مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن


إنكار وجود الخالق  عز وجل(*)

مضمون الشبهة:

ينكر مجموعة الملاحدة والطبائعيين والماديين وجود الله الخالق, وقالوا: ليس هناك إله معبود ولا رب خالق, وإنما وُجدت الأشياء هكذا بطبعها, وأن العالم وُجد بمحض الصدفة, وليست له غاية مقصودة, ولا حكمة منشودة من وجوده, ويتفقون على نفي الحكمة والقصد, ونفي الخالق. زاعمين أنه لا توجد أدلة علمية ومادية على وجود هذا الخالق, وأبسط دليل على ذلك عدم إمكانية رؤيته أو إدراكه، كما أن القول بخلق الوجود من عدم من الأمور غير المسلَّمة, وإنما العالم والمادة أزليا الوجود, غير حادثَيْن من عدم، وأخيرًا فإن المنهج التجريبي ووسائل العلم الحديث لا يستطيعان بحال من الأحوال إثبات وجود الخالق أو الدلالة عليه.

ويرمون من وراء ذلك إلى نفي وجود خالق حكيم لهذا الكون, ونفي القصد والحكمة من الخلق, وإبطال الشرائع السماوية, وإنكار الأديان والتحرر منها.

وجها إبطال الشبهة:

1) وجود الله الخالق عز وجل يُعد من البديهيات التي اتفق جميع العقلاء على ثبوتها, فهو أمر فُطرت النفس البريئة عليه, واهتدى العقل السليم بنور الوحي إليه, إن إنكار وجود الخالق هو الزعم الذي لا دليل يسانده, ولا حجة توافقه. وأما الأدلة على وجود الخالق فكثيرة ومتنوعة, ومنها كثير من الأدلة العلمية والمادية التي تثبت وجود الخالق يقينًا؛ إذ إن الكون كله دليل مادي واضح على وجود خالق حكيم مدبر, خلق كل شيء فقدره تقديرًا, وأحسن كل شيء خلقه، فالكون بكل ما فيه آية ناطقة بوجود الخالق وإتقانه وحكمته, ومن هذه الأدلة المادية على وجود الخالق:

·  أدلة علم الفلك والآفاق.

·  أدلة علم الأنفس وخلق الإنسان.

·  أدلة علم الأحياء.

·  دليل حدوث المادة.

كل هذه آيات تثبت وجود الخالق وتدل عليه؛ إذ لا يمكن لهذا الخلق العجيب المحكم أن يكون نتاج العبث أو الصدفة, أو من صنع مادة عمياء, بل لا بد من إرادة حكيمة قادرة أنتجت هذا العالم على هذا النحو من الإتقان والدقة, إنه الله الخالق تبارك وتعالى, الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم.

2) تختلف مناهج البحث العلمي وفق موضوع البحث, وطبيعة القضية المدروسة, ولا يصح الوقوف بمعارف الإنسان وإدراكاته عند المنهج التجريبي, الذي يقف عند حواس الإنسان ولا يتعداها, فإن صح استخدام المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية التي تعتمد على التجربة والمشاهدة والحس, فلا يصح بحال أن يكون منهجًا في دراسة ما وراء الطبيعة, والعالم الغيبي, فهناك المعارف الحسية وكذلك المعارف العقلية المجردة التي ليس للحواس دور فيها, وإنما العقل وحده هو المدرك لها.

فالمنهج المتبع في التعرف على عالم الغيب, والتعرف على الخالق عز وجل هو ذلك المنهج الذي يربط بين معارف الإنسان الحسية والعقلية على السواء ليتعرف على المخلوقات والعالم جيدًا, ويربط العلاقات ببعضها والأسباب بمسبباتها, ويدرك الحكمة والقصد؛ حتى يتيقن من وجود الخالق الحكيم, ثم يهتدي لهذا الخالق بنور الوحي الذي أنزله الله عز وجل على أنبيائه ورسله, فيهدون الناس بالحق والبرهان للخالق الحكيم, ويتعرفون على ذاته وصفاته, ويعبدونه حق عبادته.

التفصيل:

أولاً. الأدلة المادية والعلمية على وجود الخالق عز وجل:

إن الموقف الإلحادي القائم على إنكار وجود الخالق المبدع عز وجل, وإطلاق ذلك العالم للصدفة أو الطبيعة- هو ذلك الأمر الذي يحتاج إلى دليل علمي واضح على إثباته وليس العكس, فظل راسخًا في نفوس العالمين من لدن آدم عليه السلام أن لهذا الكون خالقًا حكيمًا مدبرًا, يجري ناموس الخلق كله وفق إرادته وتقديره, وهو القادر على الإيجاد والإفناء, وتقدير ما يشاء، ولقد ظل هذا الأمر ثابتًا في حياة البشر, وهو الأصل في حياتهم؛ إنه الإيمان بوجود خالق لهذا الكون.

إن التدين والإيمان بالله الخالق أمر فطري في طبيعة البشر, والإحساس بأن هناك قوة عليا تسيطر على الكون, وتهيمن عليه إنما هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان, وقد ملأ هذا الشعور نفس الإنسان منذ أن وُجد على ظهر هذه الأرض, فحينًا تخيل أن هذه القوة كامنة في صورة الشمس التي تنعم على الوجود بالحياة والدفء فعبد الشمس واتخذها له إلهًا, وأحيانًا أخرى تخيل هذه الصورة في النار التي تطغى فلا يقف في سبيلها كائن من كان, فعبد النار واتخذها إلـهًا, ومرة ثالثة تخيل هذه القوة في الثعبان, والبقرة, والأصنام, فعبدها على مر الدهور واتخذها إلـهًا.

والنتيجة الأخيرة لكل هذا على تتابع الأيام ومرور الزمن هي أن الإنسان كان يحس دائمًا بعجزه, وأن هناك قوة ما تسيطر عليه, وتقدر له أموره, بيد أنه كان قد شطح في تصوير حقيقة هذه القوة فيزيغ عن سواء السبيل وينحرف عن طريق الهدى, حتى يرسل الله رسولاً يأخذ بيده إلى جادة الطريق ومنبع النور ومالك الملك([i]).

أما الموقف الإلحادي على مر العصور فظل موقفًا شاذًّا لا قياس عليه, قالت به قلة في كل مجتمع من شُذّاذ العقول, وهم الصوت الشاذ في الحضارة الإنسانية على امتداد تاريخها, لندرتهم وقلة عددهم؛ ولذلك فإن تاريخ الحضارات في كل أمة يحتفظ بأسماء هؤلاء لقلتهم, فيذكر اسمه ويصفه بأنه دهري أو طبيعي أو وثني, أما المتألهون من المفكرين فلا يدخلون تحت الحصر؛ لأنهم الجمهور الأعظم في كل أمة.

ومن اللافت للنظر أيضًا أننا لم نجد في تاريخ الرسل من دعا قومه إلى الإيمان بوجود الخالق, وإنما كانت دعوة جميع الرسل هي إخلاص العبادة لله وحده, ذلك أن منكري وجود الخالق كانوا قلة لا أثر لهم, ومن هنا لم يعبأ بهم التاريخ, وإنما كانت قضية الرسل الأولى: رفع الشرك في العبودية بحيث لا يُعبد إلا الله وحده, واكتفى القرآن الكريم في رده على منكري الخالق بعبارات موجزة لكنها جامعة, فقال لهم: )هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11)((لقمان)، وقوله: )أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون(36)((الطور)([ii]).

ظل الأمر على هذا النحو حتى طل العصر الحديث بفكره المادي, والتطور العلمي, وابتكر الإنسان المنهج التجريبي والآلة البحثية المتقدمة, وارتبط تفكير الإنسان بالمحسوسات والحقائق المشاهدة المجربة, ووقف العقل البشري عند حدود المادة ولم يجاوزها, ليجعلها مخلوقة في ذاتها دون تدخل, أو موجودة بمحض الصدفة دون صانع, وأن العالم أزلي, بم يخلق من عدم, ولم يوجده أحد على نحو قيامه, فلا خالق حكيم, ولا حكمة من الخالق, وما دام أن هذا الخالق لا ندركه بالحواس أو بالتجربة فلا وجود له, وهنا أخذ الفكر الإلحادي في الانتشار وسيطر على عقول البشر, لدرجة أنه أصبح الموقف الثابت الذي لا يبرهن عليه, فصار الإلحاد من الناحية العلمية والعقلية هو الموقف الطبيعي الذي لا يحتاج إلى دليل ولا برهان, وصار المؤمن الموحد هو المطالب بمثل هذا الدليل.

والحقيقة أن الأدلة على وجود الخالق كثيرة ومتنوعة, وتدل عليه دلالة واضحة, وسنركز الحديث هنا على الأدلة العلمية والمادية التي تثبت وجود الخالق؛ نظرًا لأن شبهة الملاحدة قائمة على هذا الدليل, وإنكار إثباته لوجود خالق حكيم مدبر, ونرد على شبهتهم من وجود الخلق في ذاته أو بالصدفة.

إن الكون كله من حولنا بما فيه من مخلوقات ودواب وأحياء ليدل بوضوح على الخالق الحكيم المبدع, وإن التعرف على هذا الكون وما فيه من إبداع وإحكام ليهدي إلى الإقرار بوجود الخالق وقدرته العظيمة, بل إن مجرد نظرة الإنسان إلى نفسه تكفي لكي يدرك وجود الله تعالى.

"إن أكبر دليل على وجود الإله هو مخلوقه, هذا الذي نجده أمامنا, وأوثق ما علمنا من حقائق الطبيعة يدعونا إلى الإيمان بأنه لا ريب أن لهذه الدنيا إلـهًا واحدًا، ونحن لا نستطيع أن نفهم أنفسنا- بل الكون كله- أو نفسرها مجردين من الإيمان بوجود الإله.

إن وجود الكون, والنظام العجيب الذي اشتمل عليه, وأسراره الدقيقة, لا يمكن تفسير ذلك كله إلا بأنه قد خلقته قوة، وأن هذه القوة عقل لا حدود له, وأنها ليست بقوة عمياء"([iii]).

1. أدلة علم الفلك والآفاق على وجود الخالق:

يتعلق علم الفلك بدراسة الأجرام السماوية, والمجموعات الشمسية والأفلاك والمجرات, وهو الفضاء من كواكب ونجوم وظواهر جوية, ومؤثرات ذلك كله على عالمنا الصغير الذي يعيش فيه, ويستخدم الفلكيون في سبيل ذلك عددًا من الأجهزة الدقيقة والمناظير الضخمة, وهم يطلعون في دراساتهم على أعاجيب الخلق الفسيح، وهناك العديد من الأشياء التي لا يرونها ومع ذلك يجزمون بوجودها؛ ولذلك فهم أقرب الناس إلى الإيمان بالخالق.

الكشوف الفلكية:

يدلنا علم الفلك على أن عدد نجوم السماء مثل عدد ذرات الرمال الموجودة على سواحل البحار في الدنيا كلها, منها ما هو أكبر بقليل من الأرض, ولكن أكثرها كبير جدًّا, حتى يمكن أن نضع في واحد منها ملايين النجوم, في مثل حجم الأرض التي نعيش عليها, ولسوف يبقى فيه مع ذلك مكان خال!

إن كوننا هذا فسيح جدًّا، ولكي نفهمه نتصور طائئئرة خيالية تسير بسرعة 186,000 ميلاً في الثانية الواحدة, وأن هذه الطائرة الخيالية تطوف بنا حول الكون الموجود الآن، إن هذه الرحلة الخيالية سوف تستغرق 1,000,000,000 سنة, يضاف إلى ذلك أن هذا الكون ليس بمتجمد, وإنما هو يتسع كل لحظة, حتى إنه بعد 1,300,000,000 سنة تصير هذه المسافات الكونية ضعفين! وهكذا لن تستطيع هذه الطائرة الخارقة في سرعتها الخيالية أن تكمل دورانها حول هذا الكون أبدًا, وإنما سوف تظل تواصل رحلتها في نطاق هذا التوسع الدائم في الكون.

عندما تكون السماء صافية نستطيع أن نرى بالعين المجردة خمسة آلاف من النجوم, ولكن هذا العدد يتضاعف إلى أكثر من 2,000,000 من النجوم حين نستعمل تلسكوبًا عاديًّا، وأقوى تلسكوب في العالم هو الذي يوجد في مرصد ماؤنت بالومار في الولايات المتحدة الأمريكية, ويستطيع أن يشاهد بلايين من النجوم.

إن الفضاء الكوني فسيح جدًّا, تتحرك فيه كواكب لا حصر لها, بسرعة خارقة, بعضها يواصل رحلته وحده, ومنها أزواج تسير مثنى مثنى, ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات, ولو أنك لاحظت ضوء الشمس الذي يدخل غرفتك من الشباك, فترى أن هناك ذرات كثيرة من الغبار تتحرك وتسير في الهواء, فلو استطعت أن تتخيل هذا في شكل أعظم لأمكنك أن تحظى من الفهم بشيء عن السيارات والكواكب في الكون, مع الفرق الهائل المتمثل في أن ذرات الغبار تتحرك, ويتصادم بعضها مع بعض, ولكن الكواكب مع كثرتها يواصل كل واحد منها سفره على بعد عظيم يفصله عن الكواكب الأخرى، ومثلها مثل بواخر عديدة تمشي على أعالي البحار متباعدة, حتى إن إحداها لا تعرف شيئًا عن الأخرى, إن هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم, تُسمى "مجاميع النجوم" وكلها تتحرك دائمًا.

وأقرب حركة منا هي حركة القمر التي تبعد عنا 240,000 ميلاً, وهو يدور حول الأرض, ويكمل دورته في مدة تسعة وعشرين يومًا ونصف يوم، وكذلك تبعد أرضنا هذه عن الشمس 93,000,000 ميلاً, وهي تدور في محورها بسرعة ألف ميل في الساعة, في دائرة 190,000,000 ميلاً, وتستكمل هذه الدائرة مرة واحدة في سنة كاملة, وكذلك توجد تسعة كواكب مع الأرض, وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة, وأبعد هذه الكواكب السيارة بلوتو الذي يدور في دائرة 7,500,000,000 ميلاً حول الشمس.

وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمرًا أخرى, وتوجد غير هذه الكواكب حلقة من ثلاثين ألفًا من النجيمات، وآلاف من النجوم ذوات الأذناب، وشهب لا حصر لها، وكلها تدور, وفي وسطها ذلك السيار العملاق الذي نسميه "الشمس", وقطرها 865,000 ميلاً، وهي أكبر من الأرض 1,200,000 مرة !

ثم إن هذه الشمس ليست بثابتة, أو واقفة في مكان ما, وإنما هي بدورها, مع كل هذه السيارات والنجيمات, وتدور في هذا النظام الرائع, بسرعة 600,000 ميلاً في الساعة...

وهناك آلاف من الأنظمة, غير هذا النظام الشمسي, يتكون منها ذلكم النظام الذي نسميه "مجاميع النجوم", أو المجرات, وكأنها جميعًا طبق عظيم تدور عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة, كما يدور الخذروف الذي يلعب به الأطفال، ومجرات النجوم هذه تتحرك بدورها أيضًا, والمجرة التي يقع فيها نظامنا الشمسي تدور على محورها بحيث تكمل دورة واحدة في 200,000,000 سنة ضوئية.

ويقدر علماء الفلك أن هذا الكون يتألف من خمس مئة مليون من مجاميع النجوم؛ مضروبًا هذا العدد في 500,000,000,000,000 من الملايين, وفي كل مجموعة منها يوجد مئة مليار من النجوم, أو أكثر أو أقل, ويقدرون أن أقرب مجموعة من النجوم, وهي التي نراها في الليل كخيوط بيضاء دقيقة تضم حيـزًا مداه مئة ألف سنة ضوئية، ونحن- سكان الأرض- نبعد عن مركز هذه المجموعة بمقدار ثلاثين ألف سنة ضوئية, وهذه المجموعة جزء من مجموعة كبيرة تتألف من سبع عشرة مجموعة, وقطر هذه المجموعة الكبيرة- ذات السبع عشرة- مليونان من السنين الضوئية.

ومع هذا الدوران تجري حركة أخرى, وهي أن هذا الكون يتسع من كل جوانبه, كالبالون المتخذ من المطاط, حين ينفخ فيه الأطفال, وشمسنا هذه- وهي تدور حول نفسها- تدور بنا أيضًا على الحاشية الخارجية للمجرة, وهي تتباعد عن هذه الحاشية الخارجية بمقدار اثني عشر ميلاً, كل ثانية, كما تتبعها في هذه العملية جميع النجوم الداخلة في النظام الشمسي, وهكذا جميع السيارات تسير إلى جانب أو آخر, مع دورانها الخاص طبقًا لنظامها, فمنها ما يسير بسرعة ثمانية أميال في الثانية, ومنها ما يسير بسرعة ثلاثة وثلاثين ميلاً في الثانية, ومنها ما يسير بسرعة أربعة وثمانين ميلاً في الثانية، وجميع النجوم- على هذا النحو- تبتعد في كل ثانية, بسرعة فائقة عن مكانها، هذه الحركة المدهشة تحدث طبقًا لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض, ولا يحدث اختلاف في سرعتها.

إن حركة الأرض حول الشمس منضبطة تمام الانضباط؛ بحيث لا يمكن أن يحدث أدنى تغير في سرعة دورانها, حتى بعد مرور قرن من الزمان, وهذا القمر الذي يتبع في حركته الأرض يدور في فلك مقرر ومنضبط, مع تفاوت يسير جدًّا, يتكرر بعد كل ثمانية عشر عامًا ونصف عام, بدقة فائقة, وتلك هي حال جميع الأجرام السماوية, ويرى علماء الفلك أن مجرات النجوم يتداخل بعضها في بعض, فتدخل مجرة تشتمل على بلايين من السيارات المتحركة في مجرة أخرى مثلها (وتتحرك سياراتها هي الأخرى), ثم تخرج منها بسياراتها جميعًا, دون أن يحدث أي تصادم بين سيارات المجرتين.

إن العقل حين ينظر إلى هذا النظام العجيب, والتنظيم الدقيق الغريب لا يلبث أن يحكم باستحالة أن يكون هذا كله قائمًا بنفسه, بل إن هنالك طاقة غير عادية هي التي تقيم هذا النظام العظيم, وتهيمن عليه([iv]).

لقد سأل الناس يومًا الفلكي الشهير العلامة نيوتن أن يأتيهم بدليل على وجود الله يكون في درجة المحسوسات, فقال لهم: لا تشكوا في الخالق؛ فإنه مما لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قائدة الوجود؛ لأن ضرورة عمياء متجانسة في كل زمان وفي كل مكان لا يُتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات, ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها مع تغيرات الأزمنة والأمكنة, بل إن كل هذا لا يُعقل أن يصدر إلا من كائن أعلى له حكمة وإرادة...

ومن المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من مجرد فعل الجاذبية العامة؛ لأن هذه القوة تدفع الكواكب نحو الشمس, فيجب لأجل أن تدور هذه الكواكب حول الشمس, أن توجد يد إلهية تدفعها على الخط المماسي لمداراتها...

ومن الجلي الواضح أنه لا يوجد أي سبب طبيعي استطاع أن يوجِّه جميع الكواكب وتوابعها للدوران في جهة واحدة, وعلى مستوى واحد دون حدوث أي تغيير يُذكر, فالنظر لهذا الترتيب يدل على وجود حكمة سيطرت عليه، ثم إنه لا يوجد سبب طبيعي استطاع أن يعطي هذه الكواكب وتوابعها هذه الدرجات من السرعة المتناسبة تناسبًا دقيقًا مع مسافتها بالنسبة للشمس, ولمراكز الحركة, تلك الدرجات الضرورية لأن تتحرك هذه الأجرام على مدارات ذات مركز واحد مشترك بين جميعها, فلأجل تكوين هذا النظام مع جميع حركاته يجب وجود سبب عرف هذه المواد وقارن بين كمية المادة الموجودة في الأجرام السماوية المختلفة, وأدرك ما يجب أن يصدر منها من القوة الجاذبة, وقدر المسافات المختلفة بين الكواكب والشمس وبين توابعها, وماتورن- كوكب زحل- وجوبتير- كوكب المشترى- والأرض, وقدر السرعة التي يمكن أن تدور بها هذه الكواكب وتوابعها حول أجسام تصلح أن تكون مراكز لها.

إذًا فمقارنة هذه الأشياء والتوفيق بينها وجعلها نظامًا يشمل كل هذه الاختلافات بين أجزائه, كل هذا يشهد بوجوب وجود سبب لا أعمى ولا حادث بالاتفاق, ولكن على علم راسخ بعلم الميكانيكا والهندسة.

ثم قال: "ليس هذا كل ما في المسألة؛ فإن الله ضروري أيضًا، سواء لإدارة هذه الأجرام على بعضها, وهو الأمر الذي لا يمكن أن ينتج من مجرد قوة الجاذبية أو لتحديد وجهة هذه الدورات لتتفق مع دورات الكواكب, كما يرى ذلك في الشمس والكواكب وتوابعها, بينما ذوات الأذناب تدور في كل وجهة على السواء".

ثم قال: "وغير هذا؛ ففي تكون الأجرام السماوية كيف أن الذرات المبعثرة استطاعت أن تنقسم إلى قسمين, القسم المضيء منها انحاز إلى جهة لتكوين الأجرام المضيئة بذاتها كالشمس والنجوم, والقسم المعتم تجمع في جهة أخرى لتكوين الأجرام المعتمة كالكواكب وتوابعها، كل هذا لا يُعقل حصوله إلا بفعل عقل لا حد له".

ثم قال: "كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصناعة البديعة, ولأي المقاصد وُضعت أجزاؤها المختلفة؟ هل يُعقل أن تُصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الإبصار ونواميسه, والأذن بدون إلمام بقوانين الصوت؟ كيف يحدث أن حركات الحيوانات تتجدد بإرادتها؟ ومن أين جاء هذا الإلهام الفطري في نفوس الحيوانات"؟ إلى أن قال: "وهذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها ألا تدل على وجود إله منزه عن الجسمانية حي حكيم, موجود في كل مكان، يرى حقيقة كل شيء في ذاته ويدركه أكمل إدراك"([v]).

"هذا عالم من أساطين علماء الفلك وكبار علماء الطبيعة, وصاحب قانون "الجاذبية العامة"، يشهد عن يقين وبكل ارتياح بوجود الخالق جل شأنه, الذي أبدع الكون ونظَّمه بقدرته وحكمته، فهو يقرر ذلك بعد دراسات مستفيضة وتأمل متبصر ونظر ثاقب ويقين لا يقبل الشك, فهو مع علمه بأن هناك قوة جذب بين الكواكب وبين الشمس, كذلك بين أجزاء الكون كله, إلا أنه يقرر أن هذه القوة الجاذبة لا تصنع شيئًا ما لم تسيِّرها يد إلهية, وهو يصف الخالق بأوصاف متقاربة مع الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها نفسه"([vi]).

هكذا يوقفنا عالم الأفلاك على صانع حكيم, خلق هذا الكون الهائل المتسع بدقة وإتقان؛ بحيث لا يخرم هذا النظام الدقيق ولا يخرج عنه, فهو نظام دقيق محكم, جاء نتاجًا عن خالق حكيم مبدع, ويكفي هنا أن نقف على كوكب الأرض, وما به من توازن محكم, وخلق دقيق.

التوازن المدهش في الأرض:

الأرض أهم عالم عرفناه؛ إذ توجد فيها أحوال لا توجد في شيء من هذا الكون الواسع, وهي في ضخامتها- كما تبدو لنا- لا تساوي ذرة من هذا الكون العظيم, ولو أن حجمها كان أقل أو أكثر, مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها, فلو أنها كانت في حجم القمر مثلاً؛ بأن كان قطرها ربع قطرها الموجود فعلاً لكانت جاذبيتها سدس جاذبيتها الحالية؛ ونتيجة لذلك لا يمكن أن تمسك الماء والهواء من حولها, كما هي الحال في القمر, الذي لا يوجد فيه ماء ولا يحوطه غلاف هوائي, لضعف قوة الجاذبية فيه, وانخفاض الجاذبية في الأرض إلى مستوى جاذبية القمر سيترتب عليها اشتداد البرودة ليلاً حتى يتجمد كل ما فيها, واشتداد الحرارة نهارًا حتى يحترق كل ما عليها.

وكذلك يترتب على نقص حجم الأرض إلى مستوى حجم القمر أنها لن تمسك مقدارًا كبيرًا من الماء، وكثرة الماء أمر ضروري لاستمرار الاعتدال الموسمي على الأرض؛ ومن ثم أطلق أحد العلماء على هذه العملية لقب "عجلة التوازن العظيمة" (GreatBalanceWheel)، وكذلك سيرتفع الغلاف الهوائي للأرض في الفضاء ثم يتلاشى، ويتبع ذلك أن تبلغ درجة حرارة الأرض أقصى معدلها, ثم تنخفض إلى أدنى درجاتها, على ما سبق ذكره.

وعلى العكس من ذلك, إذا كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها الحالية؛ وحينئذ ينكمش غلافها الجوي- الذي هو على بعد خمس مئة ميل- إلى ما دون ذلك، وسيترتب على هذا أن يزيد تحمل كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلاً إلى ثلاثين من الضغط الجوي, وهو ضغط يؤثر أسوأ الأثر في الحياة.

ولو أن الأرض تضاعف حجمها, فصارت مثل حجم الشمس مثلاً, لبلغت قوة الجاذبية فيها مثل جاذبيتها الحالية مئة وخمسين مرة, ولاقترب غلافها الهوائي, حتى يصير منها على بعد أربعة أميال فقط, بدلاً من خمس مئة ميل, ولارتفع الضغط الجوي إلى معدل طن واحد على كل بوصة مربعة؛ وذلك يؤدي إلى استحالة نشأة الأجسام الحية، وهو من الناحية النظرية يعني أن يصير وزن الحيوان الذي يزيد رطلاً واحدًا- تحت الكثافة الهوائية الحالية- خمس مئة رطل، كما يهبط حجم الإنسان حتى يصير في حجم فأر كبير, ولاستحال وجود العقل في الإنسان؛ لأنه لا بد للعقل الإنساني من أنسجة عصبية كثيرة في الجسم, ولا يوجد هذا النظام إلا إذا كان حجم الجسم بقدر معين.

نحن قائمون على الأرض ظاهرًا, ولكن الأصح أن نقول: نحن ملقون على رءوسنا, ولتوضيح ذلك نقول: إن الأرض مثل كرة معلقة يسكنها الإنسان, فوضع الناس بعضهم بالنسبة إلى بعض على هذه الكرة, أن سكان أمريكا سيكونون تحت سكان أهالي الهند, وسكان الهند سيكونون تحت أقدام سكان أمريكا.

فأرضنا هذه ليست بثابتة, وإنما هي تدور بسرعة مقدارها ألف ميل في الساعة, وذلك يجعل وضعنا فوقها أشبه بحصاة وُضعت على محيط عجلة تدور بسرعة, يوشك أن تقذف بها في الفضاء, ولكن الأرض لا تقذفنا؛ بل نحن مستقرون عليها, فكيف تمسكنا وهي تدور بهذه السرعة؟!

إن في الأرض جاذبية غير عادية, وهي بهذه الجاذبية تشد كل شيء إليها, فجاذبية الأرض وضغط الهواء المستمر يمسكانا فوقها بنسبة معلومة, وهكذا صرنا مشدودين بهاتين العمليتين إلى كرة الأرض من كل ناحية.

وضغط الهواء الذي يكون على كل بوصة مربعة ما يقرب من 15 رطلا: أن كل إنسان يتحمل ما يقرب من 228,40 رطلاً من الضغط الجوي على جسمه, ولكن الإنسان لا يحس بهذا الوزن؛ لأن الهواء يضغطه من كل ناحية, كما يحدث عندما نسبح في الماء، ثم إن الهواء- وهو علم على مركب معين من الغازات- ذو فوائد كثيرة لا يمكن حصرها في كتاب.

إن الأرض تتم دورة واحدة حول محورها في كل أربع وعشرين ساعة؛ ومعنى ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة, فإذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مئتي ميل في الساعة لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات, بالنسبة إلى ما هي عليه الآن, ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس- بشدة حرارتها- كل شيء فوق الأرض, وما بقي بعد ذلك ستقضي عليه البرودة الشديدة في الليل.

