اسم المقالة:
قراءات القرآن وأثرها في المعنى
المؤلف:
قراءات القرآن وأثرها في المعنى
زعم بعضهم أن
اختلاف اللهجات في القراءات يُغَيِّر المعنى ويتناقض مع ما في اللوح المحفوظ، وأن
ذلك يتناقض مع (تأكيد الله) سبحانه وتعالى على عدم
وجود اختلاف في القرآن.
وللرد على هذه الشبهة نبدأ ببيان مفهوم القراءات القرآنية:
القراءات القرآنية هي الوجوه المختلفة في قراءة القرآن الكريم، وكيفية أداء كلمات
القرآن واختلافها في الحروف، والألفاظ، والتخفيف والتشديد وغير ذلك، مع إسناد هذه
الوجوه إسنادًا متواترًا ثقة عن ثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
1.
• حدود اختلاف القراءات:
الثابت في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن على سبعة أحرف (أي
سبعة أوجه)، وهذه الأحرف السبعة ثبتت بالتواتر، وبإجماع الصحابة والتابعين
رضى الله عنهم، وقد تضمنها مصحف عثمان رضى الله عنه ولم يزيدوا فيها شيئًا ولم
يحذفوا شيئًا إلا ما لم يثبت بالتواتر، والاختلافات بين هذه الأحرف هينة يسيرة،
تختلف معانيها تارةً، وألفاظها تارة أخرى، ولكن هذه الاختلافات لا تبلغ حد التنافي
أو التعارض2.
والقراءات العشر المنقولة بالتواتر كلها حجة، وكلها مأخوذة بالتلقي مشافهة إمامًا
عن إمام وثقة عن ثقة حتى يبلغ السند إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حصر ابن الجزري أوجه الاختلاف بين القراءات فيما يلي:
1) اختلاف في اللفظ لا المعنى: كما في لفظ (الصراط)؛
حيث تُقْرأ: "الصراط" بصاد صريحة، أو "السراط"
بسين صريحة، "الزراط" بزاي خالصة، أو بين الزاي والصاد3.
2) اختلاف في اللفظ والمعنى مع جواز اجتماعهما في شيء واحد: كما في قول الله تعالى:
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(الفاتحة:
4) قرئ: مَالِك، مَلِك؛ لأن الله مالك يوم الدين ومَلِكُه، وقوله تعالى: {وَانْظُرْ
إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (البقرة: 259)
بالزاي، وقرئ: (نُنْشِرُها) بالراء، والمعنى واحد؛
لأن (ننشزها) بالزاي معناه: نرفع بعضها إلى بعض حتى
تلتئم، و(ننشرها) بالراء يعني: نُحْيِيها، فَضَمَّن
اللهُ عز وجل المعنيين في القراءتين.
3) اختلاف في اللفظ والمعنى مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء واحد، لكن يتفقان من
وجه آخر لا يقتضي التضاد، نحو قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}(إبراهيم: 46)
قرئ بكسر اللام الأولى وفتح الأخيرة (لِتزولَ)، وقرئ
بفتح الأولى وضم الأخيرة (لَتزولُ). فوجه قراءة (لِتزولَ)
أن تكون (إنْ) نافية، والمعنى: ما كان مكرهم وإن
تعاظم وتفاقم لِيَزُولَ منه أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. ووجه قراءة
(لَتَزُولُ) أن تكون (إنْ)
مُخفَّفَة من الثقيلة، والمعنى: وإنَّ مكرَهم كاملُ الشدَّة تُقْتَلَعُ بسببه
الجبال الراسيات من مواضعها.
وعلى القراءة الأولى تكون الجبال مجازًا، وعلى الثانية تكون الجبال حقيقة، ولكن هذا
الاختلاف (لفظًا ومعنى) ـ كما رأينا ـ لم يغير المعنى
تغييرًا جوهريًّا يُفْضِي إلى التناقض والتعارض؛ إذ المعنيان المذكوران يجمعهما
أنهم مكروا مكرًا شديدًا، ولكن هذا المكر لا يبلغ حد القضاء على الدين وإزالته.
