توهم تناقض القرآن بشأن إثبات القوة لله تعالى (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا بين الآيات التي أثبتت العزة والقدرة المطلقة لله - سبحانه وتعالى -، ومن ذلك قوله عز وجل: )ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )والله على كل شيء قدير (284)( (البقرة)، وبين قوله عز وجل: )يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون(9)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم( (النساء: ١٤٢)، وقوله عز وجل: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون (93)( (النحل)، وقوله عز وجل: )إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57)( (الأحزاب). ويتساءلون: إذا كان الله قد أثبت لنفسه العزة والقدرة المطلقة، فكيف يسمح للمنافقين بخداعه وللكافرين بإيذائه هو ورسوله الذي بعثه للناس؟ ألا يعد هذا دليلا على اضطراب القرآن؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من الخطأ والاضطراب.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الله - عز وجل - هو الملك وهو على كل شيء قدير.
2) المكر والمخادعة والإيذاء من صفات الضعفاء، ومن يخادع الله يخدع نفسه في الحقيقة.
3) الله تبارك وتعالى لا يعنيه أن يتفق الناس أو يختلفوا، وإنما هم وحكمهم بيده.
4) أمر الله بالشيء يختلف عن إذنه بحدوثه.
5) إيذاء الله ورسوله ليس كإيذاء الإنسان للإنسان، وللعلماء آراء في تفسير معناه تنفي ما ذهب إليه هؤلاء المدعون.
التفصيل:
أولا. الله - عز وجل - هو الملك وهو على كل شيء قدير:
إن الله - عز وجل - إذا أراد أن يقضي أمرا قال له: كن فيكون. قال سبحانه وتعالى: )إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)( (يس)، وحكم الله - عز وجل - بأن له الملك وله الأمر وله الحكم، وحكم بأنه على كل شيء قدير، فهل خرج من تاريخ الناس من حاول أن يخرق هذه الأحكام؟! وحكم الله - عز وجل - بأنه له العزة ولرسوله وللمؤمنين، فهل كذبت هذه الحقيقة؟!
ثانيا. المكر والخديعة من العبد مع الله تقع على العبد نفسه فهو من باب المجاز وتسمية العقوبة باسم الذنب:
قال علماؤنا في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )يخادعون الله والذين آمنوا( (البقرة: ٩) معنى: يخادعون الله أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل خداعهم لرسوله خداعا له؛ لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر؛ ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنوا أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين. وقال أهل اللغة: أصل الخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي. وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه
طيب الريق إذا الريق خدع
فـقوله: )يخادعون الله( على هذا أي: يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله - سبحانه وتعالى - بالرياء، وكذا جاء مفسرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي التنزيل: )يراءون الناس( (النساء: 142) وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. وتقول العرب: انخدع الضب في جحره.
وقوله سبحانه وتعالى: )وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون(9)( (البقرة) نفي وإيجاب، أي: ما تحل عاقبة الخداع إلا بهم. ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه. وهذا صحيح؛ لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه، ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله؛ إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع[1].
أما الخداع من الله، فلا يعني أنه مثل خداعهم، ولكن هو مجازاتهم على خداعهم، فسمى العقوبة باسم الذنب والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قاله ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه وعلى هذا جاء القرآن والسنة، قال الله سبحانه وتعالى: )ومكروا ومكر الله( (آل عمران: ٥٤)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يمل حتى تملوا»[2]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يسأم الله حتى تسأموا»[3]. ومثل هذا: الاستهزاء، والكيد، إذا أضيف إلى الله تعالى فلا يعني إلا الانتقام والعقاب والمجازاة على أعمالهم[4].
ثالثا. الله - سبحانه وتعالى - لا يعنيه أن يتفق الناس أو يختلفوا، وإنما هم وحكمهم بيده:
أما استدلال هؤلاء على قدرة الله بقوله عز وجل: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة( (النحل: ٩٣)، فليس صحيحا؛ فسبحانه يعلم أنه بقوته رضي وجود الخلاف، والملك في الدنيا يخيفه أن يختلف أتباعه؛ لأنه لا يعرف كيف يسوسهم، أما لو كانوا فريقا واحدا فتسهل قيادته لهم.
أما ربنا تبارك وتعالى، فلأنه لا يعنيه أن يتفق الناس أو يختلفوا - وإنما أمرهم وحكمهم بيده - شاء ألا يكونوا أمة واحدة، وقد عبرت الآية بـ "لو" التي تفيد الامتناع للامتناع، فامتنعت الوحدة بين الناس جميعا؛ لأنه لم يشأ.
رابعا. أمر الله بالشيء يختلف عن إذنه بحدوثه:
لو فهم هؤلاء المقصود من قوله عز وجل: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة(، لعرفوا أن الله يأمر بما يشاء، ويأذن أن يقع في ملكه ما قدره، فبهذا يبلو إيمان الناس، وقد طلب من الناس الإيمان، وكتب على الكافرين الكفر وإن لم يرضه منهم، لكن الكافرين كفروا لا رغما عن الله؛ ولكن لأن الله لم يشأ لهم الإيمان؛ لعلمه المحيط بأنهم سيستحبون العمى على الهدى.