وهذه الشمس التي نعدها اليوم وسيلة حياتنا, تبلغ حرارة سطحها اثني عشر ألف درجة فهرنهيت([vii])؛ والمسافة بينهما وبين الأرض تبلغ ما يقرب من 93,000,000 ميلاً، وهذا البون الهائل دائم, لا يتغير أبدًا بزيادة أو نقص, وفي ذلك عبرة عظيمة لنا؛ لأنه لو نقص, واقتربت الشمس من الأرض بمقدار النصف مثلاً من الفاصل الحالي فسوف يحترق الورق على الفور من حرارتها, ولو بعد هذا الفاصل فصار ضعف ما هو عليه الآن فإن البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد سوف تقضي على الحياة في الأرض, ولو أنه حل محل الشمس سيار آخر غير عادي, يحمل حرارة تزيد على حرارة الشمس عشرة آلاف مرة- فسوف يجعل من الأرض تنورًا رهيبًا.

ثم إن هذه الأرض دائرة في الفضاء, وهي تؤدي عملها بزاوية 33 درجة, الأمر الذي تنشأ عنه المواسم, ويترتب عليه صلاحية أكثر مناطق الأرض للزراعة والسكنى, فلو لم تكن الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طول السنة؛ ولسار بخار البحار شمالاً وجنوبًا؛ ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج, وفياض الصحراوات؛ وهكذا تنجم مؤثرات كثيرة تجعل الحياة على ظهر الأرض مستحيلة.

فلو كان قياس العلماء صحيحًا, وهو: أن المادة قد نظمت ذاتها على هذه الهيئة المناسبة المتوازنة, فما أعجب هذا القياس, وما أكثر إثارته للدهشة! يقولون: إن الأرض انشقت من الشمس؛ ومعنى هذا: أن درجة حرارتها كانت في بداية أمرها كحرارة الشمس نفسها, وهي اثنا عشر ألف درجة فهرنهيت, ثم بدأت الأرض تبرد؛ إذ لا يمكن اتصال الأكسجين بالهيدروجين إلا بعد أن تنخفض الحرارة إلى أربعة آلاف فهرنهيت- وفي هذه المرحلة وجد الماء, وهكذا استمرت عمليات التقلب على سطح الأرض ملايين السنين حتى جاءت الأرض في صورتها الحالية منذ أكثر من بليون سنة مضت, وذهبت الغازات من فضاء الأرض إلى فضاء الكون, وتحولت بقايا الغازات بعد ذلك إلى المركب المائي, أو انجذبت إلى الأشياء الأرضية, أو بقيت في صورة الهواء, وأكثرها في صورة الأكسجين أو النيتروجين، وهذا الهواء في كثافته يُعد جزءًا واحدًا من 2,000,000 من أجزاء الأرض، ولم تنجذب كل الغازات إلى الأرض، كما أنها لم تتحول كلها إلى هواء، ولو أنه حدث لاستحالت حياة الإنسان, فلو أننا فرضنا المستحيل, ووُجدت الحياة في ظروف كهذه- تتحمل فيها البوصة المربعة آلاف الأرطال من الضغط الجوي لكان من المستحيل أن توجد الحياة في صورة الإنسان الحالية.

ولو كانت قشرة الأرض أكثر سمكًا, بمقدار عشرة أقدام من سمكها الحالي, لما وُجد الأكسجين, وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية.

وكذلك لو كانت البحار أعمق بضعة أقدام أكثر من القاع الحالي لانجذب ثاني أكسيد الكربون والأكسجين, ولاستحال وجود النباتات على الأرض، فضلاً عن الحياة.

ولو كان الغلاف الهوائي للأرض ألطف مما هو عليه الآن لاخترقت النيازك كل يوم غلاف الأرض الخارجي, ولرأيناها مضيئة في الليل, ولسقطت على كل بقعة من الأرض وأحرقتها, فهذه النيازك تواصل رحلتها بسرعة أربعين ميلاً في الثانية, ونتيجة لهذه السرعة العظيمة فإنها ستحرق كل شيء يمكن احتراقه على الأرض، حتى تصبح الأرض غربالاً في وقت ليس ببعيد.

فلولا أن غلاف الأرض الهوائي يقينا من هذه الشهب لاحترقنا؛ فإن سرعتها أكثر من سرعة طلقة البندقية تسعين مرة، كما أن حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل شيء, بما فيه الإنسان، فنحن إذًا في حماية هذا الغلاف الكثيف الموزون, الذي لا تخترقه "الأشعة الشمسية ذات الأهمية الكيماوية" (ActininRays) إلا بالقدر الذي يكفي لحياة النبات, وإيجاد الفيتامينات, والقضاء على الجراثيم الضارة, وما إلى ذلك.

إن هذا التوازن للكميات المحتاج إليها عجيب جدًّا؛ فالغلاف الذي فوق الأرض مكون من ستة غازات؛ منها 78% من النيتروجين, و21% من الأكسجين, والغازات الأخرى توجد بنسب قليلة, وهذا الغلاف يضغط الأرض بنسبة 15 رطلاً في البوصة المربعة, ونسبة الأكسجين في هذا الضغط ثلاثة أرطال في البوصة المربعة، والمقادير الأخرى للأكسجين الموجود اليوم قد انجذبت إلى الأرض, وهي تمثل 0,8 من الماء الموجود على سطح الأرض, والأكسجين هو الوسيلة الوحيدة لتنفس سائر حيوانات الأرض, ولا طريق إلى ذلك من غير الفضاء.

قانون الضغط والتوازن:

وهنا يظهر سؤال مهم, وهو: كيف تجمعت هذه الغازات الشديدة الحركة, مع احتفاظها بمقاديرها المتناسبة, التي لا بد منها للحياة في الفضاء؟

    والجواب: أنه لو كانت نسبة الأكسجين 50% , أو أكثر, بدلاً من 21% لزادت قابلية الاحتراق, بما يساوي ارتفاع هذه النسبة، فإذا احترقت شجرة واحدة في غابة- حينما تكون نسبة الأكسجين 21%, فإن الانفجار الخاطف الناجم عن ارتفاع هذه النسبة إلى 50% - يجعل احتراق الغابة كلها أمرًا حتميًّا في لحظات!

ولو أن هذه النسبة انخفضت فأصبحت 10% لكان من الممكن- على مدى القرون- أن تعتاد الحيوانات الحياة مع انخفاض نسبة الأكسجين إلى هذا الحد, ولكنه يكون من المستحيل أن تزدهر الحضارة الإنسانية, كما هي عليه في الظروف الحالية.

ولو أن الأكسجين الموجود على سطح الأرض انجذب مع الأكسجين الذي انجذب قبل ذلك في الأرض لكان من المستحيل الوجود الحيواني الحسي.

إن الأكسجين والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون وغازات الكربون الأخرى- على اختلاف أشكالها تتركب معًا فتصبح عناصر عظيمة الأهمية للحياة الحيوانية, وللأسس التي تقوم عليها الحياة الإنسانية, وبناء عليه لا يوجد احتمال 1/10,000,000 أن تجتمع هذه الغازات في تناسبها المطلوب, ويجمع خصائصها اللازمة للحياة على كوكب معين بطريق الصدفة.

ولذلك يقول أحد كبار علماء الطبيعة:

(Science has no eplanation to offer for the facts, and to say it is "accidental" is to defy mathematics).

"إن العلم لا يملك أي تفسير للحقائق, والقول بأنها حدثت اتفاقًا إنما يُعتبر تحديًا وتصادمًا مع الرياضيات"([viii]).

إن هذا التوازن العجيب في كوكب الأرض من حيث وجوده في الفضاء, وقربه وبعده من الشمس, ونظام الجاذبية وضغط الهواء عليه وما إلى ذلك من توازنات عجيبة تجعل الحياة عليه صالحة مستقرة, ولا يمكن أن يكون هذا الإتقان المدهش نتاج صدفة عابثة, أو مادة صماء, بل لا بد من خالق حكيم, خلق هذا الكون بهذه الدقة والإتقان وأراده على هذا النحو.

فكوكب الأرض عالم مدهش من حيث الدقة والإتقان, والنظام المبدع، ولعل هذا الكوكب الصغير في نظر الفلك وأحجامه لا أهمية له, ولكنه أهم جسم في عالمنا.

كما يقول الدكتور كريسي موريسون: ومن بين تلك الكتل التي اقتلعت تلك الحزمة من السكون التي نسميها بالكرة الأرضية, إنها جسم لا أهمية له في نظر الفلك, ومع ذلك يمكن القول بأنها أهم جسم نعرفه حتى الآن.

وعلى ذلك فإن الأرض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس, وسرعتها في مدارها تهيـئ للإنسان أسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا، إن الفيل يزن القناطير المقنطرة، ومع ذلك فهو لا يساوي شيئًا إذا ما قُورن بالإنسان الذي لا يتعدى وزنه 1: 40 من وزن ذلك الحيوان المهول, ولكن شتان بين العقل المفكر وبين كومة من اللحم, شتان بين تل من الرمال وقطعة من الماس لا تتعدى بضعة جرامات.

إن الله تعالى الذي كرم بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً قد سخر لهم ما في البر والبحر وخلق لهم ما في الأرض جميعًا, ولكن الإنسان ظلوم كفار, بيد أن الله رحيم غفار.

يقول الدكتور كريسي موريسون: والكرة الأرضية تدور حول الشمس بسرعة معدلها ثمانية عشر ميلاً في الثانية, ولو أن معدل دورانها كان مثلاً ستة أميال أو أربعين ميلاً في الثانية فإن بعدنا عن الشمس أو قربنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا، ثم إن الكرة الأرضية مائلة بزاوية قدرها 23 درجة؛ ولهذا دواع دعت إليه، فلو أن الكرة الأرضية لم تكن مائلة لكان القطبان في حالة غسق دائم, ولصار بخار الماء المنبعث من المحيطات يتحرك شمالاً وجنوبًا, مكدسًا في طريقه قارات من الجليد, وربما ترك صحراء بين خط الاستواء والملح, وفي هذه الحالة كانت تنبعث أنهار من الجليد وتتدفق خلال أودية إلى قاع المحيط المغطى بالملح, لتكون بركًا مؤقتة من الملح الأجاج, وكان ثقل الكتلة الهائلة من الجليد يضغط على القطبين فيؤدي ذلك إلى فرطحة خط الاستواء أو فورانه, أو على الأقل كان يتطلب منطقة استوائية جديدة, كما أن انخفاض المحيط يعرض مساحات شاسعة جديدة من الأرض, ويقلل هطول المطر في كافة أرجاء العالم بما ينتج عن ذلك من عواقب مخيفة، ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلاً بدلاً من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلاً, فإن المد كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تُغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها, وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة, وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب, وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم، أأدركت حكمة الصانع فيما صنع؟ )تبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا(61)((الفرقان).

هكذا أدرك هؤلاء العلماء الذين لم يقصدوا إلا الوصول إلى الحقيقة- والحقيقة وحدها- عظمة خالق هذا الكون, وحنوه على مخلوقاته وإنعامه عليهم، ولم يزدهم علمهم إلا شعورًا بضآلة هذا الإنسان أمام مالك الملك وخالق السماوات والأرض، كما أن بحثهم لم يزدهم إلا تقربًا إلى الله واحتماء في رحابه، قال تعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد(53)(  (فصلت).

نعم، إن دراسة الفضاء طريق إلى تثبيت الإيمان بالله والاعتراف بعظمته، إن سفينة الفضاء التي لا يزيد وزنها عن عدة قناطير اقتضت جهود عشرات الأجيال من العلماء والباحثين, واشترك في صناعتها آلاف من العلماء والمهندسين والعمال, ثم انطلقت إلى الفضاء الرحب, موجهة بأجهزة على الأرض تحفظ لها خط سيرها وتوجهها إلى مدارها السليم، ولو حدث خلل في هذه الأجهزة الموجهة للسفينة لسقطت على التو وأصبحت حطامًا، فإذا كانت هذه الكتلة التي لا تُذكر لا يمكن أن تستمر معلقة في الفضاء بدون موجِّه يمسكها, فكيف بتلك الأجرام المتناهية في الضخامة المعلقة في الفضاء بلايين السنين؟ أيُعقل أن تسير بغير موجِّه, أو أن تحلق بغير مهيمن عليها؟ كلا، إنها في قبضة الله وتحت توجيه الخالق، وهذه على ما أتصور هي النتيجة النهائية لاستكشاف الفضاء إذا ما تجرد الإنسان من أهوائه وصدق مع نفسه وفطرته([ix]).

ومن هذا يتبين مدى دلالة الفضاء الفسيح والأفلاك العظيمة والآفاق المترامية على وجود الخالق, ودقة صنعته, وعظمته وحكمته الفائقة, فلا يمكن لعاقل اطلع على هذا الخلق العجيب في حركته المنضبطة, وسيرانه المنظم, ودقته المتناهية في كل سكون وحركة, وكل بعد وقرب- إلا ويجزم بأنه ناتج عن خالق مدبر حكيم قاصد لهذا الخلق, فلا يمكن أن يكون هذا نتاج العبث والصدفة.

2. أدلة علم الأنفس وخلق الإنسان على وجود الخالق:

الإنسان آية الله في الخلق, وعلامة الإبداع والتفنن, ورمز الدقة والإتقان، يأتي على قمة المخلوقات تفردًا ورقـيًّا, صاحب حجم صغير, وجسم ضعيف, إلا أنه قوي التفكير, سامي العقل, استطاع أن يسخر كل شيء في الوجود لصالحه.

إنه دليل بيِّن الوضوح على وجود الخالق وعظمته وقدرته وحكمته البالغة، إنه أقوى معجزة في الخلق تدل مباشرة على الخالق الحكيم, وتدحض كل مزاعم الملحدين والمشركين وافتراءاتهم, سواء فيما يزعمون من نشأة الحياة بالصدفة, أو ما ينسبونه للطبيعة من قدرة على الاختيار والانتقاء، وإعمال القوانين في حركة الكون والحياة، وكلها نظريات ليست من العلم في شيء، بل إن المنطوق العلمي نفسه يرفضها، ويكشف غاياتها الخبيثة في تزيين الكفر والإلحاد.

إذا بحثنا في جسم الإنسان نجد العديد من التوافقات المذهلة, والتنظيمات العجيبة, التي تؤكد أن الإنسان لم ينشأ نتيجة صدفة عمياء, أو يتطور من جماد وحيوان بفعل قوى الطبيعة المزعومة, بل هو من صنع قوة عاقلة جبارة تملك القدرة المطلقة على التدبير والتخطيط, وهذه القوة هي قوة القصد الإلهي التي تؤكد أهمية الغاية والهدف من وراء خلق الكائنات, مصداقًا لقوله عز وجل: )أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون(115)((المؤمنون)، وقوله عز وجل: )وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون(39)(  (الدخان).

ومن أمثلة التوافقات والتنظيمات المعجزة في جسم الإنسان نستعرض ما يلي:

1. خلايا الجسم دائمة الانقسام؛ للعمل على نمو الجسم أو لتعويض ما يفقد أو يموت بين هذه الخلايا، أما الخلايا العصبية فهي لا تنقسم؛ لأنها لو انقسمت تحدث كارثة مروعة بتلاشي جميع معالم الذاكرة في الخلايا العصبية للمخ.

2. تُعتبر عضلات الرحم عند الأنثى أقوى عضلات الإنسان؛ للحاجة إليها في دفع الجنين عندما يأذن الله بخروجه من بطن أمه، وتلي عضلات الرحم عضلات القلب التي لا بد أن تكون قوية لتتحمل العمل ليلاً ونهارًا، وتدفع الدم باستمرار إلى الأوعية الدموية لمدة قد تطول في بعض الأحيان لأكثر من مئة عام.

3. عند حدوث جرح في الجسم يندفع الدم من الأوعية الدموية المجروحة, ولكنه لا يلبث أن يتجلط عند مكان الجرح؛ ليوقف استمرار النزيف, ولولا هذا التجلط لظل النزيف حتى الموت.

4. المعدة في الإنسان أشبه بمصنع كيميائي أعده الخالق الواحد سبحانه وتعالى؛ لكي يعمل ذاتيًّا- أوتوماتيكيًّا- وينتج مواد كيميائية أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره الإنسان، فالمعدة تقوم تلقائيًّا بتحليل ما يتناوله الإنسان من أطعمة على اختلاف أنواعها, وتقوم بمعالجتها وتجهيزها من جديد, وتتولى فرزها وتصنيفها وتوريدها بصورة مستمرة ومنتظمة إلى كل خلية من بلايين الخلايا حسب احتياجات هذه الخلايا وتخصصاتها؛ لتكوين العظام أو الأظافر أو الشعر أو اللحم أو الأسنان أو الأنسجة أو غيرها، كما تحتوي المعدة على جهاز كيميائي مناعي أو دفاعي لمهاجمة الجراثيم والميكروبات المعادية, وهناك الكثير من التنظيمات الأخرى الرائعة.

5. الأذن البشرية عضو معقد بالغ الحساسية يقوم بتحليل الأمواج الصوتية ونقلها إلى المخ في صورة تيار كهربي يسري في العصب السمعي إلى مركز خاص في المخ، فيحس الإنسان بسماع الصوت، وقد خلق الله الأذن البشرية وجعل استجابتها محدودة بمدى معين من الذبذبات التي يتراوح ترددها- أي عددها في الثانية الواحدة- من 20 إلى 20000 ذبذبة في الثانية؛ وذلك لكي ينعم الإنسان بالهدوء ولا يسمع الموجات الأقل أو الأكبر من هذا المدى، ولو استجابت الأذن لكل الذبذبات الصوتية لعاش الإنسان في ضجيج لا ينقطع.

وما يقال عن الخلايا والعضلات والدم والمعدة والأذن يقال عن العين واللسان والأنف والحنجرة والجلد وغيرها من ملايين التنظيمات والتوافقات الرائعة في جسم الإنسان, بل ومختلف التنظيمات الموجودة في كل الكائنات النباتية والحيوانية؛ مما يدل على أن جميع المخلوقات خُلقت منذ البداية على نحو من التصميم الدقيق المقصود الذي لا يدع مجالاً للصدفة أو الاحتمال.

ويبقى بعد هذا كله سـر أسرار الحياة, وهي الروح التي جعلها الله مصدر الوعي ومنبع الشعور, فقد خلق الله الإنسان خلقًا يجمع بين المادة والروح, فالإنسان بجسمه المادي مشدود إلى الأرض, له دوافعه وشهواته ومطالبه الحيوانية, وبروحه الشفافة يتطلع إلى السماء, له أشواق الملائكة وجاذبية السمو نحو الله، أم النفس فلها طبيعة مزدوجة تحتوي على معنويات الخير والشر والتقوى والفجور، ورغم أن العلم قد تعرف على التركيب المادي لجسم الإنسان بعناصره ومركباته, وذلك بطرق التحليل الكيميائي, إلا أنه لا يزال عاجزًا حيال عالم النفس الذي يحاول اقتحامه, كما أنه يقف عاجزًا أمام عالم الروح, ولن يُقدر للعلم البشري أن يصل إلى سر الحياة الذي استأثر به خالق الكون والحياة, قال الله تعالى: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً (85)( (الإسراء)، فصدق الله العظيم الواحد الأحد: )الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور(2)(  (الملك).

ويقول الله تعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(13)( (الجاثية)؛ حيث تقرر هذه الآية الكريمة أن جميع المخلوقات والكائنات في هذا الكون- على اختلاف أنواعها وأحجامها ونواميسها- يجمع بينها مهمة التسخير للإنسان, ويوحد بينها أنها مقدرة بمشيئة الخالق الواحد.

والإيمان الخالص بوحدانية الله تعالى أساس العقيدة الإسلامية, وهو أمر فطري, ينعم به كل إنسان يتمتع بفطرة نقية, لكن البحث العلمي يوصلنا إلى حقائق كونية تيسر قبول العقول بمسلمة التوحيد الإسلامي, وتكشف عن الوحدة التي تؤلف بين الكثرة مهما كانت درجة تنوعها([x])، فالإنسان بكل ما فيه إنما هو دليل ناطق على عظمة الخالق ودقة تدبيره, وليس مجرد وجوده.

يقول الدكتور موريسون: إن الإنسان وحده هو الذي أُوتي عقلاً بلغ من التطور أنه يستطيع أن يفكر به تفكيرًا عاليًا، والغريزة ليست إلا كنغمة واحدة من الناي, نغمة جميلة ولكنها محدودة, بينما العقل البشري يحتوي على كل الأنغام التي لكل الآلات الموسيقية في أوركسترا, والإنسان يمكنه أن يوفق بين تلك الأنغام جميعها, وأن يقدم للعالم قطعًا موسيقية متحدة النغم- سيمفونيات- تدنو من الإعجاز, وإلى أن خلق الإنسان لم تخرج العناية الإلهية كائنًا حيًّا من بين الصخور الفطرية, وله عقل مرن كعقل الإنسان, والآن يمكننا أن نتصور تلقي الإنسان قبسًا من نور الله يجعله سيدًا على الأرض, عجيبًا في مقدرته, باقيًا في مصيره([xi])!

أجل, إن الإنسان بعقله الفذ وتفكيره المبدع يدل دلالة واضحة على أنه أسمى المخلوقات وأعظمها, وأنه السيد على هذا الكون, وهو المتحكم في كثير من الكائنات من حوله, فالإنسان بكل ما فيه آية على عظمة الخلق والإبداع والتقدير, فالإنسان بهذا الخلق الفريد دليل واضح على وجود الخالق وعظمته، ودقة تقديره؛ ولذلك جاء التعبير القرآني الكريم موجهًا الإنسان للنظر في نفسه للدلالة على الإيمان بالخالق، فقال تعالى:)وفي أنفسكم أفلا تبصرون(21)((الذاريات).

وفي أنفسكم أفلا تبصرون:

لما كان الإنسان كثير النسيان فقد أمده الله سبحانه وتعالى بالعديد من الآيات البينات التي تذكِّره بما يحتوي عليه الكون من العجائب والمعجزات، وتنير له طريق الهداية والصواب؛ ذلك أن الحياة من حوله عالم متكامل من المخلوقات يصلح بعضه البعض في سبيل الحياة والبقاء, منها ما ينفع أو يضر, ومنها ما لا ينفع ولا يضر، والإنسان على رأس هذا العالم سيد المخلوقات جميعًا, أعزه الله سبحانه وتعالى بالعقل والحكمة, وخصه بحسن المظهر وجمال التكوين؛ حيث يقول في كتابه الكريم:)لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4)((التين).

ولا تقتصر معجزات الخلق الإلهي على نوع أو آخر من المخلوقات التي نراها كل يوم حولنا, بل تمتد إلى الإنسان نفسه؛ ليكون الدليل قائمًا بيننا وواضحًا تحت أبصارنا في كل حين, فجسم الإنسان الذي نراه كل يوم في أنفسنا أو فيمن هم حولنا من البشر هو بناء عجيب على جانب كبير من الدقة وحسن المظهر وجمال التنسيق، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفت أنظارنا إلى هذا البناء الدقيق؛ لنقف على حقيقة واضحة تدلنا على عظمة الخالق وجمال الخلق.

وبعد رحلة طويلة من البحث العلمي الشاق أصبحنا نعرف اليوم أن جسم الإنسان يتركب من وحدات أساسية دقيقة للغاية يُطلق على كل منها اسم الخلية (Cell)، ويحتوي جسم الإنسان على ما يقرب من 350 ألف مليون خلية متناهية في الصغر لا يمكن رؤيتها إلا بمساعدة مجهر- ميكروسكوب- قوي.

والواقع أن خلايا الجسم ليست كلها على نمط واحد من حيث الشكل أو الحجم أو الوظيفة, فهي تختلف فيما بينها اختلافات واضحة, كما أنها تتنوع بشكل يثير الدهشة والإعجاب؛ فهناك- على سبيل المثال- كرات الدم الحمراء ذات الشكل المستدير التي يبلغ قطر الواحدة منها 8 ميكرونات- الميكرون جزء من مليون من المتر- وهناك خلايا الكبد ذات الشكل المكعب تقريبًا، ويبلغ قطر الواحدة منها 25 ميكرونًا, والخلايا العضلية ذات الشكل المغزلي أو الأسطواني، ويصل طولها إلى 3000 ميكرون- 3 مليمترات- والخلايا العصبية التي تمتد عبر الجسم على هيئة ألياف يصل طولها إلى مليون ميكرون- أي متر- أو أكثر.

وهذه الخلايا التي يتركب منها جسم الإنسان لا تبقى منفصلة بعضها عن بعض, بل تعيش في تنظيمات متجانسة, ويقوم كل تنظيم بأداء عمل خاص من الأعمال العديدة التي تتطلبها حياة الإنسان، ويطلق علماء الأحياء على هذا التنظيم المتجانس اسم "النسيج" (Tissue), ومن أمثلة هذه الأنسجة: النسيج العضلي الذي تتركب منه عضلات الجسم على اختلاف مواقعها وأنواعها, والنسيج الإفرازي الذي يدخل في تكوين الجسم والذي يقوم بإمداد الجسم بجميع احتياجاته من الإنزيمات أو الهرمونات أو المواد الكيميائية الأخرى, والنسيج الطلائي الذي يغلف الجسم من الخارج أو يبطِّنه من الداخل وهكذا.

والأنسجة بدورها تندمج في تنظيمات أكبر يُطلق عليها اسم "الأعضاء" (Organs), فالمعدة مثلاً عضو مهم يتركب من عدة أنسجة، منها النسيج الإفرازي الذي تتدفق منه العصارات الهضمية, ومنها النسيج العضلي الذي تؤدي تحركاته المنتظمة المتتالية إلى خلط الطعام مع العصارات ودفع الطعام المهضوم جزئيًّا إلى الأمعاء, وهناك أيضًا النسيج الدموي الذي يحمل إلى خلايا المعدة احتياجاتها, وكذلك يوجد النسيج الضام الذي يربط الأنسجة السابقة بعضها مع بعض برباط محكم؛ لتتكون منها وحدة متماسكة وقادرة على أداء وظيفتها كأحسن ما يكون الأداء.

وتندمج الأعضاء والتركيبات التي تؤدي وظيفة حيوية واحدة في جسم الإنسان في تنظيم واحد كبير يُطلق عليه اسم الجهاز (System)، وهو أكبر التنظيمات الجسدية وأكثرها تعقيدًا، والأجهزة الموجودة في جسم الإنسان هي: الجهاز الجلدي, والجهاز الهضمي, والجهاز التنفسي, والجهاز الدوري, والجهاز العصبي, والجهاز الحسي, والجهاز الهيكلي, والجهاز العضلي, وجهاز الإفراز الداخلي المكون من الغدد الصماء، ومن مجموعة هذه الأجهزة- التي تختلف اختلافًا جوهريًّا في سلوكها ووظائفها وصفاتها التشريحية- يتركب جسم الإنسان, فتبارك الله أحسن الخالقين, وتبارك الله الذي أحسن كل شيء خلقه, وبدأ خلق الإنسان من طين.

الخلية الحية في الإنسان:

قال الله عز وجل: )وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون (93)((النمل).

تؤكد هذه الآية الكريمة وعد الله عز وجل لعباده بالكشف عن آياته المنبثة في الآفاق والأنفس؛ ليعرفونها وتكون طريقًا إلى هدايتهم، وتعميق إيمانهم بخالق الكون والحياة.

والخلية الحية هي الوحدة البنائية التي يتكون منها الإنسان والحيوان والنبات, وينشأ عنها مختلف الأجهزة التي تتفاوت في أشكالها ونظامها ومكوناتها, بل إن الجهاز الواحد الناتج عن الخلية يختلف في أجزائه تبعًا لعمله وما خُلق من أجله.

وإذا قصرنا الحديث على الخلية الحية في الإنسان نجد أن كل نواتجها صور مختلفة لتحقيق أغراض الحياة, فهي تنتج الدماء والعظام واللحم والأعصاب, بل إنها تنتج تحت ظروف المرض خلايا جديدة للدفاع والمقاومة، ولعل أعجب ما نجده في سيرة الخلية الحية هو أسلوب انقسامها، فمن المعروف أن الجنين يتكون بتلقيح الحيوان المنوي, الذي يُعتبر- أساسًا- نصف خلية حية لنصف خلية مؤنثة, وهي نصف البويضة, فينشأ من هذا التلقيح خلية حية واحدة تنقسم على الفور بسرعة مذهلة إلى خليتين، كل واحدة بحجم الخلية الأصلية, ويستمر الانقسام والنمو في كل خلية.

ويقف العلم عاجزًا والعلماء مذهولين إزاء عملية الانقسام على هذا النحو المعجز الذي يجعل الكائن البشري يحصل على ثلاثين ألف مليون خلية من انقسام كل أقسام الخلية الأولى خمسين مرة في فترة وجيزة لتكون جسمه.