وهكذا لا نجد في شيء من قراءات القرآن تناقضًا؛ ولا قراءة تنفي أخرى4.
• الحكمة في تعدد القراءات:
لما كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة؛ فقد اقتضت حكمة الله عز وجل
التخفيف والتيسير والتوسعة على الأمة؛ وذلك لأنها مؤلفة من قبائل شتى موزعة على
أرجاء جزيرة العرب، وبعضهم لا يتقن لسان قريش، وقد يَعْسُر على الواحد منهم
الانتقال من لُغَتِهِ إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر، ولو كُلِّفوا العدول عن لغتهم
لكان من التكليف بما لا يُسْتَطَاع5؛ فكان من تيسير
الله تعالى أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يُقْرِئ كل أناسٍ بلغتهم وما جرت
عليه عادتهم، فالهُذَلِيُّ يقرأ "عَتَّى حين" يريد: حَتَّى، والأَسديُّ يقرأ:
تِعلمون، وتِعْلَم (بكسر حرف المضارعة)، والتميمي
يهمز والقرشي لا يهمز6. إلى آخر هذه الاختلافات
اليسيرة التي ليس من بينها ما يؤدي إلى التناقض والتنافي.
وإذن فالقراءات المتعددة مآلها واحد؛ لأنها لا تفضي إلى التناقض، ومصدرها واحد وهو
النقل المتواتر ـ تَلَقِّيًا ومُشَافهة ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها
حكمة هي من جوهر الإسلام نفسه، وهي التيسير والتوسعة، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:
22)، وقد ذهب المشككون إلى أن اختلاف القراءات يغير المعنى بما يتناقض مع ما
في اللوح المحفوظ.
فأمَّا عن تغيير المعنى فتقدم بسطه. وأما عن تناقض القراءات مع ما في اللوح المحفوظ
فهذا أمر عجيب، ودعوى سخيفة، ومَنْ أَطْلَعَكُمْ على اللوح المحفوظ؟! وفي السُّنَّة
المطهرة من الأحاديث الصحيحة ما ينسف هذه الدعوى نسفًا، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن
عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرأني
جبريل عليه السلام على حرف واحد فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى
سبعة أحرف"7.
وإذن فالقراءات المتواترة كلها مأخوذة من مشكاة واحدة هي الأحرف السبعة التي تلقاها
النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، ونزل بها جبريل من عند الله عز وجل.
وأمَّا ما زعموه أن القراءات المتعددة تناقض (تأكيد الله)
سبحانه وتعالى على عدم وجود اختلاف في القرآن، فهم يعنون قول الله عز وجل: {أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82).
والمراد بالاختلاف في الآية الكريمة: لوجدوا الكثير منه مختلفًا متناقضًا قد تفاوت
نظمه وبلاغته ومعانيه، فكان بعضه بالغًا حَدَّ الإعجاز وبعضه قاصرًا عنه يمكن
معارضته، وبعضه إخبارًا بغيب قد صَدَّقه الواقع، وبعضه جاء مخالفًا للواقع، وبعضه
دالاًّ على معنى صحيح، وبعضه دالاًّ على معنى فاسد غير ملتئم، فلمَّا تجاوب القرآن
كلُّه بلاغةً معجزةً، فاقت قوى البلغاء، وتناصرت آياته صحة معانٍ وصدق إخبارٍ،
عُلِمَ أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عليم بما لا يعلمه أحد
سواه8.
وإذن فالاختلاف الذي نفاه الله تعالى عن القرآن هو الاضطراب والخلل والفساد. وقد
بينَّا فيما سبق أن القراءات لا تؤدي إلى شيء من هذا، بل إن جميع القراءات يُعَضِّد
بعضها بعضًا ويفسر بعضها ما أشكل في بعض، إلى غير ذلك من الفوائد التي شرحها
بالتفصيل علماء القرآن والقراءات9.
