اسم المقالة:
بين القرآن.. والشعر، والكهانة، والذوق البلاغي
المؤلف:
بين القرآن.. والشعر، والكهانة، والذوق البلاغي
زعموا أن القرآن
الكريم مضطرب في أفكاره، مشتت في موضوعاته وأخباره؛ لاهتمامه بموسيقى الكلام على
حساب المعنى المراد، وهو لذلك مليء بالتشبيهات، والعبارات الخلابة التي تجعله
قريبًا من الشعر وأسلوب الكهانة، ويحتوي على كثير من الأبيات الشعرية، وهذه خصائص
لا تناسب الذوق الغربي، مما يبطل القول بأن هذا القرآن كتاب للناس كافة، وإن كان
معجزًا ـ كما يقول المسلمون ـ ففي نظمه فقط.
هذه الشبهة بها عدَّة جوانب لابُدَّ من إظهارها:
فالجانب الأول: الحديث عن موضوعات القرآن وطريقة
القرآن في نظمها.
والجانب الثاني: بيان سرِّ جمال النظم لهذه الموضوعات
من حيث الأداء اللفظي وما يصاحبه من إيقاع موسيقى.
والجانب الثالث: وفيه توضيح أن هذا القرآن بموضوعاته
وأفكاره ونظمه وأسراره يناسب كل الأذواق العربية والأعجمية، وهذا وجه من وجوه
الإعجاز.
أما الجانب الأخير: فهو بيان أن القرآن معجزٌ في كافة الاتجاهات.
1) الجانب الأول: الحديث عن موضوعات القرآن وطريقته
في نظمها وترتيبها:
إن الكلام في الشأن الواحد إذا ساء نَظْمه انحلَّت وحدة معناه فتفرّق من أجزائها ما
كان مجتمعًا، وانفصل ما كان متصلاً، كما تتبدد الصورة الواحدة على المرآة إذا لم
يكن سطحها مستويًا، أليس الكلام هو مرآة المعنى؟ فلا بُدَّ إذن لإبراز تلك الوحدة
الطبيعية "المعنويَّة" من إحكام هذه الوحدة الفنية
"البيانية" حتى تتماسك وتتعانق أشدَّ التماسك والتعانق.
ليس ذلك بالأمر الهيِّن كما قد يظنه الجاهل بهذه الصناعة، بل هو مطلب كبير يحتاج
إلى مهارة وحذق، ولطف في اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء: أيّها أحق أن يُجْعل
أصلاً أو تكميلاً؟ وأيُّها أحقُّ أن يُبدَأ به أو يُختتم بالإسناد أو بالتعليق، أو
بالعطف، أو بغيرها؟ هذا كله بعد التلطف في اختيار الأجزاء أنفسها، والاطمئنان على
صلة كلٍّ منها بروح المعنى وأنها نقيّة من الحشو، قليلة الاستطراد، وأن أطرافها
وأوساطها تستوي في مراميها إلى الغرض، ويستوي هو في استهدافه لها، كما تستوي أبعاد
نقط الدائرة بالقياس إلى المركز ويستوي هو بالقياس إلى كل منها.
تلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالاً طبيعيًّا، فما ظنك
بالمعاني المختلفة في جوهرها، المنفصلة بطبيعتها؟ كم من المهارة والحذق، بل كم من
الاقتدار السحري يتطلبه التأليف بين أمزجتها الغريبة واتجاهاتها المتشعِّبة، حتى لا
يكون الجمع بينها في الحديث كالجمع بين القلم والحذاء والمنشار والماء، بل حتى يكون
لها اتجاه واحد، وحتى يُكَوَّن عن وحدتها الصغرى وحدة جامعة أخرى.
إنه من أجل عِزَّة هذا المطلب نرى البلغاء وإن أحسنوا وأجادوا إلى حدٍّ ما في
أغراضهم، كان منهم الخطأ والإساءة في نظم تلك الأغراض كُلاًّ أو جُلاًّ، فالشعراء
حينما يجيئون في القصيدة الواحدة بمعان عِدَّة أكثر ما يجيئون بها أشتاتًا لا يلوى
بعضها على بعض، وقليلاً ما يهتدون إلى حُسْن التَّخلص من غرض إلى غرض، كما في
الانتقال من الغزل إلى المدح، والكُتَّاب ربما استعانوا على سد تلك الثغرات
باستعمال أدوات التنبيه أو الحديث عن النفس، كقولهم: ألا وإن هذا ولكن.. بقى
علينا.. ولننتقل.. نعود.. قلنا... وسنقول.. إلخ.
هذا شأن الأغراض المختلفة إذا تناولها الكلام الواحد في المجلس الواحد، فكيف لو قد
جيء بها في ظروف مختلفة وأزمان متطاولة؟ ألا تكون الصلة فيه أشد انقطاعًا، والهوَّة
بينها أعظم اتساعًا؟!
فِإن أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه، حيث الموضوع واحد
بطبيعته، فهلمَّ إلى النظر في السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة، لترى
من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز.
ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطالة والتزام جانب
الإيجاز ـ بقدر ما يتَّسع به جمال اللغة ـ قد يجعله هو أكثر الكلام افتنانًا، نعني
أكثره تناولاً لشئون القول وأسرعه تنقلاً بينها، من وصف إلى قصص، إلى تشريع، إلى
جدل، إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه
تنطوي تحته شئون وشئون.
أو لست تعلم أن القرآن ـ في ُجلِّ أمره ـ ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة
واحدة، بل كان ينزل بها آحادًا متفرقة على حسب الوقائع والدَّواعي المتجددة؟! وأن
هذا الانفصال الزماني بينها، والاختلاف الذاتي بين دواعيها، كان بطبيعته مستتبعًا
لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يَدَع بينها منزعًا
للتواصل والترابط؟
ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا
أُرِيدَ نظمُ طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة؟
خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحدُّث بها في أوقات مختلفة،
وتناولت أغراضًا متباينة، أو خذ مِنْ كلام مَنْ شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك،
وحاول أن تجيء بها سردًا لتجعل منها حديثًا واحدًا، من غير أن تزيد بينها شيئًا أو
تَنْقُص منها شيئًا، ثم انظر كيف تتناكر معانيها وتتنافر مبانيها في الأسماع
والأفهام، وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول
الواحد المسترسل؟
وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكًا ووحدتها تمزيقًا، ذلك هو الطريقة
التي اتُّبعت في ضم متفرِّقات القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك
ال متفرِّقات، وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت
بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني.
إن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه الذِّكر لم يتربص بترتيب متفرِّقاته حتى
كملت نزولاً، بل لم يتربص بتأليف سورة واحدة منه حتى تمَّت فصولاً، بل كان كلما
ألقيت له آية أو آيات أمر بوضعها من فوره في مكان مرتب من سورة معينة، على حين أن
لهذه الآيات والسور في ورودها التنزيلي سببها الذي اتبعته في وضعها الترتيبي؛ فكم
من سورة نزلت جميعًا أو أشتاتًا في الفترات بين النجوم من سورة أخرى؟ وكم من آية في
السورة الواحدة تقدمت فيها نزولاً وتأخرت ترتيبًا؟ وكم من آية على عكس ذلك؟
نعم، لقد كان للنجوم القرآنية في تنزيلها وترتيبها ظاهرتان مختلفتان، وسبيلان
قَلَّما يلتقيان، ولقد خلص لنا من بين اختلافهما أكبر العبر في أمر هذا النظم
القرآني:
فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنزيلها، ونظرت إلى ما مهّد لها من أسبابها، فرأيت
كل نجم رهينًا بنزول حاجة مُلِحَّة، أو حدوث سبب عام أو خاص، إذن لرأيت في كل واحدٍ
منها ذكرًا محدثًا لوقته، وقولاً مرتجلاً عند باعثته، لم يتقدم للنفس شعور به قبل
حدوث سببه، ولرأيت فيه كذلك كُلاًّ قائمًا بنفسه لا يترسم نظامًا معينًا يجمعه
وغيرَه في نسق واحد.
ثم إذا نظرت في الوقت نفسه إلى ترابط كُلِّ نجم بما قبله وما بعده في نظام دقيق
لوجدت أن هنالك خطة تفصيلية شاملة قد رُسمت فيها مواقع النجوم كلها قبل نزولها، بل
من قبل أن تُخْلَق أسبابها، وأن هذه الخطة كانت محكمة لا تنفصم عراها(1).
2) الجانب الثاني: الحديث عن سر النظام الإيقاعي في
لغة القرآن، هذا النظام الذي رَقَّتْ له القلوب وذرفت له العيون، وما رقت القلوب
ولا ذرفت العيون قَبْلُ لقول أحدٍ من العالمين كما ذرفت ورقت لكلام رب العالمين،
ونُجْمِل هذا الجانب في النقاط الآتية:
• إن نزول القرآن متفرِّقًا كان مَدْعَاةً لاختلاف نظامه الإيقاعي كما بيَّنا في
الجانب الأول؛ حيث إنه نزل منجَّمًا على ثلاث وعشرين سنة، ورغم ذلك لم يحدث،
فالسورة على كثرة نجومها وطولها لا يبدو عليها انفصال في النظم، فما ظنك بما دونها
من سور المفصل حيث جرى التنجيم في بعض القصار منها، كالضحى والماعون التي نزلت كل
واحدة منها مفرقة على مرتين.
• إن بيان إعجاز القرآن أمرٌ جسيمٌ أرهق العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا،
فجفَّت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال واعترفوا بأن ما خفي
عليهم منه أكثر مما فطنوا إليه، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به
عباراتهم ولم تَفِ به إشاراتهم، ونحن إذ نسير على درب علمائنا، لا نزعم أننا سنبين
كل ما بينوه في هذه العُجالة السريعة، ولكن سنأخذ منها طرفًا، أخذًا بقول الشاعر:
إِذَا حَاجةٌ
وَلَّتْكَ لا تَسْتَطِيعُها *** فَخُذ طَرَفاً مِن
غَيرِها حينَ تُسبَقُ
• إن أول ما نجده
في إعجاز القرآن تأليفه الصوتي الذي تطرب له الآذان، فلا تسمع فيه جرس الحروف،
وإنما تسمع حركاتها وسكناتها،ومَدَّاتها وغُنَّاتها، واتصالاتها وسكتاتها، في نظام
مؤتلف متَّسق يسترعي مِنْ سَمْعِك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام
الموسيقى ولا بأوزان الشعر، فالشعر يُقَسَّم أبياتًا وأشطارًا، وتتكرر بحوره في نغم
متصل متكرر، والقطعة الموسيقية تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبًا متقاربًا، لا يلبث
السمع أن يَمَجَّها، والطبع أن يَمَلَّها، أما القرآن فهو لحنٌ متنوع متجدِّد، لا
تصيب النَّفْسَ منه ـ على كثرة ترداده ـ ملالةٌ ولا سأم، بل كلما كثر تَرْداده كثرت
عذوبته على النفس.
• ثم إذا ما انتقلنا من الحديث العام عن موسيقى القرآن واقتربنا قليلاً من حروفه
نجد عجبًا، نجد لذَّة في رصف الحروف وترتيب أوضاعها فيما بينها، فهذا الحرف يُنْقر
وذاك يُصْفَرْ، وثالث يُهْمس ورابع يُجْهَر، وآخر يَنْزلق عليه النَّفَس وآخر
يَنْحبس عنده النَّفس. وهلمَّ جرَّا، فترى الجمال اللغوي ماثلاً أمامك في مجموعة
مختلفة مؤتلفة، لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر،
فلا هو بالكلام الحضريِّ الفاتر ولا بالبدويِّ الخشن، بل نراه وقد امتزجت فيه جزالة
البادية وفخامتها بِرِقَّة الحاضرة وسلاستها.
3) الجانب الثالث: ويتضَمَّن النقاط الآتية:
• إن هذا النظم العجيب، يَسّره الله للذكر، ليقرأ العربي والعجمي فلا تملُّه
الأذواق، ولا تَمجُّه الأسماع، وكلٌّ يتلذذ بالقرآن وبعض من يتلذذ يبحث عن سرِّ لذة
ذلك الكلام العجيب، وما زال البحث مستمرًّا لتنكشف لنا حقائق ما كنَّا نعلمها قبل
ذلك.
• إن من عجيب نظم القرآن أن العجمي الذي لا يعرف العربية تراه يقرأ القرآن بصوت عذب
ثم لا يستطيع أن يتكلم بَعْدُ اللغة العربية، مما يجعلنا نقف مسلِّمين أمام ربِّ
العالمين الذي أنطق العجمي وجعله يقرأ القرآن بلسان عربي مبين وهو للغة العربية لا
يَكَادُ يُبين.
• أبعد ذكرنا لطرف من سرِّ جمال النظم القرآني يُدَّعى أن القرآن لا يُناسب أذواق
الغرب، فمن يدَّعي هذا فليأتنا بأذواق الغرب لنضعها أمام القرآن، وسيرى أن الذوق
البشري بفطرته النقيَّة سيتلذذ بالقرآن ويستمتع به.
4) الجانب الأخير: الزعم بأنه لا إعجاز في القرآن،
وهو زعمٌ باطل من عدة وجوه، منها:
• أن القرآن جاء بجوانب إعجازيَّة بهرت الناس كافة، منذ نزوله وحتى لحظة كتابة هذه
السطور، وما زالت تنكشف لنا حقائق قد ذكرها القرآن، وما زالت تتبدَّى لنا أمور قد
بيَّنها القرآن.
• إن كثيرًا من البشر الذين ينشدون الْمُثُل العُلْيا في علمهم وعملهم،وضعوا نظريات
أخلاقية وعلمية، منها ما هو صالح ومنها غير ذلك، وهم في اضطراب دائم بحكم عملهم
البشري، غير أن الناجح من أعمالهم والذي يتفق على صحته العلماء ويُشِيدون به
ويذكرونه على أنه آخر صيحات العلم الحديث، يُفاجَأون بأن القرآن قد ذكره منذ قرون
عديدة، وعندما يرون آيات الله الباهرة في قرآنه المعجز ينقسمون فريقين: فريق يُؤمن
بالله ربِّ العالمين، وآخر يعرف نعمة الله ثم يُنْكرها وأكثر هؤلاء جاحدون كافرون.
• ويكفي لإثبات الإعجاز القرآني ـ بالإضافة إلى ما تقدَّم ـ أن نسوق عليه مثالاً في
مجال الطب؛ فقد كان الأطباء يقولون: إن مراكز الإحساس في المخ، ولكنهم توصلوا ـ
أخيرًا ـ إلى أن مراكز الإحساس في الجلد، وقد ذكر القرآن ذلك قبل أربعة عشر قرنًا
في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا
سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} (النساء:
56) " 1 .
وغير ذلك الكثير والكثير مما أُفْرِدت له المجلدات في الإعجاز الطبي والعلمي
واللغوي، وغير ذلك من وجوه إعجاز القرآن العظيم.
*****************************
(1) النبأ العظيم، د. محمد عبد الله دراز، ص157 ـ 158.
|