وقد باشر العلماء منذ أن عرفت الخلية الحية دراسة مكوناتها باستخدام التقنيات المتقدمة, ومحاولة الوقوف على بعض أسرارها التي بها تنقسم وتنمو وتتغذى- فوجدوا أن أساس الخلية الحية هو البروتين الذي يتكون من أحماض أمينية، وعلى ذلك فإن هذه الأحماض الأمينية هي أساس الخلية الحية, وفيها تكمن أسرارها؛ إذ لا بد لقيام الحياة أن يأخذ الجسم إلى خلاياه بروتينات تفتتها الخلية وتحللها إلى أحماضها الأمينية, ثم تعيد التحامها مرة أخرى في أشكال جديدة؛ ولذلك قالوا: إن هذه الأحماض الأمينية, أو البروتين الذي يتكون منها هو أصل الحياة.

ولقد تمكن العلماء من الوصول إلى أنواع الأحماض الأمينية ومعرفة تركيب الجزيء البروتيني, أما أصناف البروتينات التي تتكون من الأحماض الموجودة في الخلية فيفوق عددها كل خيال.

ويوالي البحث العلمي مهمته في كشف المزيد من أسرار الخلية الحية التي تكاثرت في الجنين لتكونه، فنتوقف أمام قيامها بعملية عجيبة تتمثل في هدم البروتين وإعادة بنائه.

وأقرب مثل يمكن ضربه لإيضاح ما يتم داخل الخلية الحية في هذا الشأن هو المثل لمنزل قائم, ثم يجري هدمه ومن حجارته وخشبه ورمله وبلاطه يجري بناء شيء جديد لمواجهة حاجة مُلِحَّة, ولك أن تتخيل كم من الوقت والجهد والخبراء يلزم لدراسة هذا العمل والتخطيط الدقيق له والقيام بتنفيذه.

وإن من أدق أسرار عملية الهدم والبناء التي تقوم بها الخلية الحية هي السرعة الفائقة التي يعجز العلم بكل أجهزته وتقنياته المتقدمة عن أن يتابعها أو يلاحقها, وإن كانت تقنية العلم في الوقت الحاضر تفتح باب الأمر لدراسة هذه العملية العجيبة, واختبار الأحماض التي يُعاد تجميعها بطريقة مغايرة للأصل من أجل تكوين الصنف الجديد المطلوب تحديدًا للبروتين, بل إن انتقال الأحماض الأمينية واتحادها في أوعية خاصة داخل الخلية الحية يُعتبر من الآيات الباهرة التي تستلزم بالضرورة العقلية إيمانًا خالصًا صادقًا بوحدانية الله عز وجل, ذلك أن الخلية الواحدة بها العديد من الأوعية التي تُسمى "ريبوسوم", ولكن كيف تنقل أحماض بعينها من بين مجموعة الأحماض الموجودة في الخلية إلى وعاء بعينه ولا تدخل غيره؟ هذا ما لا يتم الإجابة عنه إلا باللجوء إلى الخالق الواحد الذي يقول للشيء كن فيكون.

إن هذه العمليات المعجزة قليل من كثير مما يحدث في الخلية الحية التي لا تُرى بالعين المجردة, ولا يزال هناك الكثير من المواد المجهولة التي لم يعرف العلم بعد تركيبها؛ ليظل الفرق موجودًا دائمًا بين العجز والمعجزة, العجز في العلم البشري المحدود والمعجزة الدالة على قدرة الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علمًا, وأخبر بنسبية العلم البشري ومحدوديته في قوله عز وجل: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً (85)( (الإسراء).

والحديث عن أسرار الخلايا الحية في الإنسان يتطلب أولاً أن نفرق بين هذه الخلايا؛ النوع الأول هي الخلايا الجنسية الذكرية- أي الحيوانات المنوية- والثاني الجنسية الأنثوية- أي البويضات- والاندماج بين أنوية هذه الخلايا الجنسية الذكرية والأنثوية ينتج ذريات جديدة تحمل صفات أبويها، وبالرغم من أن البشر جميعًا يتكاثرون بهذا الأسلوب إلا أنهم ليسوا جميعًا نسخًا مكررة بعضهم من بعض؛ فإن تكوين سحناتهم وأصواتهم وألوانهم وبصماتهم وفصائل دمائهم وطباعهم وملكاتهم إنما يتم نتيجة عوالم وراثية محددة تكمن في أنوية الخلاية الجنسية للنوع، ولقد أوضح علماء الرياضة البيولوجية بالحساب والمعادلات أن مجيء اثنين متشابهين شبهًا مطلقًا- يُستثنى من ذلك التوائم المتشابهة- احتمال نادر غاية الندرة يقرب من أن يكون مستحيلاً.

أما النوع الثاني من الخلايا الحية في الإنسان- في الخلايا الجسدية- التي يبلغ عددها من 60 إلى 100 مليون مليون خلية, ولكل خلية نواتها- عدا كرات الدم الحمراء- اشتُقت هذه الأعداد الهائلة من الخلية الأولى الملقحة, وقد تميزت بعد ذلك إلى خلايا عظام وعضلات ومخ وأمعاء وكبد وطحال... إلى آخره، ولا شك أن هذه الخلايا تختلف عن بعضها في الشكل والحجم والوظيفة؛ فوظيفة الأمعاء مثلاً تفرز وتهضم وتمتص، ولا يمكن- والحال كذلك- أن تصلح لوظيفة أخرى؛ أي إنها لا تستطيع أن تقوم بعمل خلايا المخ أو العين أو الرئة مثلاً.

ويعتقد العلماء أن قيام الخلايا الجسدية في جسم الإنسان بوظائف دون الوظائف الأخرى على حسب مكانها في أجهزة الجسم المختلفة ليس عجزًا منها, فهي كلها موجودة في نواتها؛ بمعنى أن أية نواة في أية خلية جسدية تحمل في طياتها السمات الوراثية التي اشتُقت من الخلية الملقحة.

ولكن نوضح هذه العملية الحيوية بمثال نقول: إن أي كتاب مطبوع كانت له أصول، ثم جُمعت كلماتها وفقراتها وصفحاتها في المطبعة, ومن الممكن بعد ذلك طبع ما نشاء منها طبق الأصل من النسخ الأخرى، وكذلك تكون الخلية الملقحة, ففي نواتها أودع الله عز وجل فكرة الخلق كله؛ أي إنها تحتوي- بلغة العلم الحديث- على برنامج وراثي كامل, فإذا تكاثرت إلى مئات أو آلاف الخلايا النسيجية أو الجسدية فإن كل خلية ناتجة تمتلك في نواتها نسخة طبق الأصل من البرنامج الوراثي المشتق من الخلية الأولى المخصبة, وكأنما هذه الخلية بدورها تطبع نسخًا طبق الأصل من ذاتها.

وهنا تبرز تساؤلات محيرة: كيف تحولت هذه الأصول المتشابهة في بدايات الأجنة إلى تكوينات خلوية قد تحسبها- لاختلافها- شيئًا آخر غير الأصل الذي منه قد جاءت؟ وما الذي حوَّل هذه الخلية الجنينية لتكون خلية جسدية من خلايا العين أو اللسان أو الكبد أو الجلد أو العظام؟

الواقع أن هذه التساؤلات وغيرها لمن أعظم التحديات التي تواجه العلماء حتى الآن، فلقد عرفوا من أسرار الخلية وتشكل الأجنة القليل, وبقي أمامهم الكثير, وكلما اكتشفوا سرًّا أو عرفوا لغزًا عظمت في عقولنا سنن الله عز وجل في خلقه, وإبداعه في تلك التكوينات الدقيقة التي تتمخض عن إنسان مدرك ناطق عاقل يبحث في أسرار الكون والحياة، فتبارك الله أحسن الخالقين.

حاسة الإبصار وتركيب العين:

قال تعالى: )ألم نجعل له عينين (8)((البلد).

لقد كشف العلم عبر رحلته الطويلة كثيرًا من الأسرار المتعلقة بتركيب العين وإعجاز الخلق فيها، لكنه لا يزال عاجزًا عن تفسير الكثير من وظائف أعضائها، وكان الحسن بن الهيثم- عبقري الحضارة الإسلامية- أول من قدم وصفًا علميًّا مقبولاً لتركيب العين، وجاءت أقواله في ذلك صحيحة يدلل بها بعض المؤرخين والمستشرقين على علمه بتركيب العين من الناحية التشريحية؛ حيث أعزى حدوث الرؤية إلى تكون صور المرئيات على ما نسميه الآن "شبكية العين", وانتقال التأثير الحاصل بواسطة العصب البصري إلى المخ, وعلل رؤية الشيء واحدًا على الرغم من النظر إليه بعينين اثنتين بوقوع الصورتين على جزءين متماثلين من الشبكية.

ويؤكد ابن الهيثم منهجه العلمي التجريبي في كتابه الشهير "المناظر" بقوله: "... فهذا الذي شرحناه هو صفة تركيب البصر وهيئة طبقاته، وجميع ما ذكرناه قد بينه أصحاب التشريح في كتبهم".

وقد أولى كمال الدين الفارسي بعد ذلك اهتمامًا كبيرًا بآراء ابن الهيثم, وقدم تصورًا قريبًا جدًّا مما نعرفه الآن عن تركيب العين ووظائف أجزائها, ضمنه كتابه القيم: "تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر".

ويمكن تشبيه العين- على سبيل التبسيط- بآلة التصوير الضوئي- الكاميرا- من حيث إن كلاًّ منهما تتكون من غرفة مظلمة وعدسة وسطح حساس للضوء، فالغرفة المظلمة هي كرة العين التي يبلغ قطرها حوالي بوصة، أو 24 ملليمتر تقريبًا, وهي قابلة للحركة في مكانها من التجويف العظمي للجمجمة, ويتحكم في حركتها ست عضلات تضبطها في الوضع المناسب، وتمكن العينين معًا من تتبع الأجسام المتحركة، ولا ينفذ الضوء إلى داخل العين إلا من خلال بقعة صغيرة في مقدمتها تبرز قليلاً للأمام، وتحتوي على شبكة من الأوعية الدموية الدقيقة تُسمى "القرنية" (Cornea).

وعدسة العين مثبتة في مكانها بحلقة من العضلات الدقيقة التي تساعدها على تغيير قوتها تبعًا لبعد الجسم المرئي، ويقع فيما بين العدسة والقرنية حائل ذو ثقب يُسمى "حدقة العين" أو "القزحية" (Tris), وهي أجمل أجزاء العين، ويتخذ أشكالاً مختلفة عند الأشخاص, وتلعب الحدقة دورًا مهمًّا من حيث إنها تتحكم في شدة الضوء النافذ إلى داخل العين عن طريق ثقب يتوسطها يُسمى "إنسان العين" (Pupil)، ويمكنه أن يتسع حتى يبلغ قطره ثمانية ملليمترات تقريبًا في الظلام, ويضيق حتى يبلغ قطره حوالي ملليمترين فقط في ضوء الشمس.

ويملأ كرة العين سائل يُسمى "السائل الزجاجي" نظرًا لشفافيته, كما يملأ الجزء الواقع بين العدسة والقرنية سائل مشابه يُسمى "السائل المائي".

أما الشبكة فتبطِّن كرة العين من الداخل في الجهة المقابلة للقرنية, وأكثر مواضعها حساسية للضوء هي المنطقة الواقعة مقابل إنسان العين مباشرة وتُسمى "النقطة الصفراء", في حين يكون جزء الشبكية الذي تتجمع فيه الأعصاب البصرية الدقيقة المكوِّنة للعصب البصري عديم التأثر بالضوء، ويُعرف بـ "النقطة العمياء".

وأهم ما يميز الشبكية أنها تتكون من نوعين من الخلايا البصرية؛ النوع الأول على هيئة قضبان حساسة للضوء عمومًا, والنوع الثاني عبارة عن شعيرات مخروطية تختص بالتعرف على الألوان والتمييز بينها، وإذا حدث قصور في عمل هذه الشعيرات المخروطية فإن العين لا تقوم بوظيفتها كاملة من حيث التعرف على الألوان أو التمييز بينها, وهو ما يُسمى "عمى الألوان", وأكثر أنواعه شيوعًا هو عمى اللون الأحمر الذي يتعذر فيه التمييز بين اللونين الأحمر والأخضر, وخاصة إذا كانت الألوان داكنة.

ومن طريف ما كشفت عنه تجارب الباحثين أن بعض الحيوانات تُصاب أيضًا بعمى الألوان؛ فالكلاب والقطط لا تميز بين الألوان, والنحل لا يستطيع رؤية اللون الأحمر, والحصان يرى اللونين الأصفر والأخضر, ولكنه لا يرى اللونين الأحمر والأزرق.

ودمع العين سائل ملحي صافٍ تفرزه الغدة الدمعية في الفقاريات البرية، وفي الإنسان ترقد الغدة الدمعية في تجويف ضحل بسطح الحجاج في السطح الداخلي للعظم الجبهي فوق الجانب الخارجي للعين.

وتشبه الغدة الدمعية اللوزة من حيث الحجم والشكل, ويقسمها حاجز ليفي إلى قسم أعلى وآخر أسفل يبرز في ظهر الجفن الأعلى، وتصب الغدة إفرازها بقنيات تنفتح على الجانب الخارجي للحافة الواقعة بين الملتحمة التي تغطي باطن الجفن الأعلى والملتحمة التي تغطي مقلة العين.

وتفرز غدد بالجفنين مادة زيتية تتجمع عند حافتيهما، وانتشار هذه المادة الزيتية على سطح العين يمسك بالدمع السائل على سطح العين فلا ينسكب على الوجنتين, وإنما يتجمع في الركن الداخلي- الأنفي- للعين؛ ليخرج منها من خلال القناتين الدمعيتين اللتين تؤديان إلى الكيس الدمعي الذي يصب في القناة الأنفية التي تفرغ الدموع في تجويف الأنف.

وهذه المسالك الدقيقة تكفي لجريان الدموع الهين المستمر, ولكن الدموع قد يزداد إفرازها لمرض أو لتأثر بمادة مهيجة أو جسم غريب أو رائحة متطايرة فتضيق عن صرفها من العين القناتان الدمعيتان, فتفيض من العين وتنسكب على الوجنتين، وفي الإنسان قد يزداد إفراز الدموع تعبيرًا عن عواطف جياشة تثور في نفسه, فتؤثر في غدتي الدمع من خلال ما يصلهما من الأعصاب.

وهذا يبين لنا دقة التعبير القرآني وإعجازه في قول الله تعالى:)وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83)( (المائدة).

والدموع المعتادة ترطِّب العين وتيسِّر حركة المقلة والجفنين, وتغسل ما قد يقع على العينين من تراب وقذى وميكروبات ضارة، وتحتوي الدموع على إنزيم محلل يُسمى "الليسوزيم" يقضي على بعض أنواع البكتيريا، وعدم إفراز الدموع يؤدي إلى جفاف العين وتعرضها للعدوى وزيادة تأثرها بالعوامل المؤدية كالإجهاد والتيارات الهوائية والتغيرات في درجة الحرارة والأبخرة والغازات المهيجة.

حاسة السمع وتركيب الأذن:

قال الله عز وجل:)وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون (78)((المؤمنون)، إن هذه الآية القرآنية الكريمة تحمل من بين معانيها روعة الإعجاز الدال على وحدانية الخالق، والمتمثل فيما أنعم به على الإنسان من قوى وحواس, فإذا كان مجرد توصل العلم إلى معرفة طبيعة هذه القوى والحواس وطريقة عملها يُعد كشفًا معجزًا في عالم البشر, فكيف بخلقها وإنشائها وتركيبها على هذا النحو المتناسق مع طبيعة الكون الذي يعيش فيه الإنسان.

وحاسة السمع هي إحدى الحواس التي يقف الإنسان أمامها موقف العاجز عن العلم القاصر عن المعرفة, فحتى اليوم لم يستطع الباحثون أن يتعرفوا يقينًا على كيفية التقاط الأذن للموجات الصوتية بذبذباتها المختلفة, وتوجد في ساحة الفكر العلمي عدة نظريات متباينة لتفسير هذه المعضلة العجيبة, وإذا تعددت النظريات والافتراضات العلمية دل ذلك على عجز العقل البشري عن إدراك الحقيقة الكاملة, فحاسة السمع- كما يقول العلماء- تبدأ بالأذن الخارجية، ولا يعلم إلا الله أين تنتهي، وبنظرة سريعة إلى الناحية التشريحية لعضو السمع أو الأذن تبين لنا أنه يتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية هي: الأذن الخارجية والأذن الوسطى, ثم الأذن الداخلية.

أما الأذن الخارجية فتتكون من صيوان على شكل بوق يقوم بتجميع الأصوات من الاتجاهات المختلفة المحيطة بالإنسان لتركيزها على فتحة القناة السمعية الخارجية الموصلة إلى طبلة الأذن، ومن جوانب الإعجاز الإلهي هنا أن القناة السمعية الخارجية تكون على شكل متعرج غير مستقيم؛ وذلك حماية للأجزاء الداخلية وطبلة الأذن من أي جسم غريب يدخل الأذن, بالإضافة إلى أنها تحتوي على غدد تقوم بإفراز مادة شمعية لاصقة لحجز الأتربة والأجسام الغريبة, وهكذا خلق الله الأذن وجعلها تحمي نفسها بنفسها.

أما الأذن الوسطى فهي حجرة صغيرة ذات جدران ستة, وتحتوي على ثلاث عظيمات سمعية دقيقة الحجم ومتلاصقة بجوار بعضها البعض, تعمل في انتظام وتوافق وتكامل, تهتز معًا استجابة لهزات غشاء الطبلة, وترتبط ببعض أربطة وعضلات متناهية في الصغر لحمايتها من التفكك إذا ما تعرضت لموجات صوتية عالية التردد، وتقوم الطبلة بالتعاون مع هذه العظيمات السمعية الثلاث بتكبير الصوت داخل أذن الإنسان إلى ما يقرب من نحو عشرين مرة.

ومن الجدير بالذكر أن طبلة الأذن لا تستطيع القيام بالاهتزازات المطلوبة على الوجه الأكمل إلا إذا كان الضغط الواقع على كل من سطحيها الداخلي والخارجي متساويًا, ولما كان السطح الخارجي للطبلة معرضًا للضغط الجوي فيجب أن يكون السطح الداخلي أيضًا معرضًا لمثل هذا الضغط, ويتم هذا التعادل عن طريق قناة خاصة تُسمى "قناة إستاكيوس" تمتد بين الحلق وتجويف الأذن الوسطى الذي تحدده الطبلة من الخارج.

ويقول الأطباء وعلماء البيولوجيا: إن نزلات البرد والزكام قد تمتد أحيانًا من الحلق- عبر قناة إستاكيوس- إلى الأذن المتوسطة, وإذا تكرر حدوث مثل هذه النزلات قد ينتج حدوث تغلظ الطبلة والعظيمات السمعية مما يؤدي إلى إصابة الإنسان بالصمم.

ونأتي الآن إلى أكثر أجزاء الأذن دقة وإعجازًا في الخلق والإنشاء, وهي الأذن الداخلية التي يتكون عضو الاستقبال فيها من مجموعة من الأغشية الدقيقة التي تتواجد داخل ما يُسمى "قوقعة الأذن", وهي عبارة عن غرفة عظمية سُمِّيت كذلك لأنها تلتوي على شكل القوقع أو الحلزون, وعند وصول الاهتزازات الصوتية إلى أغشية القوقعة ينتقل تأثيرها إلى النهايات العصبية المتصلة بتلك الأغشية، وتتجمع تلك النهايات ليتكون منها العصب السمعي, وينقل هذا العصب الإحساسات السمعية إلى الجزء المختص من المخ، ويستطيع الإنسان عندئذٍ إدراك تلك المؤثرات الصوتية والتمييز بينها.

وتحتوي الأذن الداخلية- إلى جانب القوقعة- على جهاز آخر أكثر عجبًا هو جهاز التوازن الذي يتكون من ثلاث قنوات عظمية هلالية الشكل تمتد متعامدة على بعضها البعض، وتختص بالتحكم في توازن الجسم على الأرض أو في الفضاء، وإذا حدث أي اختلال في هذا الجهاز فإن الإنسان يصبح غير قادر على الاحتفاظ بتوازنه عند الوقوف أو المشي، وقد يحدث في حالات كثيرة- عند ركوب البواخر أو الطائرات أو السيارات لمسافات طويلة بطريقة تؤدي إلى اهتزاز الجسم بصورة مستمرة أن يتأثر جهاز التوازن ويحدث ما يُعرف بـ "الدوار".

فما أعجب وأروع هذا الجهاز السمعي الدقيق الذي أنشأه الخالق العليم وجعله على أعلى درجة من الكفاءة التي تذكرنا دائمًا بقدرته تعالى: )قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون (23)((الملك).

ويوضح القرآن الكريم أهمية السمع- إلى جانب البصر وغيره من الحواس والملكات الإدراكية- في تحصيل المعرفة البشرية واكتساب العلوم المختلفة بعد أن كان الإنسان لا يعلم شيئًا عند ولادته, ويذكِّر القرآن بهذه النعم التي لا ينكرها إلا جاحد أو كافر، قال تعالى: )والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78)((النحل).

والواقع الذي كشف العلم الحديث بعض حقائقه أن كلاًّ من السمع والبصر من الحواس الغالية والمهمة في الإنسان؛ فعن طريقهما يطل على العالم الخارجي, ويتلقى المدركات, ويميز الأشياء ويتعرف عليها.

ومن الحقائق التي تجذب الانتباه في القرآن الكريم أن كلمتي "السمع والبصر" معًا وردتا تسع عشرة مرة في ثنايا القرآن الكريم, وذكر في سبعة عشر موضعًا كلمة "السمع" قبل كلمة "البصر"، منها قوله تعالى: )إن السمع والبصروالفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً (36)( (الإسراء)، وقوله تعالى: )قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقلأفلا تتقون (31)((يونس)،وهذا يعني أن هناك حكم وراء تقديم السمع على البصر في أغلب الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر اللفظين, وقد نفهم جانبًا من هذه الحكمة استنادًا إلى بعض مكتسبات العلم الحديث.

من ذلك أن فائدة الأذن لا تقتصر على عمليتي الإحساس بالسمع وحفظ توازن الجسم فقط, بل إن لها أهمية قصوى في عملية الكلام؛ فالمعروف أن الإنسان يمتاز عن باقي المخلوقات بقدرته على الإفصاح عما يريد عن طريق اللغة التي يتخاطب بها مع الآخرين من أبناء قومه، وربما يقول قائل: إن هناك عدة أنواع من الوسائل الصوتية أو التي تعتمد على حاسة الشم أو غيرها مما تستخدمه مجموعات مختلفة من الحيوانات كالأسماك أو الطيور أو الحشرات للتفاهم فيما بينها, فهذا صحيح, ولكن جميع هذه الوسائل لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى مستوى اللغات البشرية من حيث الدقة والشمول.

والمعروف أن الأطفال عندما يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعرفون شيئًا عن الكلام, بل يتعلمونه في السنوات الأولى من أعمارهم عن طريق المحاكاة, فهم يقلدون الأصوات التي يسمعونها ممن حولهم, وشيئًا فشيئًا يستطيعون النطق ببعض الألفاظ البسيطة أولاً, ثم الألفاظ المعقدة بعد ذلك, وتستمر عملية النطق تدريجيًّا إلى أن يصبحوا قادرين على الكلام كغيرهم من بني الإنسان، وهذه العملية لا يمكن حدوثها على الإطلاق ما لم يكونوا قادرين على سماع الأصوات التي تتردد حولهم, وبمعنى آخر أنهم لا يستطيعون الكلام كغيرهم من بني الإنسان ما لم يكونوا متمتعين بحاسة السمع, وهذا هو السبب في أن الطفل الذي يولد وهو مصاب بالصمم يصبح بعد ذلك في مستقبل حياته أبكم لا يتكلم, والربط بين هاتين العاهتين- الصمم والبكم- واضح كل الوضوح في عدد من آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: )ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صُمّ بُكْم عُمْي فهم لا يعقلون (171)( (البقرة).

ومن الحقائق التي أثبتها العلم الحديث أيضًا أن الجنين يبدأ بالسمع في نهاية فترة الحمل, وقد تأكد العلماء من ذلك بإجراء بعض التجارب العملية, بينما لا تبدأ عملية الإبصار إلا بعد الولادة بأيام:)إنا خلقنا الإنسان من نطفةأمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)( (الإنسان).

على أن أهم فوائد حاسة السمع على الإطلاق أنها دعامة من دعائم الإدراك والإيمان؛ فأولو الإدراك الصحيح يرهفون أسماعهم لاستقبال الآيات الكونية ويتجهون إلى الله بقلوبهم, فتشف مداركهم وتتوجه إلى نور الإيمان الخالص سائلة المغفرة وتكفير الذنوب، قال تعالى: )ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193)( (آل عمران)؛ ولهذا شهد القرآن الكريم بأناس عطَّلوا أسماعهم وعقولهم, وذلك في قوله تعالى: )وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10)((الملك)، ومن هنا فإن للسمع مسئولية عظمى يجب رعايتها حتى يؤدي وظيفته كما أرادها الله عز وجل: )الذين يستمعون القولفيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب (18)((الزمر).

حاسة التذوق وتركيب اللسان:

)ألم نجعل له عينين (8) ولسانًا وشفتين (9)((البلد).

في هاتين الآيتين الكريمتين يذكِّر الله تعالى الإنسان بما أمده من نعم في جسمه, تشمل العينين واللسان والشفتين, وذلك في صورة استفهام تقريري لكي يعتبر ويتعظ ويتأمل في كل نعمة منها، وعندما نتوقف عند نعمة اللسان ووظائفه في الإحساس بالذوق نجد أن القرآن الكريم لم يقتصر على ذكر الذوق المادي كما في قوله تعالى:)فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما( (الأعراف/ 22)، بل أنه تطرق إلى الذوق المعنوي أو المجازي كما في قول الله تعالى: )فذوقواالعذاب بما كنتم تكفرون (35)((الأنفال)،وقوله عز وجل: )كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57)( (العنكبوت).

ويجلِّي العلم الحديث بعض المعاني القرآنية المتعلقة بالإعجاز الإلهي في تركيب اللسان والإحساس بالذوق؛ فالإنسان يتناول في حياته اليومية عديدًا من الأطعمة المختلفة والمشروبات المتنوعة, وهو في تذوقه لها يعتمد على اللسان في الإحساس بالذوق ومعرفة ما إذا كان الطعام أو الشراب به ملح كثير أو قليل, أو أنه حلو بالدرجة المقبولة أو شديد الحلاوة، كما أننا إذا تناولنا أي نوع من الأدوية ندرك على الفور أن هذا الدواء مُرّ أو شديد المرارة بدرجة كبيرة أو صغيرة، ومعنى هذا أن الإنسان يستطيع عن طريق اللسان أن يميز بين مختلف المواد الموجودة فيما يتناوله من طعام أو شراب, لا من حيث نوعية هذه المواد فقط, بل أيضًا من حيث تركيزها في الطعام أو الشراب.

ولقد تعرف العلماء على أن هذه القدرة على تذوق المواد والتعرف على خصائصها وتركيزاتها يرجع الفضل فيها إلى البراعم الذوقية التي تنتشر انتشارًا كبيرًا على سطح اللسان وعلى جوانبه, ويوجد منها ما يقرب من عشرة آلاف برعم تستقر بين خلايا الغشاء المخاطي الذي يغلف اللسان, ويتكون كل برعم ذوقي من مجموعة من الخلايا الحسية الخاصة التي تتجمع معًا على هيئة المغزل, وتخرج من أطرافها الداخلية النهايات العصبية التي تحمل الإحساس إلى المخ.

وهناك أربعة أنواع من إحساسات الذوق عند الإنسان, هي: الحلاوة والملوحة والمرارة والحموضة, فهو يستطيع التعرف عليها وإدراك وجودها في سهولة تامة, ولا يتم مثل هذا الإحساس إلا إذا كانت المادة المذاقة قابلة للذوبان في الماء, أما المواد غير القابلة للذوبان- كالطباشير مثلاً- فإنها تكون عديمة الطعم.

وهكذا فإن المواد التي نتناولها لا نحس بطعمها عند وصولها إلى الفم إلا بعد ذوبانها في اللعاب؛ لأن النهايات العصبية المرتبطة ببراعم الذوق تتأثر بالتغييرات الكيميائية؛ ولذلك يُطلق أحيانًا على حاسة الذوق أنها "حاسة كيميائية".

والواقع أن الأجزاء المختلفة من اللسان لها تخصصات مختلفة فيما يتعلق بإحساسات الذوق؛ فبراعم الذوق التي تتأثر بالمواد الحلوة توجد بصفة رئيسية عند طرف اللسان, وتوجد البراعم التي تتأثر بالملوحة على جانبي اللسان وطرفه, بينما تتركز البراعم الخاصة بالإحساس بالمرارة على السطح العلوي لمؤخرة اللسان؛ ولذلك فإن الإنسان عندما يتناول شربة ملح إنجليزي مثلاً فإنه يشعر أولاً بالملوحة عندما يصل هذا السائل إلى طرف اللسان وجوانبه, على حين لا يحس بمرارته إلا عند وصوله إلى الجزء الخلفي من اللسان قبل البلع مباشرة.