• اختلاف القراءات هل يؤدى إلى اختلاف الأحكام الشرعية؟:
من الشبهات التى أثارها المشككون حول تنوع القراءات القرآنية: ما زعموه من أن
اختلاف القراءات يعوق إصدار الأحكام التشريعية، ومن العجيب أنهم ساقوا على دعواهم
هذه ما ورد من قراءات فى قوله عز وجل: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} (القارعة:5)،
وقُرِئ: (كالصوف). وقوله عز وجل: {رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (سبأ: 19)، حيث
قُرئت كلمة (باعد) بصيغة الخطاب (باعِدْ)
وقرئت بصيغة الماضى (باعَدَ)! وقالوا: إنه يصعب على الإنسان أن يصدر حكمًا صحيحًا
لعدم تأكُّده إلى أى قراءة يستند!.
وقد بسطنا القول بالتفصيل فى القراءات، وأنه لا موجب لعدم التأكُّد، بل كل القراءات
المتواترة (القراءات العشر) صحيحة، وكلها من عند
الله، فبأىٍّ منها قُرِئ كان ذلك مرجعًا صحيحًا لاستقاء الأحكام، كما بينَّا أن
اختلاف القراءات لا يصل إلى حدِّ التعارض أو التناقص .
أمَّا عن الآية رقم (5) من سورة القارعة فقد قرأ ابن مسعود:
(وتكون الجبال كالصوف المنفوش) بدلاً من (كالعهن)
وهى قراءة شاذة؛ لمخالفتها رسم المصحف10.
ومع ذلك فإنه لاتعارض ولا تنافى بين القراءة المشهورة (كالعهن)
والقراءة الشاذة (كالصوف)؛ لأن العهن بإجماع المفسرين
هو الصوف ذو الألوان المختلفة11.
وأمَّا قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا} بصيغة الدعاء فهى القراءة المشهورة، وقرأ يعقوب برفع الباء من
(ربُّنا)، وبصيغة لماضى (باعَدَ)12،
والمعنى على قراءة جمهور السبعة (بصيغة الطلب): أنُهم
طلبوا وتمنَّوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها . وعلى
قراءة يعقوب (بصيغة الماضى):أنهم يشتكون ممَّا حلَّ
بهم من بُعْدِ الأسفار13 .
وعلى الرغم من وجود اختلاف فى المعنى على القراءتين المذكورتين، فإنه اختلاف لا يصل
إلى حد التناقص؛ إذ إن القراءتين تجتمعان فى وصف هؤلاء القوم بالتنعم والرفاهية،
فلمَّا كانوا منعَّمين مترفين بطروا النعمة وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتعب (هذا
على القراءة بصيغة الطلب).
ولأنهم مترفون منعَّمون فقد رأوا هذه الأسفار بعيدة، مع أنهم كانوا آمنين من الخوف
والجوع والعطش وغير ذلك، فلِفَرْط تنعُّمهم رأوا هذه الأسفار شاقةً واشتكوا ربَّهم
فقالوا ربُّنا باعَدَ) 14.
كما أنه ليس فى الآية حكم شرعى حتى يقال إن تعدد القراءات يؤدِّى إلى تعدُّد
الأحكام.
*******************************
(1) انظر: البرهان 1 / 318، مناهل العرفان
1 / 412.
(2) البرهان 1 / 223
ـ 224.
(3) انظر أوجه قراءة الكلمة في: الكشاف 1/ 68، البحر
المحيط 1/ 25.
(4) مناهل العرفان، الزرقاني 1 / 185 ـ 187.
(5) النشر فى القراءت العشر 1/22، تاريخ القرآن، د.
عبد الصبور شاهين، ص42.
(6) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، ص 35.
(7) البخاري، جـ6، ص 100،
مسلم جـ2، ص 202.
(8) الكشاف 1 / 546 ـ 547.
(9) راجع: النشر 1 / 22، مناهل العرفان
1 / 142 ـ 149، القراءات وأثرها في علوم العربية، د. محمد سالم محيسن،
1 / 37 ـ 93.
(10) النشر 2 / 335 .
(11) انظر تفسير الآية في: تفسير الطبرى، الكشاف، الفخر الرازى، القرطبى، البحر
المحيط، روح المعاني، التحرير والتنوير.
(12) النشر 2/350.
(13) البحر المحيط 7/272 ـ 273.
(14) انظر: الكشاف 3/286 .
|