهم فيه، وما لا فائدة فيه في حكم العدم.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.