والإسبرين كمثال آخر مادة طعمها مر, فإذا ابتلع الإنسان قرصًا من الإسبرين بسرعة فإنه لا يحس بمرارته, أما إذا تباطأ في ابتلاعه فسرعان ما يذوب جزء منه في اللعاب, ويتم إدراك هذه المرارة عند وصول القرص إلى نهاية اللسان.

وكم في اللسان ووظائفه من إعجازات علمية أخرى تستوجب التأمل في حكمة الخالق عز وجل.

حاسة الشم وتركيب الأنف:

قال تعالى: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص( (المائدة/ 45).

ورد ذكر الأنف في هذه الآية الكريمة مع العين والأذن والسن على وجه التخصيص؛ لأنها من أهم الجوارح في جسم الإنسان وأكثرها حساسية؛ حيث إن تعرضها للتلف أو الإصابة أو الفقدان يعرض صاحبها لنسبة كبيرة من العجز وعدم القدرة على السعي وممارسة أمور الحياة الطبيعية.

ويعتبر الأنف عضو الشم عند الإنسان, وهو عضو مزدوج كالعينين والأذنين تمامًا, كما أنه يشكل الطريق الأساسي لعبور الهواء الجوي خلال عملية التنفس التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يدرك الروائح المختلفة التي يحملها معه هذا الهواء, وتكون تلك الروائح في صورة أبخرة أو غازات تتصاعد من مختلف الأشياء التي تحيط بنا, أو التي نتداولها بين أيدينا, ولا تستطيع الخلايا الشمية إدراك تلك الغازات أو الأبخرة إلا بعد ذوبانها في الغشاء المخاطي المبطِّن للأنف, أو التجويفات الأنفية, وتنتقل بعد ذلك تلك الإحساسات الشمية عن طريق عصب الشم إلى المراكز المختصة في مخ الإنسان؛ حيث يمكن عندئذ إدراكها والتمييز بينها: فهناك على سبيل المثال, الروائح الذكية التي تنبعث من الأزهار والعطور وغيرها مما يستطيبه الإنسان, كما أن هناك أيضًا الروائح الكريهة والنفاذة التي تتصاعد من البرك والمستنقعات والمياة الراكدة, أو تندفع من محركات الديزل ومداخن المصانع, مثل أبخرة الكبريت المحترق وغيرها من المواد الكيميائية الطيارة.

وقد أثبت العلم أهمية الغدد المخاطية في عملية الشم؛ حيث إنها تقوم بإفراز كميات من السائل المخاطي الذي يتكون أساسًا من الماء بنسبة 96%, وقد قدر العلماء أن الأنف يفرز يوميًّا نحو لتر من هذا السائل المخاطي المذيب للمواد ذات الروائح المختلفة، ومن المعروف أن الإنسان يفقد حاسة الشم تمامًا عندما يُصاب بالزكام؛ إذ ينتفخ الغشاء المخاطي في هذه الحالة ويمنع الروائح الغازية من الوصول إلى الخلايا الشمية الموجودة داخل الأنف.

ومن الجدير بالذكر أن الله عز وجل خلق الأنف بتركيب محدد يهيئه للقيام بوظائف عديدة منها تكييف الهواء الداخل إلى الجهاز التنفسي؛ حيث إن غشاءه المخاطي المبطِّن له يحتوي على كمية كبيرة من الأوعية الدموية, بالإضافة إلى وجود زوائد ذات نسيج إسفنجي تحتوي على كمية أكبر من الأوعية الدموية, وحينما يمر الهواء الداخل للأنف على هذه الكمية الهائلة من الأوعية الدموية تتحول درجة الحرارة المناسبة لجميع التفاعلات الكيميائية والبيولوجية, ومقدارها 37 درجة مئوية، كذلك يقوم السائل المخاطي بالتقاط حبيبات الأتربة والأجسام الغريبة الموجودة بالهواء؛ لما أودع الله فيه من صفة اللزوجة, بالإضافة إلى وجود الإنزيمات القاتلة للميكروبات التي تحاول أن تغزو الأنف.

ولا تقتصر حاسة الشم على الإنسان وحده, بل إن هناك من الحيوانات ما يتفوق عليه بصورة ملحوظة في هذا المجال؛ فقدرة الكلاب مثلاً على تمييز الروائح المختلفة من المعجزات الحقيقية التي لا يستطيع الإنسان بعلمه أن يقدم تفسيرًا مقبولاً لها, وخير دليل على ذلك ما يُشاهد في كلاب الصيد أو في الكلاب البوليسية التي تُستخدم في التعرف على الجناة والمجرمين.

وفي الغابات أيضًا؛ حيث يكون الصراع رهيبًا بين الحيوانات المفترسة والفرائس التي تتغذى عليها- تلعب حاسة الشم دورًا رئيسيًّا في حياة هذه الحيوانات على اختلاف أنواعها، ومن المتعارف عليه لدى الصيادين الذين يخرجون إلى الغابات والأدغال لصيد الحيوانات البرية ألا يتواجدوا في اتجاه الريح الذي يهب عليهم حتى لا يحمل الهواء رائحتهم إلى تلك الحيوانات, فتلوذ بالفرار في حالة آكلات العشب كالغزلان والزراف، أو تتأهب للهجوم عليهم إن كانت من الوحوش كالأسود والنمور وغيرها؛ ومن ثم، فإن خاصية الشم هي في الواقع من الآيات المعجزة في عالم الحواس.

التنفس والحركات التنفسية:

قال الله تعالى: )وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21)( (الذاريات).

هذه دعوة قرآنية صريحة إلى التأمل في نفس الإنسان, فالله عز وجل يوجه أنظارنا إلى البحث في أنفسنا والتعرف على محتويات أجسامنا وكيف رُكِّبت في هذا البناء الدقيق الذي يحتوي بداخله على عجائب وأسرار ومعجزات تشهد بقدرة الخالق الواحد عز وجل.

والحديث عن التنفس والحركات التنفسية يأتي استجابة لهذه الدعوة القرآنية؛ فالتنفس في مفهومه العام هو استنشاق الهواء من الجو ليصل إلى الرئتين, ثم طرد هذا الهواء إلى الخارج مرة أخرى في عمليتي الشهيق والزفير, وبين هاتين العمليتين المتتاليتين يحدث تغيير كبير في تركيب الهواء داخل الرئتين, فهما تستخلصان منه بعض الأكسجين وتزوِّدانه بغاز آخر هو ثاني أكسيد الكربون.

ولا يقتصر مفهوم التنفس من الناحية الفسيولوجية عند هذا الحد, بل يمتد أيضًا إلى انتقال غاز الأكسجين إلى أنسجة الجسم الداخلية واستخدامه في عمليات التأكسد، ثم انتقال ثاني أكسيد الكربون الناتج عن هذه العمليات من أنسجة الجسم إلى الرئتين للتخلص منه.

ويتم هذا الانتقال في جميع الحالات عن طريق الدورة الدموية، والواقع أن عمليات التأكسد التي تحدث داخل الأنسجة المختلفة للجسم هي عمليات مستمرة وضرورية لحياة الإنسان؛ إذ ينتج عنها تفجر الطاقات الحرارية الكامنة في غذاء الإنسان واستخدامها في كل ما يقوم به من الأعمال الجسدية أو العقلية في حياته اليومية.

ويتكون الجهاز التنفسي- الذي أوكل الله إليه القيام بعملية التنفس- من الأنف والبلعوم والحنجرة والقصبة الهوائية بتفرعاتها المختلفة والرئتين، وتبطِّن هذا الجهاز بأجزائه المختلفة- من الداخل- أغشية مخاطية تحتوي على نوعين من الخلايا التي تساعد على تنظيف الممر التنفسي من الشوائب التي تكون عالقة بالهواء الجوي.

والجزء الرئيسي في الجهاز التنفسي هو القصبة الهوائية التي يبلغ طولها في الإنسان حوالي أربع بوصات ونصف, وهي تتصل من أعلى بالحنجرة التي تحتوي على الأحبال الصوتية, ومن أسفل تنقسم إلى شعبتين تتصل كل منهما بإحدى الرئتين, وتنقسم كل شعبة إلى فروع أصغر فأصغر حتى تنتهي بفروع صغيرة دقيقة تُسمى "الشعيبات"، وتتصل الشعيبات النهائية بحجرات دقيقة توجد داخل الرئتين وتُعرف بـ "الحويصلات الرئوية", وتلتصق بالجدران الرقيقة لهذه الحويصلات الرئوية من الخارج شبكة رقيقة معقدة من الشعيرات الدموية، ويتم تبادل الغازات بين الشعيرات الدموية والحويصلات الرئوية أو العكس من خلال تلك الجدران الرقيقة جدًّا, فيمتص الدم الموجود في الشعيرات الدموية غاز الأكسجين من الهواء الذي يملأ الحويصلات الرئوية, ويطرد إلى هذه الحويصلات غاز ثاني أكسيد الكربون في عمليات مستمرة لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة.

وهكذا نجد أن الحركات التنفسية ضرورية لحياة الإنسان, وهي مستمرة في أثناء الليل كما هي في أثناء النهار, وهي لا تنقطع عندما ينام الإنسان, ولكن ينخفض تتابعها عما هو عليه في أثناء اليقظة، كما يزداد هذا التتابع بشكل واضح عندما يقوم الإنسان بمجهود شاق كما يحدث عند العَدْو أو السباحة أو خلال ممارسة الألعاب الرياضية العنيفة.

والواقع أن انتظام التحركات التنفسية في عمليتي الشهيق والزفير يؤدي إلى إمداد الجسم بهواء متجدد تستخلص منه الرئتان جميع الاحتياجات الضرورية من غاز الأكسجين, وتتخلص في الوقت نفسه من ثاني أكسيد الكربون الناتج عن عمليات الاحتراق الداخلي.

ويحدث في بعض الأحيان أن تتوقف الحركات التنفسية, ويصبح الإنسان موشكًا على الموت كما في حالات الغرق أو انهيار الجسم تحت تأثير المخدر- البنج- قبل إجراء إحدى العمليات الجراحية, ويلزم عندئذ الإسراع في إعادة الحركات التنفسية إلى حالتها الطبيعية عن طريق التنفس الصناعي؛ إنقاذًا لحياة المريض قبل فوات الأوان, إن مثل هذه الحالات يذكرنا دائمًا بما أودعه الله  سبحانه وتعالى في أجسامنا من أجهزة حيوية تعمل ليل نهار دون كلل أو ملل للإبقاء على نعمة الحياة، فتبارك الله أحكم الحاكمين.

بصمات الأصابع:

قال تعالى: )أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوِّي بنانه (4)( (القيامة).

لقد توصل العلم حديثًا إلى كشف النقاب عن بعض أسرار البنان, وبيَّن أن البصمة تتكون من خطوط بارزة في بشرة الجلد تجاورها منخفضات، وتعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العرقية, تتمادى هذه الخطوط وتتلوى, وتتفرع عنها تغصنات وفروع, لتأخذ في النهاية وفي كل شخص شكلاً مميـزًا, وقد ثبت أنه لا يمكن للبصمة أن تتطابق وتتماثل تمامًا في شخصين في العالم حتى في التوائم المتماثلة التي تنشأ في الأصل من بويضة واحدة.

ويذكر تاريخ العلوم أن العالم البولندي بركنجي- أستاذ التشريح وعلم وظائف الأعضاء بجامعة براسلاو- من أوائل من لاحظوا أن بجلد الأصابع بروزات ذوات أشكال معينة، وفي عام 1858م أثبت السير وليم هرشل أن شكل بشرة الأصبع يدل على صاحب هذا الأصبع ويثبت فرديته, وعلى الرغم من أن السير فرنسيس جالتون قد أثبت عام 1892م أن صورة البصمة لأي أصبع تعيش مع صاحبها طول حياته فلا تتغير, إلا أن الريبة بقيت بين الناس والقضاة بشأن هذه البصمات إلى أن وقعت جريمة في مدينة ديتفورد بإنجلترا, وأمكن اكتشاف القاتل بمضاهاة بصمة أصبعه على بصمة تركها بموقع الجريمة, وكانت البصمة في اليوم التالي على الصفحات الأولى من صحف لندن, وأطلق عليها "البصمة التاريخية"؛ لأنها أزالت الشكوك بشأن البصمات ودلالتها, أكثر من الإمضاء أو أي شيء آخر على إثبات شخصية المرء, فهي أدل على الإنسان من وجهه ومن صورته, وهي من أخص خصائصه, وجلد الأصبع لو احترق وتكون مكانه جلد جديد ظهرت البصمات بمثل أشكالها التي كانت عليها في الجلد القديم.

والعلماء الحاسبون في علم البصمات يذكرون أن لبصمة الأصبع نحو مئة من الصفات والخصائص التي تحدد أشكالها ومواضعها, وهم يبنون حساباتهم على امتحان اثنتي عشرة خصيصة اتفق عليها رجال الضبط والأمن بكل البلاد, ولن نجد اثنين يشتركان في هذه الخصائص الاثنتي عشرة إلا مرة في كل أربعة وعشرين بليونًا من الأفراد، هذا إذا أخذت بصمة أصبع واحدة, فما بالك بالأصابع العشرة.

وقد ورد في الموسوعة العربية العالمية سنة 1989م أن سجل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) في الولايات المتحدة الأمريكية جمع حوالي مئة وخمسة وسبعين مليونًا من بصمات الأصابع فلم يكن بينها اثنتان متشابهتان تمامًا.

وثبت علميًّا أن البنان يتم تكوينه وتسويته في الجنين في الشهر الرابع, ويظل هذا التكوين ثابتًا ومميزًا له طوال حياته, ويمكن أن تتقارب بصمتان في الشكل إلى حد ما, ولكنهما لا تتطابقان تمامًا.

وقد تبين حديثًا أن بصمات أصابع القدمين تختلف أيضًا من فرد إلى فرد، شأنها شأن بصمات أصابع اليد، وتستعين بعض مستشفيات الولادة حاليًّا في البلاد بهذه الظاهرة المعجزة؛ لكيلا تتسلم أم ولدًا غير ولدها الرضيع بطريق الخطأ, فهنالك يأخذ المشرفون بصمتي قدم الطفل وبصمة إبهام الأم في بطاقة خاصة.

فسبحان من أقام في يد الإنسان وقدمه شاهدًا على كل ما جنت يداه, وسبحان الذي أنزل القرآن الكريم وبه من الحقائق ما يوافق العلم الصحيح، ويؤكد لكل جاحد أن البعث حق, كما أن الموت حق: )وقل الحمد لله سيريكمآياته فتعرفونها( (النمل: ٩٣).

نعمة النوم واليقظة:

قال الله تعالى: )ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23)((الروم).

تشير هذه الآية الكريمة إلى نعمة كبرى من النعم الإلهية التي يغفل عن فضلها كثير من الناس, اللهم إلا عندما يصابون بالأرق أو التوتر والإجهاد، ثم ينشدون الراحة بالخلود إلى النوم ولو لفترة محدودة؛ فالنوم سنة حيوية ضرورية يعتمد عليها الإنسان لراحة جسمه وفكره وقلبه حتى يستطيع مواصلة سعيه الدءوب في الحياة الدنيا بنشاط متجدد وحيوية متدفقة، وحاجة الإنسان إلى النوم لا تقل أهمية عن حاجته إلى الطعام والشراب، بل إن الكائنات الحية تشترك مع الإنسان في أنها تحتاج أيضًا إلى النوم بصور ودرجات متفاوتة تختلف باختلاف أنواع هذه الكائنات, وهناك من الكائنات الحية ما يمكنها أن تخفض نومها إلى أدنى حد ممكن, ولكنها لا تستطيع أن تستغني عن النوم تمامًا، حتى الدلافين التي تظل في حركة دائمًا في الماء نجدها تنام بطريقة فريدة يتم فيها يقظة أحد نصفي المخ بالتناوب مع النصف الآخر في أي وقت من الأوقات.

ولم يتوصل العلماء بعد إلى تفسير مماثل بالنسبة للطيور المهاجرة التي تمثل مشكلة من نوع خاص؛ ذلك أن هذه الطيور تضطر أثناء الهجرة إلى الطيران فوق المحيطات المكشوفة الممتدة عدة أيام متتالية دون توقف، ويتعذر في هذه الظروف إجراء أبحاث وتجارب للكشف عما إذا كانت هذه الطيور تستغني عن النوم تمامًا أم أنها تستطيع النوم أثناء الطيران.

وعلى كل حال؛ فقد تقدمت أبحاث النوم كثيرًا خلال العقود الأخيرة، وخاصة بعد أن تمكن علماء البيولوجيا والعقاقير والطب من ملاحظة الرابط بين النوم وبين الإيقاعات البيولوجية التي تحكم تبادل أو تعاقب أطوار الراحة والنشاط على مدى أربع وعشرين ساعة في معظم الحيوانات, وينشأ عنها نوع من المؤشرات الدالة على الوقت وكأنهاساعة داخلية أو ساعة بيولوجية في الكائن العضوي، وهذه العمليات ذات التعاقب أو التبادل الدوري اليومي يمكن ملاحظاتها في كل أرجاء المملكة الحيوانية بما في ذلك أبسط صور الحياة التي تتألف من خلية واحدة.

والنوم يمكن أن يُعد عملية تكيف للظروف التي يعيش فيها الكائن الحي والظروف القائمة داخله؛ فقد رأينا على سبيل المثال كيف أن الدلافين قد واءمت بين حركتها الدائمة في الماء وبين نوم أحد نصفي المخ بالتناوب مع النصف الآخر, كذلك فإن الكائن الحي يستهلك قدرًا أقل من الطاقة عندما تنخفض عنده معدلات التمثيل الغذائي, كما تنخفض معدلات تبدد الحرارة وضياعها من الجسم، وهكذا يمكن النظر إلى خمول وسكون المخلوقات النائمة على أنه نوع من الاقتصاد في موارد الطاقة المحدودة, تلك الموارد التي يكون مآلها إلى النفاد لو استمر نشاط الكائنات الحية بصفة مستمرة وبدون انقطاع.

ونحن نستطيع أن نلحظ التكيفات للظروف الخارجية والداخلية، وهي تحدث عند الإنسان كما تحدث في الحيوان؛ فعادة القيلولة التي هي كثيرة الشيوع في البلاد الحارة مثال جيد يبين لنا كيف يتكيف سلوك النوم واليقظة للظروف المناخية؟ وفضلاً عن ذلك, فإن النوم بصفة عامة يفيد في وقاية الكائنات الحية من الإنهاك أو الإجهاد الذي قد يترتب على بقائها نشطة فترة أطول مما ينبغي، فكما أننا نأكل على فترات منتظمة حتى نتجنب الجوع نجد أن للنوم عند فترات منتظمة وظيفة وقائية مشابهة.

وإذا كان العلماء قد تأكدوا من أن النوم عملية طبيعية ضرورية لاستعادة الراحة والنشاط, فإن العلم لا يزال عاجزًا حتى يومنا هذا عن تقديم تفسير كامل لأسباب النوم, وقد عبر عن هذا العجز الدكتور ألكسندر بوريلي- أشهر الباحثين المعاصرين على المستوى العالمي في مجال أبحاث النوم والأحلام- بقوله: "إن الأمر لا يقتصر على أننا نبحث عن عملية تقع عادة في الظلام, بل إننا لا نزال نعيش كذلك في ظلام الجهل بوظائفها, وما الهدف الرئيسي لأبحاث النوم إلا أن نلقي بعض الضوء على هذا الكلام آملين أن نسدي بعض العون لكل هؤلاء الملايين من الناس الذين يأوون إلى فراشهم بالليل ثم يستدعون النوم فلا يستجيب لهم".

ويشير القرآن الكريم إلى أهمية تعاقب النوم واليقظة في حياة الإنسان واحتياج الإنسان إليهما؛ لكي يرتاح بعد عناء النهار ويستعيد نشاطه وحيويته ليبدأ السعي من جديد ويبتغي من فضل الله عز وجل، قال تعالى:)وجعلنا نومكمسباتًا (9) وجعلنا الليل لباسًا (10) وجعلنا النهار معاشًا (11)( (النبأ)، وقال أيضًا عز من قائل: )وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا والنوم سباتًا وجعل النهار نشورًا (47)((الفرقان)، والسبات هنا بمعنى الراحة والاسترخاء, وهو إشارة إلى فسيولوجية النوم؛ فقد ثبت أن النوم يعمل على تهدئة معظم وظائف الأعضاء بجسم الإنسان, كما ثبت أن طول فترة اليقظة يصحبه قصور متزايد في وظيفة العقل ينتج عنه تصرفات غير طبيعية.

وقد أُجريت تجارب عديدة للتعرف على آثار الحرمان من النوم؛ فأظهرت أن استمرار اليقظة لأكثر من أربعة أيام يسبب اضطرابات نفسية خطيرة، ويؤدي أحيانًا إلى فقدان الشخصية والانفصال عن العالم السوي.

ويُعتبر التعذيب بالأرق إحدى الوسائل المستخدمة لإجبار الأسرى والمسجونين على الاعتراف عن طريق استمرار استجوابهم، بحيث يمنعون من النوم حتى تنهار مقاومتهم، وغني عن الإيضاح أن ضغط الدم وسرعة النبض ونشاط الجهاز الهضمي واسترخاء العضلات كلها تتأثر بحالتي النوم واليقظة.

وقد أثبتت أبحاث النوم البيولوجية والطبية حديثًا أن هناك مركزًا عصبيًّا في أسفل المخ وفوق بداية النخاع الشوكي تفرز خلاياه مادة هرمونية اسمها سيروتونين (Serotonine) تعمل على خلق الرغبة في النوم، وأثناء النوم ينشط العقل الباطن ويتوقف نشاط العقل الواعي, ويكون لهذا أهمية صحية كبرى للإنسان؛ حيث يعمل على تفريغ الشحنات العاطفية وانفعالات الغرائز على هيئة أحلام أو حركات بدائية لا إرادية.

من ناحية أخرى, يقوم الجهاز السمبتاوي التعاطفي أثناء اليقظة بإفراز مواد تنشيطية مثل الأدرينالين ومشتقاته؛ لتساعد الإنسان على مواجهة المواقف غير العادية وتحفز الانفعالات، وأثناء النوم يقل نشاط هذا الجهاز التعاطفي، بينما يزيد نشاط الجهاز الباراسمبتاوي الذي يفرز مادة الأسيتايل كولين، وهي أحد النواقل العصبية التي تعمل على تهدئة الانفعالات، وتساعد على استمرار نبض القلب وأتوماتيكية التنفس والإبقاء على حياة الإنسان أثناء النوم, وكذلك الإبقاء على وظائف الأجهزة الحيوية؛ مثل: الأمعاء والكليتين وإفراز العرق والمواد الضارة بالجسم, كما يتخلص الجسم من حمض اللبنيك- أو حمض اللاكتيك (Lacticacid)- ومشتقاته الضارة التي تفرزها العضلات وتسبب الإحساس بالضعف والإجهاد؛ لذلك يشعر الإنسان بعد قضاء فترة النوم بالراحة وارتخاء العضلات ويحس بالنشاط والانتعاش.

إن كلاًّ من النوم واليقظة يخضعان لتأثير أجزاء محددة من المخ أمكن معرفتها بعد دراسات تجريبية مكثفة، فمراكز النوم تكون موجودة تحت مستوى منطقة الوسط في جسد أو قنطرة المخ, وإثارة أجزاء خاصة في المخ قد تسبب نومًا قريب الشبه من النوم الطبيعي؛ مثل: النخاع المستطيل- الجزء السفلي من الجسر أو قنطرة المخ- ومنطقة المهاد وتحت المهاد، أما مركز الإيقاظ فهو موجود في النسيج الشبكي بين خلايا المخ، وهو متصل بمراكز المخ العليا, كما تصله إشارات من العين والأذن والعضلات والحواس.

وتختلف كمية النوم على حسب سن الشخص؛ فالطفل يحتاج إلى فترة أطول من الشخص البالغ, وبين سن العشرين والستين تكون ساعات النوم في المتوسط من 7 إلى 8 ساعات، وكلما كان النوم أعمق استفاد منه الجسم أكثر, وإن كانت نوعية النوم تتغير هي الأخرى بصورة واضحة على مدى حياة الشخص؛ ففي الأشهر الأولى بعد الولادة يستيقظ الطفل كثيرًا بسبب أشياء تستحثه على ذلك؛ مثل: الجوع والبلل, والطفل الكبير ينام في سلام نومًا متصلاً عميقًا, وفي الشباب يكون التقطع في النوم أكثر حدوثًا, وكثير من كبار السن يشكون من الأرق وطول فترات اليقظة([xii]).

هذا بعض من إعجاز الخالق في خلق الإنسان, بما يدل على عظمته ودقة صنعه, وجليل تقديره, ولو أخذنا في تفصيل خلق الإنسان وما فيه من حكمة وتقدير لأخذنا صفحات عدة, ويكفي للدلالة على ذلك الطريقة العجيبة في خلق الإنسان وتكوينه في رحم أمه من كونه نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم كسوة العظام باللحم، ثم جنينًا تنفخ فيه الروح حتى يخرج إلى الحياة في أحسن صورة وأبهى منظر؛ ليدل بكل وضوح على وجود الخالق الحكيم المبدع.

ثم أمر آخر في الوجود الإنساني لا يزال يدهش العلماء دون وقوف على حقيقته ألا وهو الروح ذلك السر الإلهي العجيب, الذي أودعه الخالق في الإنسان؛ ليدل دلالة مباشرة عليه؛ ومن ثم، "إذا ما تحرر الإنسان من نفسه المظلمة فسيرى عظمة الخالق ممثلة في جمال مخلوقاته, وبدائع صنعه, من أصغر ذرة إلى أعظم جرم, ومن أدق زهرة إلى أضخم شجرة, ومن أضيق جدول رقراق إلى المحيط الهادر، وهو قد يصل في سبحات روحه إلى ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر، نعم، قد يصل الإنسان إلى كل هذا ثم يدرك الحقيقة العظمى، يدرك وجود الله.

يقول الدكتور موريسون: إن الروح الخالدة التي لا يعوقها الزمن قد ترى أحبابها وتضمهم إلى صدرها, ولما كان تصورها الذي كمل قد أصبح حقيقة روحانية فإنها تقدر أن ترى الحقيقة الكبرى؛ أعني الخالق عز وجل, والجنة هي حيث يشاء أن تكون... وإذ ترتفع روح الإنسان الخالدة صوب الله, كاسبة في طريقها سعة من الفهم, إذ ترقى نحو الملكوت الأسمى- فإن جمال خلق الله في العالم المادي يتباعد عن النظر, كما تضمحل صور الطفولة من ذهن الإنسان حين ينضج, وهكذا قد تهبط الكرة الأرضية حقًّا إلى درجة التفاهة, مع تأمل الكون, وإذا في روعة الإدراك الروحاني قد تصبح المادة مثل الظل الذي يبهت أمام الشمس المشرقة وتصبح كـلا شيء.

وهكذا يستطيع الإنسان بكفايته الروحانية أن يتصور القدرة الإلهية, ومع تطور روحانيته سيكون أقرب إلى إدراك جلال الخالق وقدرته وعظمته.

هذه كلمات عالم قضى عمره بين التجارب المادية, ولكن الروح الصافية لا يحجبها حاجب عن الاتصال ببارئها, فهي دائمًا تتوق إلى الذات الأسمى, مقهورة بفطرتها, منجذبة بطبيعتها, آوية إلى خالقها"([xiii]).

هذا هو الإنسان بكل مكوناته وتركيبه يدل بدقة ووضوح على خالق قدير أوجده بهذه الروعة والتكامل، إن الإنسان يدل على خالقه أوضح دلالة, ويشهد بوجوده أصدق شهادة, والإنسان مفطور على الإيمان بالخالق.

3. أدلة علم الأحياء على وجود الله:

إن النظر في الأحياء من حولنا ودراسة الكائنات الحية من حيوان ونبات من حيث التركيب والوظائف وطرق المعيشة والنمو والتكاثر, ودراسة الخلايا الحية لهذه الكائنات- كل هذا ليوقفنا على الإيمان بوجود خالق حكيم مبدع، خلق هذه المخلوقات على نحو من الدقة والإرادة والقصد, والذي قال: )قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)((طهأجل أعطى كل شيء خلقه, وهداه لمعيشته، وما يكفل له استمرار الحياة, ولا يمكن لعاقل وقف على هذه الدراسات والمخلوقات أن يقول: إنما ذلك نتاج العبث أو الصدفة أو أنه نتاج المادة الصماء, فكل هذا يناقض مسلَّمات العلم والعقل على السواء؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه, فكيف تنشأ الحياة من مادة عمياء, لا حياة فيها ولا حراك، وكيف لهذا الخلق البديع أن يكون دون هدف أو قصد؟!