يقول المفسرون في قوله سبحانه وتعالى: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة(، أي: جعل الناس "أمة واحدة" متفقة على الإسلام، )ولكن( لا يشاء ذلك رعاية للحكمة، بل )يضل من يشاء( إضلاله بأن يخلق فيه الضلال فيما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها، )ولتسألن( جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استعلام، )عما كنتم تعملون (93)( (النحل)، تستمرون على عمله في الدنيا، والآية ظاهرة في أن مشيئة الله تعالى لإسلام الخلق كلهم ما وقعت، وأنه سبحانه شاء منهم الافتراق والاختلاف، فإيمان وكفر، وتصديق وتكذيب، ووقع الأمر كما شاء الله عز وجل.
وذكر الزمخشري أن المعنى: لو شاء على طريقة الإلجاء[5] والقسر[6] لجعلكم أمة واحدة مسلمة، فإنه سبحانه قادر على ذلك، لكن اقتضت الحكمة أن يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه، ويهدي من يشاء بأن يلطف بمن علم أنه سيختار الإيمان، والحاصل أنه تعالى بنى الأمر على الاختيار، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان، والثواب والعقاب.
ومما يدعم ما سبق ذكره، أنه لما كلف سبحانه بني إسرائيل بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنه سبحانه بحكمته الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء[7].
خامسا. إيذاء الله ورسوله ليس كإيذاء الإنسان لغيره من بني البشر:
أما عن مسألة إيذاء الله وإيذاء الرسول، فقد ذكر عقبه أمرين: اللعن، والتعذيب، فاللعن جزاء الله؛ لأن من آذى الملك يبعده عن بابه إذا كان لا يأمر بعذابه، والتعذيب جزاء إيذاء الرسول؛ ولا يقال هذا من يؤذي الله ولا يؤذي الرسول لا يعذب؛ لأنا نقول: إن انفكاك أحدهما عن الآخر محال من هذا الوجه؛ لأن من آذى الله فقد آذى الرسول، وأما على الوجه الآخر، وهو أن من يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يؤذي الله كمن عصى من غير إشراك، وكمن فسق أو فجر من غير ارتداد وكفر، فقد آذى النبي - صلى الله عليه وسلم -، غير أن الله - سبحانه وتعالى - صبور غفور رحيم فيجزيه بالعذاب ولا يلعنه.
وأما قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يؤذون الله ورسوله( (الأحزاب: ٥٧) فالمراد بالإيذاء: إما ارتكاب ما لا يرضاه من الكفر وكبائر المعاصي، ويكون الكلام على سبيل المجاز؛ لأنه سبب أو لازم له. وقيل في إيذائه تعالى: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: "يد الله مغلولة، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فالأمر ليس كما ظن هؤلاء الزاعمون؛ أنه لو كان بالله حول وقوة لاستطاع أن يدفع الإيذاء عن نفسه، ولما قدر أحد أن يؤذيه.
كما يجوز كون الإيذاء على حقيقته، والكلام على حذف مضاف: أن يؤذي أولياء الله ورسوله. وقيل: يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى، والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم [8].
الخلاصة:
· أثبت الله - عز وجل - لنفسه من الصفات التي تليق به، فهو سيد الكون وهو على كل شيء قدير، وإليه يرجع كل ما في السماوات وما في الأرض، ومن بين هذه الصفات صفة القدرة المطلقة على كل شيء، فلا يعجزه شيء مهما كان شأنه.
· خداع المنافقين الله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ليس على سبيل الحقيقة، بل على سبيل المجاز، ومعنى يخادعون الله: يظنون أن حيلهم تنفع مع الله تعالى، بالطبع لا، فهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ لأن الله - عز وجل - لا يخدع مثل البشر.
· لا يقع شيء في الكون دون علم الله - عز وجل -، به، فهو يأمر بما يشاء، ويأذن أن يقع في ملكه ما يريد، فهو الذي كتب للمسلم الإيمان، هو الذي كتب على الكافر العصيان؛ لعلمه المسبق بعدم اتباعه سبيل الحق.
· اختلف المفسرون حول المقصود بإيذاء الله ورسوله، فمنهم من قال: ارتكاب ما حرم الله ورسوله. ومنهم من قال: إن في الآية حذفا، والأصل: يؤذون أولياء الله ورسوله ومنهم من قال: إن الإيذاء في حق الله - عز وجل - على المجاز، وفي حق رسول الله على الحقيقة، وبناء على هذه التفسيرات - وغيرها - يبطل زعم هؤلاء بنفي العصمة عن القرآن الكريم.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. أسئلة بلا أجوبة، صموئيل عبد المسيح، موقع الكلمة. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات.