توهم تناقض القرآن بشأن نفي الأمر بالفحشاء والأمر بها (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين أن هناك تناقضا بين قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)( (الأعراف)، وقوله سبحانه وتعالى: )وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها( (الإسراء: ١٦)، ويتساءلون: كيف يتفي الله عن نفسه الأمر بالفحشاء في الآية الأولى، ثم يصرح بذلك في الآية الأخرى؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الله تبارك وتعالى لا يأمر بالفاحشة ولا يرضى بها.
2) نوع الأمر في قوله سبحانه وتعالى: )أمرنا مترفيها( إما أن يكون:
· أمرا شرعيا، فيكون المعنى: أن الله أمرهم بالطاعة والخير، ففسقوا.
· أمرا كونيا، فيكون المعنى: أن الله قدر عليهم أن يفسقوا لما علم أنهم سيضلون ويطغون.
3) ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى كلمة "الأمر" في قوله سبحانه وتعالى: )أمرنا مترفيها( إما:
· أن تكون بمعنى "كثر"، أي: كثرنا مترفيها ليطيعوا ففسقوا.
· أو تكون بمعنى "جعلناهم أمراء" على قراءة (أمرنا مترفيها) - بتشديد الميم.
التفصيل:
أولا. الله - عز وجل - لا يأمر بالفاحشة ولا يرضى بها:
قيل في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)( (الأعراف)، إن المشركين في الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال منهم والنساء، فإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، حتى جاء الإسلام ورد عليهم قولهم، فقال سبحانه وتعالى: )إن الله لا يأمر بالفحشاء(، قال قتادة في الآية: "والله، ما أكره الله عبدا قط على معصيته، ولا رضيها له ولا أمر بها، ولكن رضي لكم بطاعته، ونهاكم عن معصيته"[1].
ثانيا. نوع الأمر في قوله تعالى: )أمرنا مترفيها( أمرا شرعيا أو كونيا:
إن الأمر يطلق في الشرع ويراد به الأمر الشرعي، أو الأمر الكوني، والفرق بينهما، أن الأمر الشرعي لا يكون إلا فيما يحبه سبحانه، لكنه لا يلزم أن يتحقق، فالله تعالى يأمر بتطبيق شرعه، وهو يحب ذلك، لكن الكثير من الدول لم تفعل، والأمر الكوني يكون فيما يحب وما لا يحب، ولكنه لازم الوقوع لحكمة إلهية عليا؛ فالشيطان مخلوق بأمر الله، لكن الله تعالى لا يحبه.
· فإن كان أمرا شرعيا يكون المعنى: أن الله أمرهم بطاعته وتوحيده وتصديق رسله واتباعهم بما جاءوا به، ففسقوا وخرجوا عن طاعة الله وعصوه وكذبوا رسله، فوجب عليهم الوعيد وحق عليهم العقاب، وهذا كأن نقول: أمرت فلانا فعصاني، ومنه قول القائل:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوا
فلم يستبينوا الرأي إلا ضحى الغد
o وهذا القول هو الذي يتناسب وما قبل هذه الآية، وهو قوله عز وجل: )من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء)، وهو الذي يناسب ما بعدها كذلك وهو قوله سبحانه وتعالى: )وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17)( (الإسراء)، ومن الآيات الدالة على هذا القول قوله سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا في قرية من نذيـر إلا قـال مترفوهـا إنـا بمـا أرسلتـم به كافرون (34)( (سبأ)، فاللفظ هنا عام في جميع المترفين من جميع القرى، أن الرسل أمرتهم بطاعة الله، فقالوا لهم: )إنا بما أرسلتم به كافرون (34)( (سبأ)، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم.
وبالتالي يكون الأمر في الآية ضد النهي، ويكون متعلق الأمر محذوفا لظهوره وللعلم به، والمعنى: أمرنا مترفيها بالطاعة ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. وقد حكاه ابن جرير عن ابن عباس وقاله سعيد بن جبير أيضا[2].
· وإن كان أمرا كونيا يكون المعنى - على ما ذهب إليه بعض العلماء: الأمر في قوله سبحانه وتعالى: )أمرنا مترفيها( أمر قدري كوني، والأمر القدري كقوله سبحانه وتعالى: )إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)( (يس)، وقوله سبحانه وتعالى: )أتاها أمرنا ليلا أو نهارا( (يونس: ٢٤)، كقوله سبحانـه وتعالى: )وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50)( (القمر)، وقولـه سبحانـه وتعالـى: )فقلنا لهم كونوا قـردة خاسئين (65)( (البقرة)، وعلى ذلك فإن المراد هنا: قدرنا عليهم الفسق، وسخرناهم لفعل الفواحش؛ لأن كلا ميسر لما خلق له، بمعنى: أنه سبق في علم الله أن هؤلاء المترفين - وإن هداهم الله السبيلين الخير والشر - سوف يميلون بإرادتهم نحو سلوك طريق الفسق[3].
وبهذا البيان اتضح لنا نفى التناقض بين الآيتين؛ حيث إن الأمر في هذا الموضع أمر قدري كوني، والأمر في آية الأعراف أمر شرعي ديني.
ثالثا. اختلاف المفسرين حول معنى كلمة "الأمر" في قوله سبحانه وتعالى: )أمرنا مترفيها(:
اختلفت تفسيرات العلماء لمعنى كلمة "الأمر" في هذه الآية، ومن بين هذه التفسيرات:
1. أمرنا مترفيها أي كثرنا مترفيها؛ ليطيعوا، ففسقوا ولذلك قال بعده )وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح( (الإسراء: ١٧)، وكل ذلك ترغيب في الطاعة، وترهيب من خلافها[4].
ومما يدل على أن "أمر" في اللغة تأتي بمعنى: كثر وظهر، ما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: أمر بنو فلان»[5]. ومنه حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل، وفيه قال أبو سفيان: «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر»[6] [7].
o أمرنا مترفيها - بتشديد الميم وليس بالتخفيف - بمعنى: جعلناهم أمراء، فضلوا وأضلوا قومهم، قال ابن جرير: يحتمل أن يكون معناه: جعلناهم أمراء. قلت: إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ (أمرنا مترفيها)، قال علي بن طلحة: عن ابن عباس قوله: (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) يقول: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو قوله: )وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (123)( (الأنعام)، وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، والربيع بن أنس[8].
وبهذا البيان بطل ادعاء تناقض القرآن بشأن الأمر بالفحشاء، والنهي عنها.
الخلاصة:
· إن الله لا يأمر بالفحشاء ولا يرضى بها، وقد كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: وجدنا عليها آباءنا وأمرنا الله بها، فبين الله لهم أنه لا يحب الفاحشة ولا يأمر بها.
· نوع الأمر في قوله سبحانه وتعالى: )أمرنا مترفيها( قد يكون:
o شرعيا: فيكون المعنى: أن الله أمرهم بالطاعة واتباع رسله، فأبوا وعصوا وفسقوا فحق عليهم العذاب، ومتعلق الأمر هنا محذوف للعلم به، فالله - عز وجل - لا يأمر إلا بطاعة.
o كونيا: فيكون المعنى: أن الله - عز وجل - لما علم أزلا أن مترفيها سيضلون، قدر عليهم الفسق، ففسقوا فحق عليهم العذاب.
· ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى "الأمر" قد يكون: كثرنا مترفيها، فكلمة "أمر" تستخدم بمعنى: كثر وعظم، أو: أمرنا - بتشديد الراء - أي: جعلناهم أمراء فضلوا وأضلوا قومهم ومن ثم فلا تعارض بين الآيتين.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.