إن عالم الأحياء مليء بكل ما هو عجيب ودقيق, وبه من الإحكام المتناهي والعظمة الكاملة في كل صغير وكبير من عالم النبات وعالم الحيوان, وعالم الحشرات, وعالم الطيور, وما تكنه هذه العوالم من طريقة في الحياة, ونظام في النمو, وتكيف في المعيشة, وإلهام في الطباع والغذاء والحفاظ على الحياة.

كل هذه الحيوانات والمخلوقات لا تنفك تنطق بوجود خالق حكيم قادر أبدعها وألهمها, ورزقها وكيَّفها مع الحياة، وهداها سبلها, خالق حكيم قصد لهذا الخلق قصدًا, وأراده على نحو من الإبداع والتفرد.

وتعرض الصفحات القادمة لبعض مما تنطوي عليه هذه العوالم؛ مما يثبت وجود خالق حكيم وراء هذه المخلوقات المبهرة, وما فُطرت عليه من آيات وطباع, لا تعود إلا إلى خالق حكيم مدبر مريد.

1. عالم النبات:

تنوع النباتات:

قال الله تعالى: )وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلىثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99)( (الأنعام).

تنبه هذه الآية الكريمة إلى دلائل القدرة الإلهية في عالم النبات الذي يزخر بالكثير من الآيات الناطقة بعظمة الخالق وجلاله؛ وذلك أن النباتات جميعها تتغذى وتنمو في وجود الماء والضوء والكربون والأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والفوسفور والكبريت والبوتاسيوم والكالسيوم والماغنسيوم والحديد... ومع أن الغذاء بهذه المواد والعناصر واحد إلا أن الأرض ينبت فيها التفاح الحلو والحنظل المر والقطن الناعم والصبار الشائك والقمح والشعير والبرتقال والليمون والنخيل والعنب والتين والزيتون والرمان... تربة أرضية واحدة وعناصر غذائية واحدة وماء واحد وبذور متناهية في الصغر تنبت آلاف الأنواع من النبات والثمار... وتتعدد الأشكال والألوان والروائح والطعوم.

وتتجلى قدرة الخالق عز وجل فيما أودعه في النباتات من تحورات تتلاءم مع مختلف الظروف البيئية؛ فهناك النباتات المائية التي تعيش في المستنقعات والبحيرات العذبة، وفي الترع والمصارف، وعلى جوانب الأنهار البطيئة التيار، وفوق الأراضي المشبعة بالماء, وهي تختلف في تركيبها الداخلي وأشكالها الخارجية عن النباتات الأخرى؛ فهي تستجيب لوفرة الماء, وتتحور سوقها وأوراقها مع نقص ملحوظ في مجموعها الجذري وزيادة كبيرة في أجهزة التهوية لشدة افتقار الماء إلى الأكسجين اللازم للتنفس، وهناك النباتات الصحراوية التي تتميز بوجودها في جفاف من التربة والجو، وأكثر أعضاء هذا النوع من النباتات تحورًا واستجابة لمقاومة الجفاف والرياح وارتفاع الحرارة هي الأوراق التي تحد من تبخر الماء وتخفف من شدة أشعة الشمس, وكثيرًا ما تختزل الأوراق لتحل محلها السيقان من الناحية الوظيفية- الفسيولوجية- بل قد تتعملق هذه السيقان وتتشحم لاختزان الماء على نحو ما نجد في نبات التين الشوكي, وقد زوَّد الله هذه النباتات بتحورات خاصة لتقيها من الضرر, فمنها ما يكون مغطًّى بالأشواك، ومنها ما يكون مغطًّى بأوبار صلبة, أو تتطاير منه زيوت طيَّارة, أو غير ذلك.

وهناك من ناحية ثالثة النباتات التي تشغل موقعًا بيئيًّا وسطًا بين النباتات المائية والنباتات الصحراوية, وتشمل هذه المجموعة غالبية نباتات الحاصلات؛ مثل: الفول والبرسيم والقطن والقمح والذرة والشعير، وهناك أيضًا النباتات الملحية التي تعيش في الأراضي الغنية بالأملاح وتتميز بشدة الارتفاع في درجة تركيز محلولها الجذري، وهناك النباتات المتسلقة ضعيفة الساق, ومن حكمة الخالق أن أوجد لها من الدعائم ما يساعدها على الالتفاف حول ما تتسلق عليه.

ومن عجائب التنوع في عالم النبات ذلك النوع الذي يسميه العلماء "النباتات آكلة اللحوم", وهي تنمو في أرض قليلة المواد العضوية، وتستوفي احتياجاتها من هذه المواد عن طريق آليات خاصة تعمل لاصطياد ما يقع على أوراقها من حيوانات صغيرة وحشرات, فتطويها بداخلها مثل طي المصايد للفئران, ثم تصب عليها من الإنزيمات ما تعمل على تحليل أجسادها وتحرير ما بداخلها من مواد عضوية يمكن استغلالها, ثم تلفظ هذه المصايد النباتية إلى الخارج بعد ذلك ما تبقَّى منها.

ويحصي العلماء حوالي 500 نوع من هذه النباتات المفترسة في مختلف أنحاء العالم، وأكثر ما يثير العجب من هذه الأنواع تلك النباتات التي تعمل كمصايد للإنسان بسبب غزارة نمـوها إلى الحد الذي يجعلها تخفي عن الإنسان مدى تفكك التربة التي تتوسدها وتكسوها، فتبدو وكأنها بساط أخضر ممهد يغري بالسير عليه, بينما هي في حقيقة الأمر مقبرة تغوص فيها الأجساد، ومن أمثلة هذا النوع نبات ابن سينا الذي يعيش في بعض جزر البحر الأحمر بالمياه المصرية.

ويستدل بعض العلماء من سلوك هذه النباتات الآكلة للحوم على احتمال وجود جهاز عصبي موضعي يستشعر الحافز لوجود الحشرات أو الحيوانات الدقيقة، ويحرك بعض أعضاء النباتات لاصطيادها والاستفادة مما تحتويه من مغذيات، ويكون النبات في هذه الحالة مثله مثل إنسان مقيد في الأرض لا يستطيع الحراك, ولكن لديه القدرة على تحريك أحد أعضائه لتحقيق ما يبتغيه من أشياء قريبة المنال.

ولما كان من المعروف أن تحريك الإنسان لأحد أعضائه يعني الاستجابة الحسية للجهاز العصبي الذي يستشعر الأهداف والحوافز ويستجيب لها بالحركة الانعكاسية- فهناك احتمال كذلك بوجود جهاز عصبي موضعي في النباتات آكلة اللحوم لإتمام مثل هذه الانعكاسات الحركية.

فسبحان الذي جعل من تنوع المخلوقات دليلاً على ألوهيته ووحدانيته، فهو)الذي جعل لكم الأرض مهدًا وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى (53)( (طه).

الماء والإنبات:

قال الله تعالى: )أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60)( (النمل).

يبين الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن من دلائل عظمته وقدرته ووحدانيته إنزال الماء من السماء, فينبت به النبات والحدائق ذات الجمال والخضرة, والمنظر الحسن البهيج، وخصت الآية الكريمة بالذكر عملية الإنبات باعتبارها من عظائم قدرة الله الخالق الواحد, فما كان للبشر- وليس بمقدورهم- أن ينبتوا شجرة فضلاً عن ثمرها.

وقد ربطت الآية الكريمة بين الماء والإنبات, والماء شرط ضروري وأساسي لعملية الإنبات, وقد تظل البذرة أو الحبة في التربة سنوات عدة, لا تنبت ولا تتحرك إلى أن ينزل عليها الماء؛ فتبدأ عملية الإنبات العجيبة التي قد يجريها طفل عندما يضع البذور فوق قطعة قطن مبللة بالماء, وهو لا يدري أنه يقوم بعملية بالغة التعقيد، فإذا سقط الماء على البذرة أو الحبة, فإنه يتشرب في غلافها بفعل قوى التشرب ذات القوانين الرياضية الدقيقة.

وإذا كان غلاف البذرة أو الحبة غير منفذ للماء فإن الماء لا يصل إلى الجنين, وبذلك لا تنبت البذور، وهناك فعلاً بعض البذور ذات الغلاف الصلب الذي لا ينفذ الماء؛ مثل: بذور الخروع, ولكن الله عز وجل قد زوَّدها بثقب في المقدمة يحيطه تركيب إسفنجي يشرب الماء بسرعة ويسمح بوصوله إلى الجنين, والبذرة العادية- كالفول البلدي- لها ثقب يُسمى "النقير" (Micropyle) ويسمح بمرور الماء إلى داخلها.

وفور دخول الماء إلى البذرة تحدث تغيرات فيزيائية تؤدي إلى زيادة حجم الحبة وانتفاخها إلى أن يتمزق غلافها, وتحدث في الوقت نفسه عمليات كيميائية يبدأ معها الجنين في إفراز فيض من الإنزيمات المحللة للمواد الغذائية المدخرة في البذور والحبوب, فتحولها من مواد معقدة التركيب- لا تنفذ إلى خلايا الجنين وبذلك لا يمكنه الاستفادة منها- إلى مواد بسيطة التركيب صغيرة الجزيئات تنفذ خلال جدران الخلايا، وتقوم هذه الإنزيمات بتحليل بعض المواد الصلبة, كتلك الموجودة في بذرة شجر الدوم وتحولها إلى مواد رخوة، لبنية اللون والقوام، حلوة الطعم، سهلة الهضم والامتصاص.

ومن الجدير بالذكر أن هذه العمليات تتم في درجة الحرارة العادية بين 25° : 30°, وتجري في هدوء تام وسكون عجيب داخل تلك البذرة التي وضعها الطفل فوق قطعة القطن المبللة بالماء, وتحدث أيضًا في حقل الفلاح البسيط الذي لا يعرف شيئًا عن المعادلات الرياضية ومعامل الأبحاث العلمية, ولا يقتصر الأمر على ما ذكرناه من عمليات فيزيائية وكيميائية, بل تبدأ في أثنائها وبعدها عمليات حيوية رائعة ومثيرة؛ حيث يحدث انقسام خلوي, وتتكون صبغيات- كروموسومات- وراثية, وتنسج مغازل Spindles)), وتُبنى جدران، وتنبعث حرارة، وتدب حياة، وتتكشف أعضاء، ويتجه جذر إلى الأرض وساق إلى السماء، ويتم هذا كله في حماية عجيبة، وتدبير دقيق، وانسجام معجز.

إن من ينظر إلى شجرة التوت الضخمة (MorusAlba) أو شجرة الكافور العملاقة (Eucalyptus), أو شجرة الجميز المعمرة (Sycamore)-يجد أن بذورها الصغيرة التي لا تتجاوز الواحدة منها حجم رأس الدبوس غنية بالعمليات والمعلومات التي يعجز عن حملها أدق الحاسبات الآلية؛ فقد أودع الله هذه البذور الدقيقة شروط إنباتها ومواقيت خروج جُذَيْرها ومراحل انقسامه واتجاه نموه, بالإضافة إلى نوع الغذاء المطلوب وتركيبه ومتطلباته, ويكمن فيها شكل الأوراق وألوانها، وحجم الشجرة وتشريحها الداخلي، ووظيفة كل عضو فيها, ومتى تزهر وتثمر... وغير ذلك من بلايين البلايين من المعلومات.

وتحتاج البذور إلى فترة سكون بعد نضجها حتى تصبح قادرة على الإنبات, وتختلف هذه الفترة من برهة قصيرة أو قد تمتد إلى عشرات السنين, بحسب نوع النبات, ولولا فترة السكون هذه لنبتت أنواع من البذور في الحقل وهي لا تزال على النبات الأم قبل الحصاد, أو نبتت أثناء إجراء عمليات فصل البذور عن النبات الأم في الأماكن المخصصة لذلك.

وأعجب ما توصل إليه العلم الحديث في هذا المجال ملاحظة امتداد الجذر على استقامة الساق، عندما وُضعت عدة أصناف من أنواع الحبوب والبذور المختلفة في سفن الفضاء لدراستها في منطقة انعدام الوزن؛ حيث لا أرض تجذب الجذر ولا شمس يتجه نحوها الساق.

أليس في هذا ما يدل على تدبير الخالق القدير عز وجل وتفرده بالألوهية:)أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون (60)( (النمل).

2. عالم الحيوان:

تنوع الحيوانات:

قال تعالى: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)((الأنعام).

تنبه هذه الآية الكريمة إلى دلائل القدرة الإلهية في عالم الأحياء, ويوافقها ما أكده علماء الحياة والحيوان, الذين يدرسون كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية لكل حيوان يسعى في الأرض أو يطير في السماء, من أن الكائنات الحية شعوب وقبائل وأمم تربطها صلات وعلاقات وثيقة, فهي لا تختلف في أسلوب حياتها ونشاطها عن أمم البشر الذين يعمرون الأرض إلا بقدر ما يميزها عن باقي الأنواع.

وقد أثبتت جهود الباحثين على مر العصور وفي مختلف بلاد العالم أن عالم الحيوان يزخر بما لا يُحصى من الغرائب والعجائب, كما أن المجموعات الحيوانية التي تشارك الإنسان في العيش على ظهر الأرض كثيرة ومتنوعة بدرجة تفوق كل خيال، وقد أصبح من المعروف حاليًّا أنه يوجد ما يقرب من مليون نوع من الحيوانات المختلفة التي توصل العلم إلى معرفتها, ولا شك أن هذا العدد الضخم من الحيوانات يحتاج في دراسته العلمية المنهجية إلى ترتيب وتبويب؛ لذلك نشأ علم خاص بهذه الموضوعات التصنيفية أُطلق عليه اسم "علم تصنيف الحيوان".

ويرتكز المفهوم العام لهذا العلم على أساس تقسيم هذا العدد الضخم من الحيوانات المعروفة إلى مجموعات كبيرة تتشابه في صفاتها الرئيسية، ويُطلق عليها اسم "الشُّعَب"، وتضم الشعبة الواحدة عدة "طوائف", وتحتوي كل طائفة على مجموعة من "الرتب", وتنقسم الرتبة الواحدة إلى عدة "فصائل", والفصيلة تشتمل على عدة "أجناس", والجنس على عدة "أنواع"، وطبقًا لهذا النظام التصنيفي نجد أن عالم الحيوان يحتوي على ست طبقات أساسية تتدرج من الأدنى إلى الأعلى كما يلي: (النوع- الجنس- الفصيلة- الرتبة- الطائفة- الشعبة).

وإذا ما اقتصرنا على عرض موجز لأعلى هذه الطبقات وهي الشُّعَب- من قبيل الإيضاح ودون دخول في باقي التفصيلات التخصصية- نجد أن أهم الشُّعَب في عالم الحيوان هي:

أولاً: شعبة الأوليات, وهي أبسط الحيوانات تركيبًا على الإطلاق؛ إذ يتركب جسم كل منها من خلية واحدة, وهي دقيقة للغاية بحيث لا يمكن التعرف عليها إلا بواسطة المجهر- الميكروسكوب- ومع ذلك فهي تأكل وتتحرك وتتنفس وتنمو وتتكاثر بطريقتها البدائية, وتتساوى من حيث مقومات الحياة مع الحيوانات الكبيرة الحجم التي نشاهدها في حياتنا اليومية.

ثانيًا: شعبة المساميات, وقد اكتسبت هذه التسمية لوجود عدد كبير من الثقوب أو المسام على سطح الجسم من الخارج, كما أنها تُعرف أيضًا بـ "الحيوانات الإسفنجية"، وتحتوي هذه الشعبة على ما يقرب من 4500 نوع, يعيش معظمها في البحار, والقليل الباقي يوجد في الماء العذب.

ثالثًا: شعبة الجوفمعويات, وهي أكبر شعب المملكة الحيوانية في عدد الأنواع ومن أكثرها تنوعًا في الشكل, ومعظمها يعيش مندمجًا في مجموعات- أو مستعمرات- كبيرة تنمو وتتفرع كما تتفرع الأشجار, ويعتبر المرجان الأحمر من أبرز الأنواع التي تنتمي إلى هذه الشعبة, وهناك أيضًا شعب الديدان المفلطحة والخيطية والحلقية, وشعبة الحيوانات المفصلية؛ مثل: الجمبري ونحلة العسل والجراد والعناكب وغيرها, وشعبة الحيوانات الرخوة ذات الأجسام اللينة؛ مثل: المحار والقواقع, ويعتبر اللؤلؤ من أهم المنتجات الاقتصادية لهذه الشعبة.

كذلك نجد في تصنيف الحيوانات شعبة الحيوانات الشوكية الجلد؛ مثل: نجوم البحر وقنافذ البحر وغيرها، بالإضافة إلى شعبة الحيوانات الأكثر تقدمًا وتضم الفقاريات- أو ذوات العمود الفقري- التي تعيش في جميع البيئات المائية والأرضية؛ ومن أمثلتها: الزواحف والأسماك والطيور والثدييات.

وقد وضع علماء الأحياء والتشريح مؤلفات كثيرة تبين نتائج ما توصلوا إليه من أبحاث تتعلق بكل شعبة وما يتفرع منها في عالم الحيوان, مما لا يدع مجالاً للشك في أنها أمم مثل أمم البشر, سواء في حالات السلم والحرب, أو في السعي لطلب الغذاء, أو في رعاية الصغار والضعفاء, أو ما تلجأ إليه من حيل للتغلب على ما يواجهها من مصاعب وأخطار, أو في انقيادها لما هيأه لها الخالق العظيم العليم من طبيعة تتلاءم مع تكوينها وبيئتها، وصدق الله العظيم حيث يقول: )وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4)((الجاثية).

طقوس التزاوج:

 قال تعالى:)سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)( (يس).

إن كافة الكائنات الحية يلهمها الله عز وجل أعمالًا هي من صميم فطرتها وغريزتها التي لا إرادة لها فيها, من ذلك سنة التزاوج والتناسل وما يلزمهما من سلوكيات تدل على قدرة الخالق عز وجل.

إن كان التزاوج بين أفراد الجنس البشري لم يختلف منذ بدء الخليقة من حيث الطرق المعروفة في إبداء الرغبة ولفت الانتباه بين الذكر والأنثى ـ فإن معظم الحيوان لا يختلف عن الإنسان في التزاوج, بل ربما تكون مظاهر الإلهام في تناسل الحيوان أقوى في الدلالة منها في الإنسان وأبلغ.

إن طائر البطريق ـ على سبيل المثال ـ له أسلوب في الغزل لا يحيد عنه, فإن أراد التودد إلى أنثاه اختار حصاة وتقدم بها في زهو وحنان ووضعها تحت قدمه، فإذا التقطتها كان ذلك دليلًا على أنها قبلته زوجًا لها, فيتزوجان، أما إذا تركتها ولم تمسها كان ذلك دليلًا على عزوفها عنه وإعراضها عن الزواج منه, وعندئذٍ يعود فيلتقط حصاه وينصرف بها إلى أخرى!

ويعتبر طائر الروبين من أوضح الأمثلة على ما تتخذه الطيور من خطوات طويلة للتزاوج؛ ففي صيف السنة السابقة لبناء العش يستولي الذكر على قطعة من الأرض كبيرة المساحة في حقل أو غابة, وحين يحط عليها يأخذ في الدفاع عنها ضد أي حيوان أو طائر يحاول انتزاعها منه, وحين يأمن وتثبت ملكيته لها يقبع على شجرة قريبة ويأخذ في الصيح؛ إعلانًا منه وإشعارًا لباقي الطيور بامتلاكه الأرض, ويظل على هذا الإعلان ستة أشهر كاملة، وفي منتصف الشتاء ينقلب صياحه إلى تغريد وغناء فتنجذب إليه الأنثى التي تعيش معه إلى الربيع, وحينئذٍ يتعاونان في بناء عشهما، ثم يتلاقحان وتضع الأنثى البيض وتحتضنه حتى يفقس.

وهنا نلاحظ أن التزاوج قد سبقته مقدمات منتظمة مقصودة الغرض طوال عام تقريبًا, وكافة أفراد هذا النوع من الطيور تتفق في هذه الطقوس الفطرية التي علمها خالقها إياها مثلما علم غيرها في عالم الأحياء.

وقد لوحظ أن الطيور المهاجرة ترجع إلى موطنها في مواعيد تكاد تكون محددة, مهما كانت المسافات التي تفصل بين الطير ووطنه ليتم التزاوج والتناسل.

وقصة ثعبان السمك تدعو إلى العجب؛ فهو يعيش في الأنهار، وعندما يكتمل نموه ويبلغ العاشرة من عمره يهاجر في مختلف أنحاء العالم, فتلك التي تعيش في أنهار أوربا تسبح حتى المحيط الأطلسي, وتلك التي تعيش في النيل وأنهار أفريقيا تسبح إلى البحر المتوسط، ثم تخترق مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلسي, ثم تستأنف جميعًا رحلة تقطع فيها آلاف الأميال قاصدة إلى الأعماق السحيقة في جزر الهند الغربية, جنوبي برمودا؛ حيث تتزاوج وتضع البيض وتنتهي بذلك حياتها حيث تموت, وبعد مدة تخرج الصغار من البيض على هيئة خيوط صلبة شفافة صغيرة لها عيون بارزة, وتتهيأ للعودة إلى مواطن آبائها في رحلة تستغرق أكثر من ثلاث سنوات في بعض الجهات لتصل إلى مصاب الأنهار في أوربا, أو إلى الترع في أواسط أفريقيا, أو إلى البحيرات في آسيا، ولم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية أو ثعبان أوربي في المياه الأمريكية.

أما سمك السالمون الذي يعيش في البحار فإنه حين يبلغ طور النضج الجنسي وتكون له القدرة على التناسل يرحل إلى الأنهار ذات المياه العذبة لتضع الإناث البيض، وتصب الذكور عليه حيواناتها المنوية، وعندما تخرج الأجنة تمضي حوالي سنتين من حياتها في ماء النهر, ثم تعود بعد ذلك إلى البحر, ومتى أصبحت قادرة على التناسل تعود إلى النهر الذي فقست فيه, ومن عجب أن نجد أن السالمون لا يخطئ أبدًا النهر الذي فقس فيه مهما تقاربت مصاب الأنهار من بعضها البعض.

وهناك بعض أصناف السمك الضيائية التي تعيش في أعماق المياه السحيقة, ويهتدي ذكر كل صنف إلى إناثه وسط الظلام الدامس بواسطة أشعة لامعة قوية تنبعث من أجسامها, وهذه الظاهرة واضحة فيما لا يقل عن ست وثلاثين رتبة من رتب الحيوانات البحرية, مثل "قلم البحر" و"نجمة البحر" و"الديدان البحرية" و"ضوء الليل" و"الاسيكيديا" وغيرها، ومظهر الإعجاز هنا أن كل صنف ينجذب إلى ضوء معين رغم تعدد الأضواء وتباين شدتها.

وعالم النبات هو الآخر يزخر بالأمثلة الدالة على تنوع طرق التلقيح والتزاوج بين أعضاء التذكير والتأنيث بواسطة الحشرات أو الرياح أو الإنسان، وبعض النباتات تلقح نفسها بنفسها, حيث توافقت تراكيبها، كما في الذرة والقمح؛ فأعضاء التذكير الحاملة لحبوب اللقاح تميل إلى موضع فتحات أعضاء التأنيث بتقدير محكم يسمح بانعقاد الحبوب، فتبارك الله العلي القدير([14]).

3. عالم الطيور:

قال تعالى: )ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (79)( (النحل).

تلفت هذه الآية الكريمة أنظار المؤمنين إلى آيات الإعجاز في طيران الطيور, وتدعو أصحاب العقول الراجحة إلى تأمل حكمة الخالق الواحد جلت قدرته, فهو الذي خلق جميع الكائنات الحية والجامدة وأودع فيها خصائصها, وهو الذي خلق قانون الجاذبية بين الأجرام التي يجذب بعضها بعضًا, ولكنه ـ وهو اللطيف الخبير بحاجات خلقه ـ يسّر الطيور لما خلقت له؛ فأودع في أجسامها من آيات الخلق والبناء, ومما فطرها عليه من حسن الأداء, ما يجعلها تتغلب على قانون الجاذبية، وتحلق حرة طليقة في جو السماء:)أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير (19)( (الملك).

إن ركوب الطائر متن الهواء أمر يثير العجب والإعجاب؛ إذ إن الطائر مهما خف وزنه فإنه يكون أثقل كثيرًا من الهواء, ومن ثم ينبغي أن يهوي إلى الأرض وفقًا لقانون الجاذبية الأرضية، وهذا هو ما يحدث للطائر المحلق في جو السماء عندما تصيبه رصاصة صياد في مقتل ويفقد في لحظة واحدة قدرته على البقاء في الجو.

وتتحلى الطيور عامة بخصائص مهمة لا بد من توفرها في أية آلة طائرة؛ مثل: خفة الوزن، ومتانة البناء، وانسياب الجسم، ودقة الاتزان؛ فهياكل الطيور العظمية خفيفة للغاية, حيث لاحظ علماء البيولوجيا أن بعض الأجزاء قد اختصر والتحم بعض عظامها ببعض, وتحول معظمها إلى أنابيب رقيقة جوفاء, لكنها في الوقت نفسه متينة ومرنة وقادرة على تحمل القوى المفاجئة التي يتعرض لها الطائر أثناء مناوراته البهلوانية في الجو، أما رءوس الطيور فقد صغرت وخلت من الأسنان, ومن ثم لم تعد بحاجة إلى فكين ثقيلين وعضلات كبيرة لتحريكهما؛ فجمجمة الحمامة مثلا تزن سدس ما تزنه جمجمة الفأر الكبير, وطائر الفرقاط ـ أي الطائر البارجة, أو الطائر العملاق, الذي يبلغ طول ما بين طرفي جناحيه المبسوطين أكثر من مترين ـ فإن هيكله العظمي كله لا يزن أكثر من 113 جراما تقريبًا ـ نحو أربع أوقيات ـ أي أقل من وزن ريشه, وقد عبر أحد العلماء الأمريكيين عن الإبداع في بناء جمجمة الطيور بقوله: "إنها شعر منظوم في عظام".

وأما ريش الطيور فيتميز بأنه مكيف بدقة بالغة؛ لترويح الهواء وتخفيف كثافة الجسم وعزله عزلًا جيدًا عن الجو, فضلًا عن مرونته الفائقة التي تمكنه من الالتواء والانثناء لتلبية حاجات الطيران سريعة التغير, حتى لقد قيل: إن ريش الطيور أقوى من أي جناح لطائرة صنعها الإنسان، وأهم ما يميز الريش أن توزيعه يهذب زوايا الجسم البارزة, وعدم وجود صيوانين بارزين للأذنين وكمش لرجليه في أثناء الطيران تضفي على الطائر شكلًا انسيابيًّا يساعده على مقاومة الهواء.

وهناك خصائص وظيفية أخرى تتمتع بها الطيور, من أهمها ارتفاع معدل العمليات الحيوية في داخل أجسامها؛ فهي على سبيل المثال أقدر من الحيوانات الثديية في هضم الطعام, وقلبها أقوى وأكبر وأسرع نبضًا، مع حفظ النسبة, وضغط دمها أقل, ونسب السكر فيه أكثر, ودرجة حرارتها أعلى، وجهازها التنفسي أكفأ, حين تتصل الرئتان بمجموعة من الأكياس الهوائية المنتشرة في أنحاء الجسم, الأمر الذي ييسر تبريد أجسامها أثناء الطيران, فضلًا عن الإسهام في تخفيف وزنها, وهذا كله يجعل من أجهزتها آلات رائعة لإنتاج الطاقة اللازمة للطيران؛ فهي تستخدم غذاءها بكفاءة تفوق أضعاف كفاءة أحدث الطائرات في استخدام وقودها.

وبالنسبة لذيل الطائر فتكاد تنحصر مهمته في التوجيه, ولكنه إذا نُشر مبسوطًا زادت مساحة السطح, وقد يستغل هذا أحيانًا في الرفع وأحيانًا في تقليل سرعة الهبوط ويوازن الطائر حركته بواسطة جناحيه, فهو إن مال على أحد الجانبين استعاد اتزانه إلى وضع مستوٍ بزيادة القوة الرافعة من الجناح الذي مال نحوه, وذلك إما بزيادة شدة ضربه أو بتغيير زاويته.

وقد قرر التعبير القرآني الكريم ـ في بيان معجز ـ حقيقة أن جناحي الطائر هما جهاز طيرانه الأساسي, وهذا يتفق في بساطة ووضوح مع ملاحظة الفطرة السليمة والدراسة العلمية المدققة على حد سواء، قال تعالى: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)( (الأنعام).

ولقد ذكرت الطير بمعناها الحقيقي والمجازي في آيات قرآنية كثيرة, ولكننا سنتوقف عند بعض فنون الطيران التي أودعها الله عز وجل في الطيور بعامة, وفي الطير الصافات على وجه الخصوص, قال تعالى: )أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير (19)((الملك).

وتجدر الإشارة ـ بادئ ذي بدء ـ إلى أن العلماء لم يفهموا بعض آليات الطيران عند الطيور إلا بعد تقدم علوم هندسة الطيران وديناميكا الموانع وصناعة الطائرات.

والعجيب أن جناحي الطائرة الحديثة يقابلان جناحي الطائر مقابلة ظاهرية فقط, ولكنهما لا يكافئانهما تمامًا؛ ذلك أن جناحي الطائرة وظيفتها الرفع إلى أعلى دون إحداث قوة الدفع إلى الأمام التي تؤديها المحركات الدوارة أو أجهزة الدفع النفاث, أما جناحا الطائر فإنهما يقومان بالوظيفتين معًا؛ فالنصف الداخلي للجناح الذي يتحرك من مفصل الكتف هو الذي يقوم أساسًا بإنتاج قوة الدفع إلى أعلى؛ أي إنه يكاد هو وحده الذي يقابل جناح الطائرة، والذي يقوم بوظيفة المحرك ودفع الطائر إلى الأمام , ثم يرتفع إلى أعلى وإلى الخلف, ويتكرر هذا مع كل خفقة من خفقات الجناح، وفي أثناء خفق الجناح تغير أجزاؤه ـ وبخاصة ريشاته القوادم ـ أشكالها وأوضاعها وزواياها، وسرعة حركتها في كل لحظة مع اختلاف الارتفاع، وشدة الهواء واتجاهه، ومتطلبات الطيران المتغيرة، وهذا كله يتم بصورة آلية وبسرعة مذهلة لم يستطع العلماء إدراك بعضها إلا بأدق آلات التصوير السريع والعرض البطيء.

وليس الطيران بالنسبة للطيور مجرد وسيلة للانتقال المعتاد؛ فللطائر فيه مآرب أخرى كثيرة، من ذلك أن كثيرًا من الطيور يلقف طعامه من الحشرات في أثناء طيرانه, كما أن بعضها يصيد فريسته من ذوات الجناح وهما محلقان في الجو, وقد يقذف بعضها إلى بعض الطعام وهي راكبة متن الهواء ـ وهذا ما لم يتحقق في أبحاث الفضاء والطيران إلا حديثًا ـ حيث عـد تزويد الطائرات بالوقود وهي في الجو فتحًا علميًّا وتقنيًّا عظيمًا ـ وللطيور أفانين كثيرة من العراك واللهو والغزل الطائر, وبعضها يبدي في ذلك مهارات فائقة, وقد تبلغ سرعة بعض الطيور حدًّا يفوق الخيال؛ فالشاهين ـ نوع من الصقور ـ ينقضُّ على فريسته بسرعة 300 كيلو متر في الساعة، كما أن بعض الطيور تطير مسافات هائلة, ولعل خطاف البحر القطبي أشهرها؛ حيث إنه يهاجر في رحلة طولها 17500 كيلو متر من الدائرة القطبية الشمالية إلى المنطقة القطبية الجنوبية, قاطعًا طريقًا دوارًا من أمريكا الشمالية إلى الخطوط الساحلية لأوربا وأفريقيا.

ويقرر أهل الاختصاص أن الدفيف والصف هما أهم فنون الطيران؛ أما الدفيف فهو الطيران باستمرار خفق الجناحين, وهو الطريقة المعتادة, وأما الصف فهو أن يبسط الطائر جناحيه دون حراك؛ ولذلك يعد أكثر فنون الطيران إثارة للعجب والإعجاب؛ فالطيور الصافات تستطيع أن تمضي في الهواء بجناحين ساكنين إلى أبعد المسافات حتى تغيب عن الأبصار, وكأن قوى خفية تشدها وتحركها كيف تشاء.

وهذه الطيور المتخصصة في الصف تستطيع أيضًا أن ترفع جناحيها أو تخفضهما أو تدفعهما إلى الأمام أو الخلف, أو أن تقلل من مساحتها بقبضهما قبضًا يسيرًا, أو أن تديرهما من مفصل الكتف ليقابلا الهواء بزوايا مختلفة تؤثر في سرعة الصف, أو تلوي أجزاء منها, وما إلى ذلك، وهي في أثناء هذا كله تحرك ذيلها بالصورة المناسبة, وعندما تصف في اتجاه منحنٍ تميل بجسمها كله في اتجاه دورانها؛ لكيلا تحملها قوة الطرد المركزي إلى خارج قوس دورانها, وهذا من قبيل ما يفعله المتسابقون بالدراجات حين يجتازون المنحنيات في حلبات السباق.

وتتميز الطيور عامة بعظم عضلات صدرها التي تحرك جناحها، أما الطيور الصافات فإنها تتميز باختصار حجم تلك العضلات لقلة الحاجة إلى استخدامها, مع قوة الأوتار والأربطة المتصلة بالجناحين حتى تستطيع بسطهما فترات طويلة دون جهد عضلي كبير.

ولا يتسع المجال هنا لسرد المزيد من الإعجاز في طيران الطيور التي علمت قدر خالقها البصير بدقائق شئونها, وصدق فيها قول البارئ المصور:)ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون (41)((النور)، وعلى الإنسان أن يتذكر محاولاته المضنية في محاكاة الطيور, عندما صنع لنفسه أجنحة أوردته موارد الهلاك, ثم أنعم الله عليه فاستطاع أخيرًا أن يصطنع لنفسه آلات طائرة تجوب به الآفاق, فكان فضل الله عليه عظيمًا ([15]).

4. إلهام الأحياء:

 "لا شك أن إلهام الأحياء من أكبر الأدلة على وجود الله تعالى؛ فالحيوان يتصرف عن طريق الإلهام تصرفات لا تحكم له فيها, بل إنه يفعل ذلك بدون أن يدري لماذا يتصرف هذا التصرف, حتى الإنسان نفسه الذي يحاول دائمًا أن يعلل كل شيء يفعله, والذي يستطيع أن يمتنع عن فعل بعض الأشياء بحريته وإرادته يقف مشدوها أمام قوة الإلهام التي لا يستطيع أن يفسرها.

عاطفة الأمومة:

إن الإلهام أوضح ما يكون في عاطفة الأمومة؛ فالأم تأتي بالعجائب في سبيل وليدها وفلذة كبدها, مضحية بروحها وبكل ما تملك في سبيل هذا الوليد.

ونحن كل حين نسمع عن أم ألقت بنفسها في اليم وراء طفلها الذي جرفه التيار؛ ظنًّا منها أنها ستنقذ حياته... وتنسى في غمرات تلك العاطفة الحنون أنها لا تجيد من قواعد السباحة شيئًا, وبعد قليل تلفظ أنفاسها الأخيرة بين الأمواج العاتية, مستشهدة في سبيل أنبل عاطفة على وجه الأرض.

وعاطفة الأمومة لا تقتصر على الإنسان وحده, بل إنها تكون أوضح بكثير في الحيوان عنها في الإنسان, وهي تدل على الإلهام بصورة قاطعة, وهذا من رحمة الله بالحيوان الأعجم الذي يتعرض دائمًا للأخطار التي تحيط بصغاره, فنحن نرى أن أنثى الكلاب حينما تلد صغارها لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها؛ حيث تتحول من حيوان وديع إلى حيوان شرس, ثائرة على كل من تظنه يريد إلحاق الأذى بصغارها، وكذلك القطط, والسباع, والحمام..."([16]).

ولعل غريزة الأمومة التي أوجدها الله عز وجل في الأنثى من الإنسان والحيوان تأتي في مقدمة الغرائز الضرورية لاستمرار الحياة وبقائها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فلقد ملأ الخالق عز وجل قلب كل أم بالحب والحنان على صغارها, وهداها إلى وظيفتها في الحرص على أولادها مهما كانت التضحيات.

ومن عجيب صنع الله تعالى في عالم الحيوانات أن هدى الأنثى إلى ما ينبغي عمله لحفظ الحياة بفضل الغريزة؛ فعلمها عز وجل كيف تقطع الحبل السري لتفصل الجنين من المشيمة, وكيف تترك شيئًا منه كما يفعل الطبيب تمامًا, هكذا تفعل الأرنبة آكلة النبات, وتفعل القطة والكلبة وغيرهما من الحيوانات آكلة اللحوم، وأعجب من هذا ما تقوم به الأرنبة من نتف شعر بطنها الناعم لتصنع منه لفافة تكسو بها الصغار بعد الولادة حتى ينبت شعر يغطي جسدها, ولتكشف عن الثدي حتى لا تجد الصغار صعوبة في الوصول إليه.

إن الذي هداها إلى هذا السلوك الغريزي حرصًا على وليدها هو الخالق العليم الذي أرشد كل مولود أن يبحث بعد الولادة بدقائق عن حضن أمه، وأن يسعى حتى يجد ثديها ثم يرضع لبنها ويمتصه بتحريك شفتيه ويزيد من إدراره بضغط يديه الصغيرتين على جانبي الثدي وكأنه يريد أن يعصره عصرًا.

وهناك الطيور التي علمها خالقها كيف تعد المهد لصغارها؛ فتبني العش من القش في دقة ومتانة, ثم تبسط فيه بساطًا طريًّا لينا من ريشها الناعم لتضع عليه بيضها, وتشترك الذكور مع الإناث في إعداد هذا العش, كما تشترك بعد ذلك في تدفئة البيض وتقليبه, ثم في إحضار الطعام وتغذية الصغار بعد ذلك، إن الزوجين يلازمان البيض بالتناوب ويداومان على رعايته وحراسته؛ حيث يرقد كل منهما عليه ليدفئه بينما يسعى الآخر لجلب قوته, فكيف عرفت الطيور أن الدفء ضروري للبيض حتى يفقس؟ وكيف عرفت كذلك أن الدفء لا بد أن يكون موزعًا على البيض بانتظام من كل النواحي, فأخذت تقلبه من وقت لآخر؟

إن الذي هداها إلى هذا الأسلوب في احتضان البيض, ثم علمه الإنسان من خلالها باتباع الطرق العلمية الحديثة لاحتضان البيض صناعيًّا حتى يفقس ـ هو الخالق العليم الذي علم الفراخ أين ومتى تنقر البيضة حتى تكسرها وتخرج إلى الهواء والنور, ثم تسعى لأمها وتلبي نداءها وتختبئ تحت جناحها, وهو اللطيف الخبير الذي جعل الدجاجة تلازم صغارها؛ لتحرسها من أي خطر, وتبسط عليها جناحيها إذا ما رأت حدأة تحلق فوقها، إنها صورة رائعة لحنان الأمومة الغريزية, وهي لا تقل في روعتها عن صورة الديك الكريم الغيور الذي ينتظر حتى تشبع الأم وصغارها ثم يأكل ما تبقى منها.

وإذا تجاوزنا عالم الإنسان والحيوان والطيور, وانتقلنا إلى دنيا الحشرات لوجدنا العجب العجاب؛ فهذه العنكبوت السامة السوداء تبحث عن جعران أو خنفساء لتقتلها وتضعها في الجحر؛ لتضع البيض فوقها حتى تجد الصغار غذاءها حاضرًا بعد الفقس مباشرة، بل إن العقرب ـ هذه الحشرة الغبية التي تؤذي من لا يؤذيها ـ تتميز بشدة حرصها على بيضها وفرط حنانها على صغارها؛ فهي تضع بيضها فوق ظهرها حتى يفقس, ويظل الفقس الجديد على ظهرها يمتص منها غذاءها إلى أن تموت الأم في سبيل حياة صغارها، وهناك أنواع من الحشرات تُعنى ببيضها وتختزن القوت اللازم لصغارها عندما تخرج من البيض.

إنها مجرد أمثلة للتدليل بملاحظات العلماء وأبحاثهم على واحدة من أسمى الغرائز التي وضعها الله عز وجل في الإنسان والحيوان والطيور والحشرات, فسبحان الخالق الواحد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى([17]).

وحنو هذه الحيوانات على صغارها يفوق حنو الإنسان بكثير؛ فحينما تتملك الإنسان شهواته ونزواته الخاصة يهمل أطفاله وتتملك الجفوة قلبه، والأمثلة على إلهام الخالق لمخلوقاته أكثر من أن تحصى.

يقول الأستاذ عبد الرزاق نوفل: "من أروع الأمثلة على الإلهام ما نراه في حيوان الاكسيلوكوب, الذي يعيش منفردًا في فصل الربيع ومتى باض مات؛ فالأمهات لا ترى صغارها, ولا تعيش لتساعدها في غذائها, لذلك نرى الأم تعمد إلى قطعة من الخشب, فتحفر فيها حفرة مستطيلة, ثم تجلب طلع الأزهار وبعض الأوراق السكرية, وتحشو بها ذلك السرداب, ثم تبيض بيضة, ثم تأتي بنشارة خشب وتجعلها عجينة لتكون سقفًا لذلك السرداب, وتصنع بعد ذلك سردابًا آخر, فمتى فقست البيضة وخرجت الدودة كفاها الطعام المدخر سنة".

إن هذا مثلٌ فذٌّ يدحض شبهة القائلين بأن الضرورة هي الموجدة للأشياء؛ فلو كانت الضرورة تستطيع أن تحنو على مثل هذا المخلوق الضعيف, وتقدم له كل ما يحتاج إليه من غذاء ومأوى ـ لما تحملت هذه الأم كل تلك المشقات في سبيل ضمان الحياة لصغيرها الذي لم ير النور بعد! وأمثلة إلهام الله للأحياء كثيرة, لاحظها القدماء والمحدثون, ويشهد بها كل ذي عقل وبصر.

أما الخيل فقد ضربت أمثلة رائعة على الحنان والحب نحو وليدها, حيرت العقول, وخلبت الأنظار, وكثيرًا ما ترى مهر الخيل مربوطًا بجوار أمه وهي تجر عربات النقل؛ لأنها بدون أن يكون وليدها بجانبها لا تتحرك خطوة واحدة, وقد رأيت مرة مشهدًا رائعًا لأنثى الخيل, وقد كان نهر النيل في بداية فيضانه ، وتيار الماء جارفًا يسير بأقصى سرعة؛ فقد نزلت الفرس إلى المياه وسط هذه الأمواج العاتية، تغالبها وتتغلب عليها لتلحق بوليدها الذي أخذ في مركب إلى جزيرة في عرض النهر, وفعلًا غالبت كل هذه الأمواج في دقائق معدودة ولحقت بوليدها تشمه وتتمسح به وهي في غاية الإنهاك والتعب, ولكنها في الوقت ذاته في غاية السرور والفرح...

يقول الأستاذ عبد الرزاق نوفل: ومن يشاهد حياة الخيل يعرف أن الفرس إذا مات صغير لها نهنهت بصوت مسموع يعرفه القاصي والداني, وكثيرًا ما يفيض الحزن بالفرس فتأتي من الأعمال ما لا يصدقه العقل؛ فهذه الفرس التي صاحت وبكت حتى نزلت من عينيها الدموع لموت صغيرها, وفاض بها الحزن, حتى إنها توحشت ولم يستطع إنسان أن يقترب من جسد صغيرها، وما إن هدأت وحمل الجسد حتى سارت خلفه, ولما دفن لازمت قبره, وانقطعت عن الأكل والشراب، ولم تفد فيها أية محاولة, حتى أنقذها من عذابها وحزنها الموت...

إلهام الحشرات:

ولنّجُلْ الآن جولة قصيرة مع عالم الحشرات, الذي يعد أغلب أنواع المملكة الحيوانية, ولندع العلماء الذين درسوا وشاهدوا بعض عجائب الإلهام في الحشرات, ورأوا الأدلة واضحة جلية على وجود الملهم سبحانه يحدثونا عن ذلك.

يقول الدكتور "كريسي موريسون": "إذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية, وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة ولكنه يتلقى تلك الإشارة ويجاوبها مهما أحدثت أنت من رائحة بمعملك لتضليلها, ترى هل لتلك المخلوقات الضئيلة محطة إذاعة, وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي , فضلًا عن السلك اللاقط للصوت؟ أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز؟

والجندية النطيط الأمريكية تحك ساقيها أو جناحيها معًا, فيسمع صريرها هذا في الليلة الساكنة على مسافة نصف ميل، إنها تهز بها ست مئة طن من الهواء وتنادي رفيقها.

يقول الأستاذ نوفل: تستطيع طوائف من العناكب والزنابير أن تحفظ اللحم أسابيع فلا يفسد, دون الاستعانة بما تفتقت به حيل الإنسان من تبريد أو ثلج, فهي لما كانت تحتاج إلى اللحم طريًّا في طعامها, ولا تضمن الظفر به كل يوم؛ لذلك تحفظ صيدها من الحشرات التي تزيد عن حاجتها, بطريقة لم يستطع الإنسان أن يصل إليها, فهي تفرز في أبدانها مادة تخدرها دون أن تميتها, فيبقى غذاؤها دائمًا طريًّا طازجًا, بل حيًّا لحين استهلاكه, ولم يتمكن العلم حتى الآن من تخدير ذبيحة الإنسان, والإبقاء عليها بحياة كامنة دون موت لحين استهلاكها!

النمل يضرب أروع الأمثلة:

من أعجب ممالك الحشرات مملكة النمل, التي تكاد تكون أروع مملكة تتجلى فيها عناية الخالق, وعجيب صنعه، وروعة إلهامه؛ فالنمل يعيش عيشة جماعية, متعاونة إلى أبعد حدود التعاون, ضاربة المثل الأعلى في إنكار الذات.

وكثيرا ما نشاهد جماعة من النمل تحمل حشرة من الحشرات تبلغ أضعاف وزنها عشرات المرات فيأخذنا العجب من ذلك, ولكن بفضل تعاونهم استطاعوا أن يحملوا تلك الكتلة إلى مملكتهم لتكون غذاء لهم جميعًا!

كما أننا كثيرًا ما نشاهد أكوامًا من الرمال الدقيقة بجانب جحر النمل تحتوي على ملايين الوحدات من هذه الرمال الدقيقة, وأشدّ ما نعجب حينما نعلم أن هذه الملايين قد نقلت من داخل الجحر إلى خارجه حبة حبة, كل حبة تحملها نملة في فمها تسير بجد ونشاط نازلة صاعدة!

والنمل يتكلم بلغة خاصة فيما بينه, ونحن نلاحظ ذلك جليًّا حينما نراقب نملة قد وجدت طعامًا لا تقدر على حمله, فتذهب على التو مسرعة إلى جحرها, وبعد برهة قصيرة نجدها قد عادت ومعها عدد كافٍ من النمل لحمل هذا الطعام, إنها لا تخطئ موضع الطعام مع بعد المسافة"([18]).

والرائحة تعتبر لغة خفية أو رسالة صامتة تتكون مفرداتها من مواد كيماوية أطلق عليها العلماء اسم "فرمونات" (Pheromones), وتجدر الإشارة إلى أنه ليست كل الروائح "فرمونات"؛ فالإنسان يتعرف على العديد من الروائح في الطعام مثلًا، ولكنه لا يتخاطب أو يتفاهم من خلال هذه الروائح, ويقصر الباحثون استخدام كلمة "فرمون" على وصف الرسائل الكيماوية المتبادلة بين حيوانات من السلالة نفسها؛ وعليه فقد توصف رائحة بأنها "فرمون" بالنسبة لحيوان معين, بينما تكون مجرد رائحة بالنسبة لحيوان آخر.

وإذا طبقنا هذا على عالم النمل نجد أن النمل يتميز برائحة خاصة تدل على العش الذي ينتمي إليه, والوظيفة التي تؤديها كل نملة في هذا العش؛ فحينما تلتقي نملتان فإنهما تستخدمان قرون الاستشعار, وهي الأعضاء الخاصة بالشم, لتعرف الواحدة الأخرى.

وقد وجد أنه إذا دخلت نملة غريبة مستعمرة لا تنتمي إليها فإن النمل في هذه المستعمرة يعرفها من طريق رائحتها ويعدها عدوًّا, ثم يبدأ في الهجوم عليها, ومن الطريف أنه في إحدى التجارب المعملية وُجد أن إزالة الرائحة الخاصة ببعض النمل التابع لعشيرة معينة ثم إضافة رائحة خاصة بنوع آخر عدو له ـ أدى إلى مهاجمته بأفراد من عشيرته نفسها.

وفي تجربة أخرى تم غمس نملة برائحة نملة ميتة ثم أعيدت إلى عشها, فلوحظ أن أقرانها يخرجونها من العش لكونها ميتة, وفي كل مرة تحاول فيها العودة يتم إخراجها ثانية على الرغم من أنها حية تتحرك وتقاوم، وحينما تـمت إزالة رائحة الموت تم السماح لهذه النملة بالبقاء في العش.

وحينما تعثر النملة الكشافة على مصدر للطعام فإنها تقوم على الفور بإفراز الفرمون اللازم من الغدد الموجودة في بطنها لتعليم المكان, ثم ترجع إلى العش, وفي طريق عودتها لا تنسى تعليم الطريق حتى يتعقبها زملاؤها, وفي الوقت نفسه يضيفون مزيدًا من الإفراز لتسهيل الطريق أكثر فأكثر.

ومن العجيب أن النمل يقلل الإفراز عندما يتضاءل مصدر الطعام ويرسل عددًا أقل من الأفراد إلى مصدر الطعام, وحينما ينضب هذا المصدر تمامًا فإن آخر نملة وهي عائدة إلى العش لا تترك أثرًا على الإطلاق([19]).

فكيف يتاح لهذه المخلوقات أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟ لا شك أن هناك خالقًا أرشدها إلى كل ذلك، وصدق الله العظيم إذ يقول: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم( (الأنعام: ٣٨).

إلهام النحل:

من الحشرات التي تعيش عيشة جماعية نحل العسل، وخلية النحل تدل دلالة لا ريب فيها على وجود الخالق، وهي مبنية بطريقة هندسية تفوق أي بناء يقوم به العقل البشري على أحدث الأسس العلمية؛ فهي قد بنيت على شكل مسدس منتظم الأضلاع؛ وذلك للاقتصاد في مساحة الحيز الذي تشغله الخلية, كما أن روعة الإلهام تتجلى في تلك المادة الشمعية التي بنيت بها الخلية, والتي تعمل كطبقة عازلة تحفظ محتويات الخلية من التلف.

كما أن تقسيم العمل الوظيفي في مملكة النحل يعد مثلًا فذًّا للإلهام؛ فهناك الملكة التي تضع البيض فقط وتتربع على عرش المملكة بمفردها, وهناك طائفة اليعاسيب التي تكون مستعدة لتلقيح الملكة، ثم تنتهي مهمتها وتقضي عليها الشغالة, وهناك طائفة الشغالة التي تنقسم بدورها إلى طوائف؛ فطائفة تجلب الرحيق من الأزهار, وأخرى تنظف الخلية مما يعلق بها, وثالثة تعمل على تهيئة الجو في درجة حرارة معينة؛ فيقوم البعض بحك أجنحته بجسمه, حتى تتولد الحرارة التي تعمل على تدفئة الخلية, بينما يقوم البعض الآخر بتحريك أجنحته إلى أعلى وإلى أسفل في حركة سريعة؛ حتى يعمل على تهوية الخلية, كما تقوم الطائفة الرابعة بتقديم الغذاء للملكة, كما توجد الأميرات اللاتي يعتبرن كاحتياطي لتولي إحداهن العرش عند فقد الملكة!

وذلك النوع من النحل الذي ينتج من بيض غير ملقح, إنه لشيء عجيب في عرف قوانين التكاثر والإخصاب.

ثم أخيرًا, ذلك الشهد الذي ينتجه النحل, والذي أثبت العلم الحديث والتجارب المتكررة أنه يعمل على شفاء عدد لا يحصى من الأمراض المستعصية؛ مثل: تصلب الشرايين والروماتيزم وضعف القلب وضغط الدم... بل ومرض السكر أيضًا، إنه يفوق أعظم دواء ركّبه الإنسان([20]).


من وسائل الاهتداء:

"يقدم العلم الحديث دلائل عديدة تعمق معنى هذه الآية الكريمة ـ أي قوله تعالى:)قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)( (طه) ـ وذلك من خلال التعرف على ما تمتلكه الكائنات الحية من وسائل وأساليب مختلفة للتعرف على المحيط الذي تعيش فيه بهدف الحصول على الغذاء وحماية الذات من الأعداء، وتتنوع هذه الوسائل بين رجع الصدى والمجالات الكهربية والإشارات فوق الصوتية، وهي إمكانات تقوم مقام العين والحواس, وربما تتجاوزها في القدرة أحيانًا.

وتقدم دراسة الخفافيش وقدرتها على تحديد الموقع برجع الصدى (Echolocation) نموذجًا واضحًا لإحدى وسائل الاهتداء في عالم الأحياء؛ إذ لا يقتصر وجود هذه القدرة على الخفافيش، فهي موجودة في حيوانات أخرى, منها صنفان من الطيور أحدهما في أمريكا الجنوبية والآخر في الشرق الأقصى, وموجودة كذلك في الدلافين والحيتان.

والشيء المشترك بين كل هذه الأنواع من الأحياء أنها تعيش في بيئات لا يوجد فيها إلا قدر ضئيل من الضوء؛ مثل: الكهوف والمياه الموحلة أو الأعماق البعيدة في البحر؛ فالطيور المشار إليها, مثل الخفافيش تبني أعشاشها في أعماق الكهوف التي لا يصل إليها الضوء أو لا ينفذ إليها إلا القليل منه, وهي تطلق من الحبال الصوتية طقطقات يمكن أن يسمعها الإنسان, فهي في ذلك مختلفة عن إشارات الخفافيش فوق الصوتية (Ultrasonic).

ولم تنفرد الخفافيش بين الثدييات في تمكنها من الاستدلال عن طريق الصدى, فهناك أنواع عديدة تشاركها في ذلك؛ مثل: الجرذان والفقمة, ولكن إجادة الجرذان والفقمة لاستخدام الصدى أقل إلى حد يكاد يقرب مما لدى العميان من بني البشر, أما الحيتان فإنها تنافس الخفافيش في القدرة الفائقة على الاهتداء بالصدى, وآلتها في ذلك موجودة في الرأس.

فالدلافين تطلق طقطقات سريعة ذات درجة مرتفعة، بعضها نسمعه وبعضها يقع في نطاق ما فوق الصوت, والأرجح أن الجهاز الخاص بذلك يقع في البروز المميز المكور الذي يوجد في مقدمة إحدى طائرات التجسس المعروفة, لكن كيفية عمل هذا العضو عند الدلافين لا تزال غير واضحة تمامًا، وكما في الخفافيش, هناك معدل من الطقطقات بطيء نسبيًّا يميز الانطلاق المعتاد لحركة الدلفين, لكن المعدل يزداد ليفوق 400 طقطقة في الثانية إبان انطلاقه السريع نحو طريدته, والمعدل العادي سريع أيضًا ويمتاز بدقة عالية في تحديد الموقع، لدرجة جعلت بعض العلماء يقولون: إن بعض أصناف الدلافين النهرية التي تخوض المياه الموحلة تعتبر أكثر أصناف الأحياء مقدرة على استغلال رجع الصدى، لكن الدلافين البحرية ماهرة أيضًا, فمن دلافين الأطلسي ما يستطيع أن يميز مثلثا أو دائرة أو مربعًا كلها من مساحة واحدة؛ وذلك بالاعتماد على أمواج الصوت المنعكسة في الماء ـ أو ما يطلق عليه اسم "السونار" ـ ويستطيع هذا النوع أن يميز هدفين لا تفصلهما إلا مسافة نصف السنتيمتر تقريبًا, وإن كانا على بعد يبلغ حوالي ستة أمتار فيحدد أيهما الأقرب، كما يستطيع أن يكتشف كرة من الفولاذ حجمها نصف حجم كرة الجولف تقريبًا، إذا كانت على مسافة ستين مترًا تقريبًا، ومع أن هذا الإنجاز لا يصل إلى قدرة إبصار الإنسان في الضوء العادي, إلا أنه أفضل من قدرة الإبصار عند الإنسان في ليلة مقمرة.

وليس في فصائل الأسماك والحشرات ما يشبه ذلك, ولكن هناك صنفان من الأسماك أحدهما في أمريكا الجنوبية والآخر في أفريقيا, يستطيعان الاهتداء بوسيلة تشبه رجع الصدى ولا تقل عنها في مستوى الإتقان، وهذان الصنفان هما من الأسماك ذات الكهرباء الضعيفة, وهي توصف بذلك تمييزًا لها من الأسماك ذات الكهرباء القوية التي تمكنها من صعق فريستها.

