توهم تناقض القرآن حول ما يبلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن هناك تعارضا بين قوله سبحانه وتعالى: )والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، وبين بعض الآيات الأخرى التي تفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم ونطق بأشياء من غير وحي له فيها، حتى إن الله تعالى عاتبه على ما صدر منه، كإذنه لبعض المتخلفين عن غزوة تبوك، وقد عاتبه ربه على هذا الإذن في قوله سبحانه وتعالى: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة).
ويتساءلون: كيف يشير القرآن في موضع إلى أن محمدا لا ينطق إلا بوحي من ربه، ثم يعاتبه في موضع آخر على ما صدر منه؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن من التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
ينقسم كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين:
· ما كان تبليغا عن الله تعالى فهو وحي، ولا يكون عن هوى، وهذا صدق لا كذب فيه.
· ما وكل إليه الاجتهاد فيه - مثل ما حدث في غزوة تبوك - أو ما كان في أمور المعاش - كحادثة تأبير النخل[1] - فهو ليس بوحي، وإنما باجتهاد ظهر له - صلى الله عليه وسلم - ولا يوصف هذا بالصدق ولا بالكذب.
التفصيل:
كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الوحي[2] والاجتهاد[3]:
حول كلام النبي وأنواعه كتب د. الحديدي قائلا: ينقسم كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نوعين:
1. ما كان تبليغا عن الله تعالى فهو وحي، ولا يكون عن هوى:
يقسم الله تعالى - في سورة النجم - بالنجم إذا هوى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما ضل وما غوى، والضال: هو الجاهل الذي لا يسلك الطريق القويم بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره، فهوـ صلى الله عليه وسلم - راشد تابع للحق، فتجنب الباطل، )وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم)، وما يصدر نطقه عن الهوى، لا بالقرآن ولا بغيره، )إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) ما الذي ينطق به إلا وحي من الله تعالى، يوحيه إليه. فهذه الآيات تفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا عن وحي من الله - عز وجل -.
فما ينطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان تبليغا عن الله تعالى فهو لا يكون عن هوى، إنما كل ما يبلغه عن ربه فهو وحي منه سبحانه، ولا يقول على الله شيئا من عند نفسه، وفي هذا رد على الكفار الذين زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افترى هذا القرآن، وقد أقسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنه لم يتكلم إلا بالحق - تبليغا عن ربه - عندما ذكر بعضهم أن بشرية الرسول ربما تجعله يقول عند الغضب كلاما يكون فيه متأثرا بغضبه.
فقد جاء عن عبد الله بن عمرو قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب - أي: عن الكتابة - فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق»[4].
وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله! قال: فإني لا أقول إلا حقا»[5].
2. ما وكل إليه - صلى الله عليه وسلم - للاجتهاد فيه فهو ليس بوحي، وإنما باجتهاد ظهر له - صلى الله عليه وسلم -:
أما الآيات الأخرى التي تفيد أنه - صلى الله عيه وسلم - تكلم ونطق بأشياء من غير وحي له فيها، حتى إن الله تعالى عاتبه على ما حصل منه، مثل إذنه لبعض المتخلفين عن غزوة تبوك، فقد عاتبه الله على هذا الإذن، قال - سبحانه وتعالى -: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة)، فهذه الآيات تتحدث عن مواقف وكل فيها النبي بالاجتهاد، ومعنى الآية السابقة - كما قال ابن جرير -: عفا الله عنك يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك، من قبل أن تعلم صدقهم من كذبهم، وما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك، إذ قالوا لك: لو استطعنا لخرجنا معكم، حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه، ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنت له منهم على علم منك بعذره، وتعلم من الكاذب منهم المتخلف نفاقا وشكا في دين الله.
فكل ما ليس تبليغا عن الله تعالى، بل وكل الرسول فيه لاجتهاده - كإذنه - صلى الله عليه وسلم - للمتخلفين عن غزوة تبوك، فلا يكون قوله فيه نطقا عن الهوى؛ حيث لا يخالف نهيا تقدم له، وإنما عن اجتهاد ظهر له فيه أن هؤلاء المعتذرين لا يستطيعون الخروج معه، وكثيرا ما كان المنافقون - مبالغة منهم في إخفاء حقيقتهم - يحلفون بالله على ما يقولون: )اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2)( (المنافقون)، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر لا اطلاع له على بواطن الناس إلا فيما يطلعه الله عليه منهم، وحتى وقت الإذن لهم في التخلف لم يكن قد أطلعه الله على أنهم منافقون كاذبون.
ومن ذلك أيضا نصحه - صلى الله عليه وسلم - بترك تأبير النخل، وتركه يفسد ثمرتها فتصير شيصا[6]، فعن أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهم يأبرون النخل، فقال: "ما تصنعون"؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا"، فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر»[7].
فهذا - كما قال العلماء - رجاء، والرجاء لا يوصف بصدق ولا كذب، وأنه من باب الظن والرأي في أمور المعاش. قال النووي: قال العلماء: لم يكن هذا القول خبرا، وإنما كان ظنا، ورأيه - صلى الله عليه وسلم - في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك.
وعلى هذا، فأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي من باب الاجتهاد وإعمال الرأي في أمور المعاش لا توصف بصدق ولا كذب[8].
الخلاصة:
· لا تعارض بين الآيات التي استدل بها هؤلاء على وجود تناقض بين آيات القرآن حول كلام النبي؛ إذا إن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى نوعين:
· ما كان وحيا من الله تعالى، ومثل هذا لا يقبل الكذب أبدا؛ لأنه كلام الله الذي لا يغير ولا يبدل.
· ما كان اجتهادا منه - صلى الله عليه وسلم - أو كان متعلقا بأمر من أمور الدنيا، وهذا لا يحتمل الصدق ولا الكذب، والنبي في هذا الجانب شأنه شأن بقية البشر.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.