والشيء الوحيد المشترك بين السمكة الأمريكية والسمكة الأفريقية هي البيئة التي توجدان فيها؛ فهي أعماق البحار الموحلة حيث لا يعني الإبصار شيئًا, فهما تلجآن إلى استخدام المجالات الكهربية التي تنتشر في الوسط المائي, وهي وسيلة يصعب إدراك خفاياها بمثل الوضوح المتيسر في حالة الصدى, وربما توضح أبحاث العلماء بعض أسرارها مستقبلا.

والمعلومات المتوفرة عن فعل هذه الوسيلة الكهربية تبين أن التيار ينطلق من المناطق الأمامية في جسم السمكة الكهربائية, ثم يعود أدراجه ليستقبل عند الذيل, وبذلك يحاط جسم السمكة بمجال كهربي, فإذا كانت السمكة معلقة في ماء لا يحتوي على عوائق كانت انحناءات خطوط المجال الكهربي منتظمة، ويكون إحساس السمكة بالتيار الكهربي دالًّا على أن كل شيء هادئ، فإذا ظهرت عقبة في الجوار ـ مثل: صخرة أو جسم عدو أو قطعة من غذاء ـ فإن الخطوط تتغير عند اصطدامها بتلك العقبة فيتغير الإحساس عند نوافذ تلك الخطوط ـ وهي أماكن انطلاقها من الجزء الأمامي في السمكة ـ وتؤدي المقارنة مع الحالة العادية إلى انطباع عن شكل العقبة وإلى ما يشبه خارطة للبيئة الجديدة.


من أسرار الغرائز:

قال تعالى: )قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)( (طه).

تشير هذه الآية الكريمة إلى ما أودعه الله عز وجل في المخلوقات من أخلاق وطبائع تتمثل في شعور فطري وسلوك غريزي لا إرادي, وقد تكون هذه الطبائع طيبة كالأمومة والشجاعة, أو رديئة كالجبن والخوف, ولكنها في جميع الأحوال ضرورة حيوية لوظيفة الكائن التي هيأها الله وأعدها له أو أعده لها.

وإذا تعرضنا ـ على سبيل المثال ـ لغريزة الخوف والحذر وجدناها أهم غريزة خلقها الله عز وجل في كل حيوان لينقذ نفسه من الخطر، وينجو مما يهدده، وقد زود الخالق عز وجل كل مخلوق بما يناسبه؛ فأعد لبعض الحيوانات جسمًا خفيفًا وسيقانًا رشيقة لتجري وتقفز في سرعة ورشاقة, بل إن منها ما يتسلق الأشجار ليختفي بين الأغصان فينجو من الهلاك, وزود البعض الآخر بقرون قوية أو مخالب مدببة حادة أو أنياب قوية لتدافع عن نفسها, أو لتفترس ما تأكله لتعيش, ومنح الطيور أجنحة لتحلق في الجو فتهرب مما يهددها.

ومن عجب أن يستعمل كل حيوان سلاحًا معينًا دون آخر؛ فالثور يقاتل عدوه بقرنيه وهو لا يدري بوجودهما على رأسه, ولا يستعمل أسنانه القوية مثلًا مثلما يفعل النمر أو الأسد.

إن الله تعالى قد حصن جسم القنفذ بأشواك حادة تغطيه كالدرع, فإذا ما اجترأ عدو على مهاجمته انتصبت هذه الأشواك وتقلب القنفذ على عدوه متدحرجا كالكرة فوقه ليدافع عن نفسه, والسلحفاة وضعها الله تعالى في حصن حصين ودرع متين, فإذا ما شعرت بخطر يهددها أدخلت رأسها وأرجلها في هذا المخبأ الإلهي الذي لا يستطيع أي حيوان أن يكسره ليصل إلى لحمها، وهناك بعض الكائنات التي حماها الله بقناع من الألوان لتخفيها عن عدو يفتك بها، بل إن الحرباء العجيبة يتغير لونها بلون ما تحتها لتختفي عن الأنظار.

وإذا كان هذا هو ما يحاوله الكائن الحي للمحافظة على نفسه فإن هناك من الغرائز ما يدفع النوع الواحد من الحيوانات إلى أن يتخذ من ضروب الحيطة والحذر ما يساعد على حماية أفراده؛ فكل الحيوانات والطيور التي تسير في هيئة جماعات تتخذ من بعض أفرادها خفراء يحرسونها, وأدلة يكشفون الطريق لها, ولا يكون هذا عن مصادفة, بل يكون عن قصد وتدبير, فإن الفيَلة في الغابات لا تسير فرادى إطلاقًا, اللهم إلا من حكم عليها بالشرود, وجماعة الفيَلة يتقدمها دليلها إلى الماء أو الغذاء.

وأسراب الطيور في سيرها يحرسها أكبر ذكورها, ويسير ضعافها في مؤخرتها, بينما الظباء تسير حراسها في الخلف؛ لأن الذئب ـ وهو أخطر أعدائها ـ لا يهاجم القطيع إلا من خلفه، وتظهر قافلة الاستكشاف واضحة في أسراب الجراد؛ حيث يسير في المقدمة بضعة أفراد لاكتشاف الطريق, وتكون هذه المجموعة المحدودة إنذارًا بسرب هائل قد يغطي ما مساحته 2000 ميل مربع، أما الجاموس الوحشي الأفريقي فمن عادته أن يقبع حارسه على أعلى بقعة في الغابة ليشرف على مشارف الطرق ومسالكها, بينما تعمد القنادس إلى تعيين حراس يخفرون الجهات الأربع؛ نظرًا لأنها تحدث ضجة كبرى في أي مكان تحل به عندما تقوم بقطع أغصان الأشجار وأوراقها.

وإذا انتقلنا إلى الحديث عن طبائع أخرى في عالم الحيوان فإننا نجد أن الحيوانات المفترسة تحسن أولًا قتل الفريسة ولا تشرع في أكلها إلا بعد موتها؛ فقد علمها الله تعالى كيف تفترس في سرعة وفي رحمة, كما علمها كيف تحتال لتصيد فرائسها.

من ناحية أخرى, إذا كان الإنسان يحرص دائمًا على حماية نفسه بالطب والدواء فإن الحيوانات والطيور تأخذ مكانًا ظليلًا باردًا طلق الهواء قريبًا من الماء إذا أصابتها الحمى, بينما تأخذ لها مكانًا شرقيًّا دافئًا تسطع فيه الشمس إذا ما أصابها البرد"([21]).

أليست كل هذه الكائنات الحية تنطق بوجود الخالق الحكيم المبدع الذي خلقها على هذا النحو من الإبداع والدقة, والذي هداها سبلها ومعيشتها؟! إنه الإله الحق, المتفرد بالخلق والملك والتدبير.

5. دليل حدوث المادة:

ذهب جماعة الملاحدة إلى القول بأن المادة قديمة أزلية, ولم يتقدم عليها إيجاد, ولم يخلقها أحد, ولذلك فهي موجودة بنفسها لم يتقدمها خلق, ولم يوجدها أحد, وبذلك فلا خالق لها ولا مدبر, ويتوصلون بهذا القول إلى إنكار الخالق.

إلا أن هذا الزعم قد كذبه العلم الحديث, فضلًا عن تهافته في التفكير العقلي السليم, لقد أثبت العلم الحديث أن هذا الكون حادث, وأن المادة لها بداية ونهاية, وأن لها خالقًا أوجدها, وكشفت نظريات العلم الحديث عن هذا بوضوح, خاصة بعد اكتشاف نظرية الانفجار العظيم الذي أسفر عنه بداية الكون.

"فمن الملاحظ أن المادة في الطبيعة في حال تغير وتبدل؛ فالأعراض والصور القائمة بالمادة في حال تغير وتجدد مستمر, وكل صورة أو وضعية للمادة قد نتجت من صورة ووضعية سابقة لها, فالصورة أو العرض الجديد قد أخذ حالته الراهنة من العرض السابق له, وعرف الجديد اعتمادًا على الذي قبله من عرض سابق ومؤثر سابق, إذًا نحن أمام تسلسل تنتج كل حلقة فيه وتأخذ تعريفها مما قبلها, إذًا حسب القاعدة التي ذكرناها لا بد أن يكون للمادة صورة أولى ووضعية أولى وأعراض أولى قامت بها, ومنها ابتدأت سلسلة الصور المتلاحقة القائمة بالمادة.

بعد ثبوت ذلك فإما أن تكون المادة ملازمة من الأزل صورًا وأعراضًا واحدة ولا تغير فيها ولا تبدل، ثم ابتدأ التغير فيها فجأة بلا فاعل خارج عنها, أو أنها أحدثت على صور أولى.

الاحتمال الأول غير ممكن؛ لأن الساكن يبقى ساكنًا إلى الأبد، ولا تنطلق الحركة والتغير من قلب السكون تلقائيًّا, إذًا يثبت الاحتمال الثاني وهو أن المادة محدثة وجدت بعد أن كانت معدومة.

هذا ويمكننا صياغة البرهان السابق على شكل آخر، أقول: من المعروف أن تحولات المادة توصف بتوابع رياضية معينة, ومن المعروف أن كل تابع رياضي لا يعطينا قيمًا واصفة لحالة المادة إلا إذا حددنا له شروط البدء.

ومن المعروف أن شروط البدء هذه قد نتجت بدورها من توابع رياضية أخرى خضعت المادة لها.

وتابع التابع المركب من تابعين أو أكثر يبقى تابعًا، ويبقى محتاجًا لشروط البدء لكي يعطينا قيمًا محددة تصف حالة المادة.

وإذا أطلقنا تسمية التابع العام على التابع المشكل من تركيب سائر التوابع المتلاحقة الواصفة لحالة المادة، فهذا التابع العام لا بد له من شروط بدء أولى ليعطينا قيمًا واصفة لحالة المادة الراهنة, ولما كان هذا التابع له قيم محددة الآن تصف الحالة الراهنة فلا بد أن تكون له شروط بدء أولى تحددت قيم الحالة الراهنة اعتمادًا عليها، ويعني هذا أن للمادة وضعية أولى وحالة أولى؛ أي إنها محدثة.

بعد تقديمنا لهذا الدليل الإلزامي على حدوث المادة لا بأس أن نستأنس بمعطيات علمية تؤيد القول بحدوث المادة.

1. دليل التوسع الكوني: وجد علماء الفلك أن الأجرام والمعجزات الكونية في حالة توسع دائم وكأنها على بالون من المطاط يجري نفخه, وقد قاد هذا النظر إلى تقرير أن المادة كلما أغرقنا في الماضي وجدناها منضمة إلى بعضها أكثر فأكثر, وطرح التوسع الكوني تساؤلًا هو: ما هي النهاية الصغرى لهذا الانضمام؟ وكيف زودت هذه الأجرام الكونية بهذا الاندفاع الهائل؟

كل ذلك جعل علماء الفلك يقررون أن الكون نشأ عن انفجار كوني أولي، وقد أيد هذه النظرية اكتشاف حقل كهرطيسي, منبث في أرجاء الفضاء الكوني عُزي إلى الانفجار الأولي, وقد أصبحت هذه النظرية هي القياسية والمعتمدة لدى عامة الفلكيين, وهذا يعني بوضوح أن الكون محدث.

2. دليل التوازن الحراري: تجري في الطبيعة عمليات تدعى بالتلقائية؛ كهبوط الماء من أعلى إلى أسفل, وانتقال الحرارة من الجسم الأسخن إلى الأبرد؛ وفيها تفقد المادة ما يسمى بالطاقة الحرة.

ولا يمكن لهذه العمليات أن تكرر نفسها بلا تناهٍ، وينص المبدأ الثاني في علم الحرارة والتحريك ـ ترموديناميك ـ أن العمليات الطبيعية غير معكوسة, هذا ومجمل العمليات في الطبيعة من نوع العمليات التلقائية؛ لذلك فالجُمل المادية في المحصِّلة تخسر باستمرار ما يسمى بالطاقة الحرة، لذلك لا تستطيع أن تكرر أطوارها بلا تناهٍ؛ فالأجسام الحارة تفقد حرارتها لتتوازن مع الأجسام الباردة، والمنابع الحرارية تسعى نحو الانطفاء والكل يسعى إلى التوازن.

وكل جملة مادية محددة تحتاج إلى زمن محدد لتبلغ حالة التوازن؛ حيث تكون قد فقدت كل طاقتها الحرة، إذا نظرنا الآن إلى مجرة من المجرات واعتبرناها جملة مادية نجد أنها تحتاج إلى زمن محدد لتبلغ حالة التوازن, ولما كانت لم تبلغ حالة التوازن بعد فما مر عليها من زمن محدود؛ لأن ما هو أقل من المحدود محدود.

ويُعترض على هذا الدليل بأن مبادئ الترموديناميك لا تطبق إلا على جمل معزولة, وليست المجرة معزولة تمامًا عن الكون.

أقول: إن هذه الملاحظة لا تمنع تطبيق مبادئ الترموديناميك على مسألتنا؛ لأن تأثير المجرات على بعضها ضعيف والمجرة التي اعتبرناها جملة مادية تخسر كل يوم مقدارًا هائلًا من طاقتها الحرة, ولا يعوض لها تأثرها بباقي أجزاء الكون مقدارًا ضئيلًا من ذلك.

ثم إن كل نجم وكل مجرة يسعيان بمفردهما نحو الاستقرار, ولن يعين نجمًا ملتهبًا كالشمس على عدم بلوغ لحظة الانطفاء والتوازن وجود نجوم أخرى كثيرة تسعى للهدف ذاته، وإن سائر العمليات التي تتم معًا على التوازي لا على التوالي لا يتعلق زمن انتهائها بعدد تلك العمليات.

ثم إن معطيات النظرية النسبية تقول: إن الكون يطوى على نفسه بحيث لو انطلق شعاع ضوئي مستقيمًا فسيعود بعد مسيرة كافية للنقطة التي بدأ منها, إن قبلنا بذلك أمكن اعتبار الكون كله جملة معزولة، وكان محتاجًا إلى زمن محدد لكي يتوازن ويستقر.

3. دليل بناء الذرة:من المعروف أن ذرات الكون مكونة من نوى وإلكترونات تدور حولها بسرعة كبيرة, ويتوازن الإلكترون في مداره بفضل تساوي قوة جذب النواة مع القوى النابذة الناشئة عن الدوران.

وإن كل جسم يتوازن على هذه الكيفية لا يمكنه التوازن ما لم يكن مزودًا بسرعة ابتدائية؛ لأنها ـ أي السرعة الابتدائية ـ تدخل في معادلة توازنه, كما تدخل السرعة الابتدائية في معادلة توازن القمر الصناعي الدائر حول الأرض.

وهذا يعني أن بناء الذرات المادية في الكون محدث, وهذا ينفي ما يزعمه بعضهم من أن أصل الكون سديم غازي, وذرات هذا الغاز أزلية لا أول لوجودها"([22]).

بهذا أثبت العلم الحديث أن المادة حادثة, وأنها وجدت بواسطة خالق مبدع, وليست أزلية, وبهذا فلا بد من واجد لها, هو ذلك الخالق الحكيم، كما يرد الدكتور وحيد خان على القول بأزلية المادة بقوله: "لقد كان لهذا الاستدلال حسنه ورواؤه حتى القرن التاسع عشر, ولكنا اليوم ـ وبعد كشف "القانون الثاني للحرارة الديناميكية" (SecondLawofThermoDynamics) ـ نجد أن هذا الاستدلال فقد كل أساس كان يقوم عليه.

وهذا القانون الذي نسميه "قانون الطاقة المتاحة " أو "ضابط التغير" (LawofEntropy) يثبت أنه لا يمكن أن يكون وجود الكون أزليًّا؛ فهو يصف لنا أن الحرارة تنتقل دائمًا من "وجود حراري" إلى "عدم حراري", والعكس غير ممكن, وهو أن تنتقل هذه الحرارة من "وجود حراري قليل" أو "وجود حراري عدم" إلى "وجود حراري أكثر"، فإن ضابط التغير هو التناسب بين "الطاقة المتاحة" و "الطاقة غير المتاحة".

وبناء على هذا الكشف العلمي المهم فإن عدم كفاءة عمل الكون يزداد يومًا بعد يوم, ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات, وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل, وسيترتب على ذلك أن تنتهي العمليات الكيماوية والطبيعية, وتنتهي ـ تلقائيًّا ـ مع هذه النتيجة الحياة.

وانطلاقًا من هذه الحقيقة القائلة بأن العمليات الكيماوية والطبيعية جارية, وأن الحياة قائمة, يثبت لدينا قطعًا أن الكون ليس بأزلي؛ إذ لو كان الكون أزليًّا لكان من اللازم أن يفقد طاقته منذ زمن بعيد, بناء على هذا القانون, ولما بقي في الكون بصيص من الحياة.

يذكر هذا التحقيق العلمي الحديث عالم أمريكي في علم الحيوان, هو الأستاذ "إدوارد لوثر كسيل" فيقول: وهكذا أثبتت البحوث العلمية ـ دون قصد ـ أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائيًّا وجود الإله؛ لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته, ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأول ـ الخالق الإله.

وقد قال الكلام نفسه السير "جيمس": تؤمن العلوم الحديثة بأن "عملية تغيير الحرارة" (Entropy) سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلية, ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها؛ لأنه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الأرض, حتى نفكر فيها.

إن هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن, ومن ثم لا بد لها من بداية, ولا بد أنه قد حدثت عملية في الكون يمكن أن نسميها "خلقًا في وقت ما"؛ حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزليًّا.

وهناك شواهد طبيعية كثيرة تثبت أن الكون لم يكن موجودًا منذ الأزل, وأن له عمرًا محدودًا, وعلى سبيل المثال, نجد علم الفلك يقرر أن الكون يتسع بالتسلسل الدائم, وأن كل مجاميع النجوم والأجرام والأجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة, بعضها عن بعض، ويمكن أن نفسر هذه الحالة تفسيرًا جيدًا إذًا نحن سلمنا بوقت للبدء, كانت فيه كل الأجزاء التركيبية مركزة ومجتمعة بعضها مع بعض, ثم بدأت الحركة والحرارة، ويقدر العلماء أن هذا الكون قد وجد نتيجة لانفجار فوق العادة, وقع منذ 5000,000,000,000 سنة.

فالإيمان بهذا الكشف العلمي, وهو أن للكون عمرًا محدودًا يتعارض مع إنكار موجده, ومثل من يؤمن بحدوث الكون مع إنكاره لوجود خالقه, كمثل من يزعم أن "تاج محل" قام بنفسه من غير بنائين ومهندسين, مع تسليمه بأنه بني في القرن السابع عشر الميلادي, ولم يكن موجودًا منذ الأزل"([23]).

وهكذا "بعد أن أثبتنا حدوث المادة بالأدلة السابقة لنسأل: كيف وجدت المادة؟

إن قيل: صدفة، قلنا: لوجود الصدفة شروط أهمها وجود الشيء الذي يتصادف، فإن كان العدم المطلق هو المسيطر فلا شيء يتصادف مع شيء، إذًا لا صدفة.

إن قيل: الطبيعة أوجدتها، قلنا: ما هو تعريف الطبيعة؟ إن كانت الطبيعة هي جملة الموجودات, فهذه الموجودات كانت معدومة, فكيف يسند إليها الفعل قبل وجودها؟ وإن كانت الطبيعة هي الذات القادرة الحكيمة فهذا ما نسميه نحن الله, وإن كان لكم تعريف لها غير هذا وذاك فأبدوه لنا, وإلا فإسناد الفعل إلى لفظة ليس لها مدلول واضح هو عبث وتضليل.

إننا نقول في استدلال واضح: ما دام فعل الإيجاد لا يمكن أن يسند إلى المادة نفسها, ولا يمكن أن يسند إلى اللاشيء! فشيء آخر غيرها أوجدها؛ أي لهذا الكون خالق وهو ما نسميه الله تعالى([24]).

ثانيا. منهج البحث في التعرف على الخالق:

الإنسان في مجال بحثه عن الحقائق والمعارف المختلفة يسلك مجموعة من المناهج تختلف حسب موضوع البحث, ومعطيات القضية المدروسة, ولما كان البحث في العلوم الطبيعية والحسية مرتبطًا بالحواس والمشاهدة كان المنهج التجريبي لا يصلح أن يكون منهجًا لدراسة الحقائق الغيبية وما وراء المحسوسات, فمن الخطأ أن نحكمه في ذلك, وأن نتوقف عنده ولا نجاوزه؛ فالتعرف على الخالق والإيمان به لا يناسبه العلم التجريبي؛ إذ إن الله تعالى ليس حسًّا يُدرس, وإنما هو تبارك وتعالى من الغيبيات التي يتوصل إليها بمنهج آخر, وبوسيلة معرفية مختلفة.

ومن المهم في هذا السياق أن نبين أن المعرفة الإنسانية تتنوع مصادرها وأدوات تحصيلها؛ فأحيانًا نقول هذه المعرفة حسية خالصة, إذا كان موضوعها المحسوسات وأدواتها الحواس, كرؤيتنا للنار وللشمس والهرم, وأحيانا نقول هذه المعرفة عقلية خالصة إذا كان موضوعها هو المعاني والمعقولات المجردة؛ كعلمنا بالعدل وأنه خير, والظلم وأنه شر, وكعلمنا بأن النقيضين لا يجتمعان أبدًا, ولا يرتفعان أبدًا, وأحيانًا نقول هذه معرفة حسية عقلية معًا؛ كعلمنا بالمعارف التجريبية؛ مثل أن النار محرقة وأن الثلج بارد, والشمس تبعث الحرارة... إلخ.

ومن الملاحظ أن كل هذه المعارف الحسية المتنوعة ترتبط بالواقع الحسي وتبدأ منه وتعود إليه بسبب ما, أما المعارف العقلية الخالصة فلا علاقة لها بالمحسوسات أصلًا، لا بدءًا ولا نهاية، وإنما هي إدراك عقلي مجرد عن الحسيات ولواحقها.

ولكن هناك لون آخر من المعرفة يتعلق بما وراء المحسوسات, يتعلق بعالم الغيب, وليس التعرف على هذا العالم معزولًا عن العقل ولا منقطع الأسباب بالعلم الحسي، كما يخيل للبعض أن يزعم ذلك , ولكن منهجه في التعرف عليه بلغة أهل الاصطلاح: إن الخلاف فقط خلاف في المنهج والوسائل, وإذا أحسن الباحث توظيف المنهج العلمي في التعرف على عالم الشهادة والتعرف على وظيفة هذا العالم وأهداف وجوده ومقاصده والغاية الإلهية من وجوده ـ فإن ذلك يقوده بالضرورة إلى التعرف على عالم الغيب وقضاياه.

ولما كان هذا العلم عزيز المنال على كثير من العقول صعب التحصيل ـ لكثرة ارتباط العقل بالمحسوسات ـ كان دور الوحي في التعرف عليه مهمًّا وضروريًّا؛ ليقود العقل إلى ما غاب عنه, ليقرب إليه ما بعد عنه وليكشف له عما وراء حجب المحسوسات, وليست حاجة العقل إلى الوحي هنا تعني الطعن في العقل أو التقليل من شأنه، كما يحاول البعض أن يصور القضية وكأنها صراع بين العقل والوحي, لا، إن القضية ليست طعنًا في العقل ولا تهوينا من شأنه، إنها فقط توزيع وظائف, إنها أشبه بوضع كل أداة من أدوات المعرفة في مكانها المناسب لها، ومحاولة الإفادة منها في مكانها وبوضعها الطبيعي المخلوقة من أجله, وكما قلنا: إن هناك معرفة حسية خالصة أدواتها الحواس, وهناك معرفة عقلية خالصة أدواتها العقل، ومعرفة حسية عقلية يشترك في تحصيلها العقل والحواس معًا, فكذلك هناك معرفة غيبية لا ينالها العقل بمفرده, بل لا بد له من الاستعانة بالوحي لكي يتعرف عليها بواسطته ويؤمن بوجودها, هذا إذا كنا نتعامل مع عقل مؤمن بالوحي والرسالة، أما إذا كان الخطاب مع عقل غير مؤمن بالله ولا بالوحي فإن ذلك له مستوًى آخر من الخطاب ليس هذا موضعه"([25]).

إذًا فالبحث فيما وراء المحسوسات يتطلب نوعًا آخر من الوسائل والمناهج, كما أنه ليس بعيد الصلة بعالم المحسوسات والمعقولات، وإنما ينطلق منها, وكلما ازداد الإنسان معرفة بالعالم المحسوس ازداد إيمانًا بما وراءه من عالم غيبي, فكما أثبتنا في الوجه الأول أن هذا العالم المادي العجيب لا بد أن يكون وراءه خالق حكيم مدبر, وهذا الخالق غيب من وراء المحسوسات ـ فإن التعرف عليه له وسيلة أخرى، ألا وهي: الوحي.

وهنا نؤصل بعض الأساسيات في البحث الغيبي قبل التطرق إلى منهج التعرف على الخالق، ومنها:


1.عدم الإدراك بالحواس لا يعني عدم الوجود:

هذه قاعدة واضحة يسلم بها العقلاء؛ لأن الرؤية دليل على الوجود, لكن عدم الرؤيا ليس دليلًا على عدم الوجود, وهنالك أشياء كثيرة موجودة بيننا لا نراها ولا نحس بها؛ كالأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية, فكيف بالموجودات التي ليست بيننا!

كذلك فإن الجهل بالشيء ليس هو العلم بعدم وجوده؛ لأن علم الإنسان الطبيعي لم يحط بكل شيء.

فالذين ينكرون الغيبيات لا يستندون إلى علم بل إلى جهل, وأنى للجهل أن يكون مستندًا صحيحًا؟!

ثم إن العلم بمعناه الواسع يشمل كل ما أثبته العقل ولو لم يكن المثبت أمرًا طبيعيًّا, فهل يشمل الحقائق الغيبية المبرهن عليها وإنكار ذلك من الغرور والتمرد القبيح؟!

2.عدم التصور لا يعني عدم الوجود:

إن تصور الإنسان يبقى حبيس الواقع الذي هو فيه, ولما كان الواقع الذي يعايشه ويشعر به محدودًا كان تصوره محدودًا أيضًا.

يؤيد ذلك أن الأعمى منذ ولادته مهما أوتي من الذكاء، ومهما أوتيت أنت من القدرة على التفهيم فلن تجعله يفهم حقيقة الألوان؛ لأنه يعيش في عالمه الخاص الذي لا يشعر فيه بأي لون.

ولو أننا تساءلنا: هل لهذا الفضاء الكوني نهاية أم لا؟ أما النهاية فالإنسان لا يستطيع أن يتصورها؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور الحد الذي ينتهي عنده الفراغ ولا يكون بعده فراغ.

أما اللانهاية فهو أيضًا لا يستطيع أن يسلم بها ويقيم لها صورة في ذهنه, كذلك لا يستطيع أن يتصور ما يقوله بعض المعاصرين من أن الكون يطوى على نفسه.

كل ذلك يؤكد أن تصور الإنسان محدود، وقد جاءت العلوم المعاصرة ـ كعلوم الذرة والنسبية ـ بقضايا لا يستطيع المرء أن يتصورها، واعتبرت من الحقائق العلمية.

فكذلك نحن في مسائل العقيدة قد نصل إلى أمور يصعب تصورها، ولا يشكِّل ذلك قادحًا في صحتها, ومن غير المستغرب أن يكون تصور المخلوق لا يحيط بشأن خالقه.

3.العقائد لا تبنى على الحدس والافتراض:

نجد أن بعض الكاتبين عندما يكونون بصدد بحث ظاهرة معينة يفرضون من عند أنفسهم تفسيرات وأسباب للظاهرة المبحوثة، حسبما يهديهم حدسهم وخيالهم, ثم يربطون النتائج بالمقدمات بما يرونه من مسوغات في نظرهم؛ ليعطوا بالنتيجة تفسيرًا مقبولًا للظاهرة المبحوثة.

إن هذا المسلك لا يعتبر علمًا صحيحًا ولو قدم صاحبه تفسيرات مقبولة؛ وذلك لأنه افتراض, ولم يقدم صاحبه دليلًا على هدم كل تفسير آخر غير الذي جاء به.

ولما كانت العقيدة ومسألة الألوهية من أهم القضايا في الحياة وجب أن نبحثها بحثًا علميًّا يبتعد فيه عن الافتراض والتحكم, وعلينا أن نبدأ البحث من النقاط المتفق عليها بين العقلاء جميعًا, ووفق مقتضيات المنطق الإنساني البين ومستلزماته, فإن أوصلنا العقل وفق هذا المنهج إلى حكم في مسألة الألوهية قلنا به, وإلا توقفنا ولم نحكم بشيء.

وأنوه هنا إلى أنه كما يجب على المؤمنين أن يبرهنوا على وجود الخالق تعالى فإن على الملحدين أن يقدموا دليلًا على نفيهم لوجوده؛ لأن النفي التام كالإثبات التام, كلاهما يحتاج إلى دليل, وحتى لو كان دليل خصومهم غير كافٍ فهذا لا يسوغ لهم النفي التام([26]).

وعلى هذا، فإن منهج التعرف على الخالق يقوم على الربط بين العقل والوحي ـ ذلك الإخبار والإعلام من الخالق للخلق عن طريق الأنبياء والرسل ـ فللعقل دوره الذي ينتقل من المحسوسات والكون لإدراك الحقيقة الكلية والمقاصد من وراء الخلق؛ ليصل إلى إدراك الحكمة والغاية من الخلق, ويؤمن بأن هناك غيب وراء هذا العالم, ثم يأتي الوحي ليهدي العقل إلى هذا الخالق ويبصره به, ويدله على ذاته وصفاته.

وهنا نتحدث عن دور العقل في عالم الشهادة للوصول إلى الإيمان بعالم الغيب, ثم نتحدث عن الوحي ومفهومه وإثباته للخالق.

وظيفة العقل في عالم الشهادة:

عالم الشهادة وهو المقابل الشرعي للعالم الحسي والمحسوسات لدى علماء المناهج أو المعرفة الحسية, وينطلق موقفنا هنا في تحديد علاقة العقل بعالم الشهادة من توجيهات القرآن الكريم التي تجعل النظر العقلي والتأمل في آيات الله أفقية كانت أو نفسية مطلبًا شرعيًّا وواجبًا دينيًّا على سبيل الفرض الكفائي أحيانًا, وقد يرقى في بعض الأحيان إلى مستوى الفرض العيني على شخص بذاته, أو جماعة معينين بذواتهم؛ حيث يلزمهم ولي الأمر ويجبرهم على أداء هذه الوظيفة التي تعينت عليهم والتي لا ينهض بها سواهم, حتى تستقيم أحول الأمة لها, ومن حق ولي الأمر أن يعاقبهم ـ أفرادًا كانوا أو جماعة ـ إذا لم ينهضوا بهذه المسئولية التي أصبحت بمثابة الدين الواجب الأداء, كما إذا تعين على جماعة ممارسة مهنة الطب أو صناعة الأسلحة للجيوش, أو فن الهندسة أو القيام بخدمات أخرى لا ينهض بها سواهم.

والقرآن الكريم يحث العقل ويدفعه دفعًا إلى التعرف على هذا الكون واكتشاف قوانينه, ومعرفة خصائصه والتعرف على العلاقات المتبادلة بين أنواعه وأجزائه للوقوف على خصائص العلاقات السببية الكامنة فيه؛ لأن ذلك كله يرتبط برسالة الإنسان في هذا الكون والهدف من وجوده, واستخلافه في الأرض وتنفيذه للأمر.

وهذه المهام لم ولن تتم للمسلم إلا باكتشاف قوانين الأشياء ومعرفة العلاقات السببية فيها؛ ليستطيع أن يحقق فيها المعنى الإلهي المقصود من تسخير هذا العالم من سمائه إلى أرضه لصالح الإنسان.

ولقد شاع العلم بهذه الآيات القرآنية التي تأمر العقل بالنظر والتأمل, وأصبحت معروفة للعامة والخاصة, ولذلك سوف نعفيكم من سردها في هذا المختصر, ولكن الذي يلفت النظر وينبه إليه أن منهج القرآن في سوق هذه الآيات كان يأخذ بمبدأ التدرج والترقي من مستوى معرفي إلى مستوى آخر أرقى وأدق, ويفتح أمام العقل مجالات للنظر وآفاقًا أرحب للتأمل كان يجهلها العقل من قبل؛ لتكون مسرحًا لنظره العقلي وعمله الفكري, فالكون كله قد أعده الخالق عز وجل وجعله مهيـأ للنظر العقلي؛ ليجعل منه حبلًا ممدودًا وسببًا موصلًا بين الإنسان العارف وموضوع المعرفة من جهة, وغاية هذه المعرفة وهدفها من جهة أخرى, ولذلك كانت آيات القرآن المتصلة بهذا الموضوع تختم غالبًا بقول الله تعالى: )إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13)( (الجاثية).

1. ونجد آيات القرآن في هذا الصدد تأمر الإنسان بالنظر إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان وما فيها من أصناف الموجودات من حيث كيفية الصنيعة, دقة وإتقانًا, فتقول له: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20)( (الغاشية).

والسؤال في هذه الآيات يدور حول كيفية الصنعة وليس عن وجودها, والفارق كبير بين مضمون السؤالين؛ فالسؤال عن كيفية الصنعة لا يملك الإجابة عنها إلا صانعها أو من كان في مستواه من العلم بكيفيتها والغاية والقصد منها؛ ولذلك فإن النظر العقلي هنا يدرك من مضمون السؤال حسب استطاعته فقط, فهو يدرك منها ولا يدركها, لتبقى القضية كلها في نطاق الإعجاز من جانب، ومطلبًا شرعيًّا للعقل من جانب آخر.

2. وأحيانا يطلب القرآن من العقل ألا يكتفي بمجرد النظر إلى هذا الكون بل لا بد أن يخترق ظواهره؛ ليكتشف ماذا في داخله وباطنه, قال تعالى: )قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)((يونس)، ومعلوم أن الأمر بالنظر في الشيء أعلى درجة من مجرد النظر إلى الشيء, فليصعد الإنسان إلى القمر ـ إن شاء ـ أو إلى ما شاء من الكواكب, وليهبط ـ إن شاء ـ في باطن الأرض مكتشفًا وباحثًا؛ فإن ذلك كله مطلب شرعي في منهج القرآن, لأن رسالة الإنسان في الكون واستعمار الأرض لا تتم إلا بذلك, وحين يخاطبنا القرآن بقوله تعالى: )وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (61)((هود)، فإنه يطلب منا بصيغة الأمر أن نعمل على عمارة الأرض بكل ما نستطيع, ويجعل التقصير في تنفيذ هذا الأمر معصية جماعية لا تجني الأمة ثمرتها إلا فقرًا ومرضًا ومذلة وهوانًا وتخلـفًا وتبعية لأمم الأرض.

وحين يذكرنا القرآن بأحوال الأمم السابقة وكيف جرت عليهم السنن الإلهية في الكون من ازدهار للحضارات أو انهيار لها ـ فإن ذلك كان على سبيل التعليم والإفادة من الدرس والعبرة من التاريخ؛ ليكون تاريخ الإنسان نفسه مجالًا رحبًا لعمل العقل ليتعرف منه على أساس السنن الإلهية في ازدهار الحضارات وانهيارها, ليعي العبرة من قصص القرآن لهذه السنن وعلاقاتها بالأفراد والجماعات, فالكون كله مسرح للعقل وميدان لعمله, وتاريخ الإنسان كله مسرح لنظر العقل, والعقل مهيأ للسيطرة الكلية على الكون واحتواء تاريخه, فكرًا وتأملًا, مقدمات ونتائج, علاقات بين الأشياء, أسبابًا ومسببات, تسخيرًا وتوظيفًا, وتلك مهمة العقل ووظيفته في عالم الشهادة, وذلك واجبه الشرعي الذي ندبه القرآن له وحثه عليه وأمره به.

وليس من قبيل المصادفة أن يلفت القرآن نظر المسلم إلى بعض آيات بعينها من آيات الله في كونه جعلها اسمًا وعلمًا على بعض سور القرآن, وكأنه يقول للعقول في هذه اللفتة: تلك قضية تحتاج إلى نظر وتدبر, وقد يقرأ المسلم هذه الآيات دون أن يعيرها حقها من النظر والتدبر مع أنها تحتاج من القارئ أن يقف أمامها طويلًا وطويلًا؛ لأنها جاءت بصورة شاملة لكل أنواع الموجودات غالبًا.

· فهناك آيات تنتمي إلى عالم الحشرات جاءت عَلمًا على بعض سور للقرآن؛ مثل: سورة النحل, سورة النمل, سورة العنكبوت.

· وهناك آيات تنتمي إلى عالم الأفلاك والطبيعة كانت عَلمًا على بعض سور القرآن؛ مثل: سورة الشمس, سورة القمر, سورة الرعد.

·     وهناك آيات تنتمي إلى عالم النبات؛ مثل: سورة التين والزيتون.

·     وهناك آيات تنتمي إلى عالم الحيوان؛ مثل: سورة البقرة, سورة الأنعام.

·     وآيات تنتمي إلى عالم الزمان وبعض أوقاته؛ مثل: سورة الليل, سورة الضحى, سورة العصر, سورة الفجر.

·     وآيات تعبر عن الكون كله؛ مثل: سورة الملك.

·     وآيات تعبر عن أصل الإنسان في بعض مراحله؛ مثل: سورة الإنسان.

ويُقْسِم القرآن ببعض الآيات الكونية تنبيها للعقل إلى أهميتها في حياة الإنسان، وإلى ضرورة الاهتمام بها فكرًا وتأملًا وتوظيفًا: )فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76)( (الواقعة)، )فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39)( (الحاقة)، )والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18)( (التكوير)، )فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18)( (الانشقاق).

هذه بعض آيات الله في كونه التي تستحث العقل وتدفعه دفعا للنظر والتأمل فيها, وهذا الكون هو عالم العقل ومسرحه الحسي الذي يملك العقل أدوات التعامل معه, ويستطيع السيطرة عليه إن شاء على قدر استطاعته, ويجعل القرآن عمل العقل فيه وتعامله معه مطلبًا شرعيًّا وواجبًا دينيًّا، وعبادة يتقرب بها إلى الله، يعاقب المجتمع على التفريط فيه أو الإعراض عنه.

ومن الأمور اللافتة للانتباه أن الآيات السابقة تتسع دائرتها لتشمل الكون كله من عالم الأفلاك إلى عالم النبات وعالم الجماد, فليس في الكون ما هو غريب على العقل, وليس فيه ما هو فوق مستوى الإدراك العقلي, أو يعز على العقل مناله, فالكون كله موضوع بحثه وموضوع كدِّه وكبده, وحين يعمل العقل ويستفرغ وسعه بحثًا وفكرًا وتأملًا يكون حينذاك في عبادة شرعية لله, وكلما ازداد عمله وعلمه ازداد لله خشية ومن الله قربًا: )إنما يخشى الله من عباده العلماء( (فاطر: 28).

وينبغي أن يبدأ توظيف العقل في عالم الشهادة من هذا المنطلق القرآني, ومن خلال تحديد القرآن لوظيفته في هذا الكون: لقد ندبه للنهوض بها وائتمنه عليها, وطلب منه إعمار الكون؛ تبعا لهذا المنهج باكتشاف القوانين, والتعرف على العلاقات السببية الكامنة في الأشياء, ليسخر الكون لخدمة الإنسان وتحقيق مصالحه, وليحقق في ذلك معنى الاستخلاف عن الله في الأرض.

ومن جانب آخر فإن النكوص عن أداء هذه الوظيفة إهدار لطاقة العقل وضياع لرسالة الإنسان, وجريمة في حق الدين والدنيا معًا, وعلاقة العقل بعالم الشهادة على هذا النحو السابق تقوم على أسس معينة يعتبرها القرآن أركانا لتكليف العقل بهذه الوظيفة, بحيث إذا تخلف ركن منها سقط عن الإنسان ما يقابله من التكاليف الشرعية.

1. إن العقل يملك القدرة المؤهلة له للتعرف على هذا العالم واكتشاف قوانينه وتحديد العلاقات السببية بين أنواعه؛ ليجعل منه مملكته التي استخلفه الله عليها.

2. إن الله تعالى قد زود الإنسان بالحواس الخمسة, وجعلها جنودًا للعقل يتعرف بها على كل محسوس, وفي الوقت نفسه هي مناط مسئولية الإنسان أمام الله يوم القيامة, إذا أساء استعمالها أو أهمل توظيفها: )ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا (36)( (الإسراء)، والتكاليف الشرعية منوطة بهذه الأدوات المعرفية وجودًا وعدمًا, فإذا تخلف واحد منها سقط عن الإنسان ما يقابلها من التكاليف الشرعية؛ ولذلك كان من القواعد الأصولية: إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب، وقال تعالى: )لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرًا (7)( (الطلاق).

3. هذه الحواس هي روافد المعرفة العقلية عن عالم الشهادة, وهي جواسيس العقل وعيونه حسب تعبير الغزالي وبدون هذه الجواسيس لا يستطيع العقل أن يعلم شيئًا يقينيًّا عن عالم الشهادة, فمن فقد حاسة البصر فاته العلم بعالم المرئيات, ومن فقد حاسة السمع فاته العلم بعالم المسموعات, وهكذا شأن بقية الحواس...

4. إن ما غاب عن حواس الإنسان وتجربته الشخصية في هذا العالم فقد غاب عن العقل العلم اليقيني به عن هذا الطريق, طريق التجربة الحسية, لكن قد يعلمه عن طريق آخر غير تجربته هو, كأن يعلمه عن طريق خبر المعصوم مثلًا أو عن طريق ما تواتر العلم به عن الأمم السابقة... إلى غير ذلك من طرق العلم الأخرى, فكل ما ثبت صدقه عن طريق تجريب الغير له وتم العلم به لزم الأخذ به والعمل بمقتضاه ممن لم يجرب بنفسه, وهذا في عالم الشهادة معلوم بالاضطرار من كل أحد.

فالمريض لا يسوغ أن يمتنع عن تناول الدواء الذي وصفه الطبيب بدعوى أنه لم يجربه قبل ذلك بنفسه, والأعمى لا يسوغ له أن ينكر ضوء الشمس بحجة أنه لم يره بنفسه, وهكذا يتواتر العلم لدى العامة والخاصة بكل ما ثبت صدقه مما جربه غيرنا ولم تدركه حواسنا, وأصبح العلم به والعمل بمقتضاه لازمًا لما جربه الشخص بحواسه وما جربه غيره, فالأخذ بكل منهما ضرورة عقلية كمصدر من مصادر المعرفة...

ومما ينبغي أن يعلم أن هناك أمورًا كثيرة يقتصر العلم بها على مجرد الإخبار عنها فقط؛ لأن الحواس لا تنالها بسبب غيابها عن الحواس, وليس لنا طريق إلى العلم بها إلا الخبر المتواتر, وهذا يشمل علمنا بتاريخ الإنسانية كله فإنه لم ينقل إلينا إلا عن هذا الطريق, ومن العبث إنكار تاريخ الأمم الماضية بدعوى عدم التجريب أو عدم السماع له([27]).

هذا دور العقل في عالم الشهادة, إنه النظر والتأمل, وإدراك العلاقات السببية والمقاصد, وإدراك ما وراء المحسوسات والإيمان به, وربط العلاقات الكامنة وراء الموجودات ببعضها؛ للإفادة من الكون, والوصول إلى الغاية من خلق الإنسان نفسه.

من هنا ينطلق العقل إلى عالم الغيب إيمانا بوجوده, وإن كان قاصرًا عن الوقوف على حقيقته, فإن كانت الحواس توقف العقل على حقيقة الأشياء من حوله, وتمده بكل أشكالها فيدركها يقينًا, ويعلمها كليًّا ـ فإن العقل في عالم الغيب يفتقد إدراكات الحواس, فلا يصل ليقين فيه بمفرده وإن كان على تمام الثقة بوجوده والإيمان به؛ ففي عالم الغيب تنقطع روافد العقل التي تزوده بالمعرفة, ولا يكفي للعقل هنا مجرد التخيل والتوقع، فلا بد هنا من المعرفة اليقينية, والتي تأتيه عن طريق الوحي؛ إذ إن العقل يصدق بالوحي وبطريقته, ويؤمن ببعث الرسل, ويتوصل إلى ثبوت صدقهم, وثبوت ما جاءوا به عن الخالق, إذًا فالوحي هو الطريق الوحيد لمعرفة الخالق, والإيمان بوجوده.


الوحي وسيلة للمعرفة:

الذي نريده هنا بيان أن الوحي أحد وسائل المعرفة الخاصة بالغيبيات, فإذا كان عالم الشهادة له وسائله المعرفية من الحواس الخمسة والعقل والتجربة فإن العالم الغيبي له وسيلته الخاصة أيضًا وهي الوحي.

والوحي في اللغة: هو الإعلام الخفي, وقد يضيف البعض قيدًا إلى ذلك فيقول: هو الإعلام الخفي السريع.

وعند الأصوليين: إعلام الله تعالى أنبياءه ورسله بشرع ليعملوا به ويبلغوه للناس؛ فنزلت شريعة التوراة على موسى عليه السلام, ونزل الإنجيل على عيسى عليه السلام, ونزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد يطلق الوحي ويراد به القرآن الكريم كما في قول الله تعالى:)إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)( (النجم).

والوحي كوسيلة للعلم ليس قاصرًا على نزول الملك جبريل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تتنوع طرقه:

1.  فقد يكون بواسطة الملك جبريل، وهو خاص بالوحي الرسالي التشريعي.

2. وقد يكون الوحي رؤيا منامية, كما في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام؛ فقد رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل عليه السلام, قال تعالى:)فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102)( (الصافات)، وكما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفتح مكة, قال عز وجل: )لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحًا قريبًا (27)( (الفتح)، وكما أوحى إلى أم موسى عليه السلام أن أرضعيه, قال عز وجل: )وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين (7)( (القصص)، وقد يكون الوحي بالكلام من وراء حجاب، كما أوحى الله إلى نبيه موسى، قال تعالى: )وكلم الله موسى تكليمًا (164)((النساء)، )إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى (16) اذهب إلى فرعون إنه طغى (17)( (النازعات)، )فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى (44)((طه)، )فلما أتاها نودي يا موسى (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14)((طه).

ومن المفيد هنا أن ننبه إلى أن وحي الرسالات التشريعية قاصر على النوع الأول فقط؛ فلم تفرض الفرائض والتكاليف الشرعية إلا بواسطة ملك الوحي جبريل([28])، أما بقية أنواع الوحي الأخرى فهي وسائل إعلام من الله لمن شاء من عباده بأمرين هما الأوامر والنواهي، ومما يدل على أن الوحي وسيلة إعلام وتعليم أن الله تعالى قد يوحي إلى بعض مخلوقاته تعليمًا لهم وإلهامًا بما يريد الحق منهم, كما أوحى تعالى إلى النحل، فقال عز وجل: )وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللًا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (69)((النحل).

فهذا إلهام وتعليم للنحل لكي يؤدي وظيفته المطلوبة منه؛ حيث ألهمه الحق كيف يبني بيته بطريقته الهندسية, كيف تتحول فيه وبه إلى عسل مصفى فيه شفاء للناس، وهذا كله إلهام وتعليم من الله تعالى، وكما يكون الوحي من الله تعالى لبعض مخلوقاته يكون الوحي أيضًا من الشياطين لأوليائهم، كما قال تعالى:)وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم((الأنعام: 121).

والذي أنبه إليه هنا أن الوحي في كل هذه المواقف وعلى كل هذه المستويات هو إعلام وإخبار، وهو تعليم وإلهام، وهو وسيلة من وسائل العلم خاص بمن هم أهل له, والعلم بالغيبيات ومسائلها التي أخبر بها الأنبياء ليس لنا وسيلة للعلم بها إلا الوحي الرسالي.

ولا ينكر العقل نوع الإلهام الذي يتعامل به النحل ومن على شاكلته من الحشرات, كما لا ينكر العقل أيضًا نوع الرؤى المنامية وإن اختلف العقلاء في تفسيرها؛ لأن هذين النوعين من الوحي يشهد الواقع بهما, وقد شاهد كل منا خلايا النحل وهي تعمل بشكلها المنظم العجيب, وأيضًا فإن كل إنسان قد جرب بنفسه نوع الرؤى المنامية، سواء سماها رؤيا أو حلمًا, وسواء فسرها في ضوء تعاليم الأنبياء أو جعلها حلمًا شيطانيًّا, فإن اختلاف التعبيرات أو التأويلات حول ظاهرة ما يؤكد وجود الظاهرة ولا يلغيها.

ولكن قد يتوقف بعض أصحاب العقول أمام الوحي الرسالي، وقد يتحفظ في قبوله، وقد ينكره البعض بالكلية، وإذا طالبنا المنكرين للوحي بالدليل وإقامة البرهان على صحة دعواهم في إنكار الوحي لا نجد لديهم دليلًا واحدًا على إنكارهم للوحي إلا قولهم: إن الوحي لا تثبته التجربة, أو لا تستطيع الاستدلال عليه ببرهان العقل, وهذا الذي يستدلون به ليس دليلًا موجبًا وإنما هو دليل نفي العلم؛ بمعنى أنه دليل على عدم علمهم بدليل الإثبات, فهم لا يعرفون دليلًا موجبًا للقول بالوحي, وإنما الذي يعرفونه أنهم افتقدوا دليل الإثبات إلى غير ذلك مما يدعيه هؤلاء.

والسؤال الذي أطرحه عليهم هو: هل عدم علمكم بدليل الإثبات للوحي يعتبر دليلًا على نفي الوحي في ذاته؟

وهل افتقادكم الدليل يعتبر دليلًا قائمًا بذاته تحتجون به على نفي الوحي؟!

إن عدم معرفتكم بالدليل يعد دليلًا على جهلكم بالدليل الذي يعلمه غيركم، والذي يشهد به الواقع والبرهان، ومن المعروف في لغة الأصوليين أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم؛ بمعنى أن عدم العلم بالدليل ليس علمًا بعدم وجود المدلول في دليل وحجة, وعدم العلم بدليل الإثبات ليس دليلًا على نفي الوجود بل هو دليل على جهلكم بدليل الإثبات, وما تجهلونه أنتم فقد علمه غيركم بدلائله وبراهينه, فلا حجة لأحد في رفض الوحي أو التنكر له إلا الاستعلاء والمكابرة، كما أخبر رسوله الكريم بقوله:)فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام)، وسوف نوضح فيما يأتي أن الوحي ضرورة عقلية ومعرفية كما هو ضرورة اجتماعية ونفسية.

والذين ينكرون الوحي الإلهي إلى رسل الله وأنبيائه عليهم أن يراجعوا القرآن الكريم باعتباره آخر وحي نزل من السماء، ويتأملوا ما جاء فيه وما أخبر عنه وما تنبأ به, وما أشار إليه من آيات كونية في الأنفس وفي الآفاق, ويسألوا أنفسهم: من أين لرجل أمي ولد في جزيرة العرب ونشأ بها بمعزل عن جميع الروافد الثقافية أن يعلم ذلك, وهي أمور لم يكن لأهل جزيرة العرب علم بها؟ من أين له صلى الله عليه وسلم العلم بما قصه القرآن عليه من أحول الأمم الماضية ومن أحوال الأنبياء السابقين عليه مع أقوامهم؟ إن القرآن الكريم نفسه يخبرنا بأن الرسول لم يعاصر هذه الأحداث ولم يشاهد قصص القرآن ولم يحضرها، فما مصدر علمه بها؟! قال تعالى: )وما كنت بجانب الطور إذ نادينا( (القصص: ٤٦)، وقال تعالى: )وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين (44)((القصص)، وقال عز وجل: )وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)((آل عمران).

وليس هناك مصدر آخر لهذه المعلومات إلا الوحي بها، كما قال الله تعالى: )ذلك من أنباء القرى نقصه عليك( (هود: 100)، )ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك((يوسف: 102)؛ أي ما أخبر به القرآن عما مضى من أحوال الأمم الماضية.

والذين عرفوا أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ودرسوا سيرته بين قومه قبل البعثة وبعدها يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن كاهنًا ولا عرافًا ولا اشتغل بالسحر حتى يقولوا: إن الرسول قد عرف ذلك عن طريق الكهانة والعرافة.

ولقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم بين قومه وأحواله التي عرف بها سببًا في أن كثيرًا من أهل مكة آمنوا به قبل أن يقدم برهانًا أو دليلًا على صحة قوله, بل كفاهم عن هذا معرفتهم بأحواله وصدقه.

والقرآن الكريم بين أيدي المسلمين الآن وإلى الأبد, وهو دليل قائم بذاته على صدق رسالته, وكل آية فيه دليل على صدقه بما فيها من وجوه الإعجاز الذي يبهر العقول, فهلا آمن المنكرون للوحي بأن عدم علمهم بدليل الوحي دليل على نفيه؟ وإنما هو دليل على جهلهم بما علمه غيرهم([29]).

هكذا تتبين وسيلة الوحي التي هي سبيل إدراك عالم الغيب, ويثبتها العقل باستدلاله عليها, ولا ينكرها, وبهذا يثبت طريق المعرفة الغيبية, والوسيلة التي نتعرف بها على الخالق, ويدلنا عليها دلالة مباشرة.

وهكذا جاء الوحي مفصِّلًا القول عن الخالق, مقررًا عقيدة الألوهية ومثبتًا فكرة الإله الفرد, الذي تفرد بالخلق والملك والتدبير، فهو خالق هذا الكون ومدبره, ومصرف أموره, يعلم كل ذرة فيه, ولا يعزب عنه شيء, كل شيء في الكون يسير وفق قدره وعلمه, وهو يقدر كل الحوادث: )لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)((الأنعام)، تفرد بالوحدانية, وخلق الجن والإنس لعبادته.

ويفصل لنا الوحي الحديث وجود الخالق, والإيمان بكل تفاصيل هذه العقيدة بأسلوب سهل ميسور؛ انطلاقًا من قاعدة ثابتة في الحديث عن الله تعالى, وهي:)فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجًا ومن الأنعام أزواجًا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)((الشورى).

ونجد في الإسلام أن القرآن يمثل همزة الوصل بين السماء والأرض, وبين تصوير المعاني الغيبية وتصور المسلمين لها, وبين الإخبار عن الذات الإلهية, وما يجب لها من صفات الكمال وحكمة الأفعال, وإيمان المسلمين بها وإذعانهم لها.

ولذلك فقد خص القرآن هذه القضية بكثير من النصوص التي تدل على المعنى المراد مباشرة وبدون تأويل ولا تحريف لمعناها، فهناك آيات تتحدث عن الذات الإلهية وتصويرها للمسلم تصويرًا مناسبًا لمقدار تعقل الإنسان لها وتصوره لكمالها، وهناك آيات أخرى تتحدث عن مظاهر الحكمة الواضحة في أفعاله, والتي تلفت نظر المسلم؛ ليستنبط منها الدلالة على حكمة الصانع في كل ما يفعل.

حديث القرآن عن الله:

إذا استقرأنا آيات القرآن التي تتحدث عن الذات الإلهية نجدها تخبرنا بأن: )الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوًا أحد (4)( (الإخلاص)، وبأنه تعالى: )ليسكمثله شيء وهو السميع البصير (11)((الشورى)،)وله المثل الأعلى في السماوات والأرض( (الروم: ٢٧)، )هل تعلم له سميًّا (65)( (مريم)،)ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها( (الأعراف: ١٨٠).

ففي هذه الآيات وغيرها نجد القرآن الكريم يحرص على نفي قانون الوالدية والمولودية والمماثلة والمكافأة؛ فهو سبحانه وتعالي لم يلد, ولم يولد, وليس كمثله شيء, ولا سمي له, ولا كفو له.

ومما ينبغي أن يعلم أن هذا النفي الوارد في القرآن حول بعض الصفات التي تتضمن نقصًا معيّنًا لم يكن مقصودًا لذاته؛ ذلك لأن النفي عدم محض والعدم في ذاته ليس كمالًا حتى يكون مقصودًا، وإنما الذي قصده الشرع من كل نفي ورد في القرآن لنقص معين هو إثبات ضد هذا النقص المعين، فقوله عز وجل: )لا تأخذه سنة ولا نوم( (البقرة: ٢٥٥) لا يقصد به نفي السنة والنوم فقط، وإنما يقصد منه أيضًا إثبات ضد هذا النقص، وهو كمال القيومية لله؛ ولذلك جاء في أول الآية:)الله لا إله إلا هو الحي القيوم( (البقرة: ٢٥٥)، فمن كمال قيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وكذلك قوله تعالى: )ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم (255)( (البقرة) لم يكن مقصودًا به نفي التعب والنصب بقدر ما يقصد به إثبات كمال قدرته على كل شيء، وهكذا سائر آيات النفي الواردة حول نقص معين، فلم يكن النفي فيها مقصودًا لذاته وإنما قصد به إثبات ضده وهو الكمال، فهو مقصود قصد الوسائل وليس قصد الغايات.

كما حرص أيضًا على إثبات أن له المثل الأعلى في السماوات والأرض, وأن له الأسماء الحسنى؛ ففي الآيات الأولى أثبت القرآن كمالًا معينًا لله، وفي الآيات الأخيرة نفى نقصًا معينًا عن الله.

ولم تتعرض هذه الآيات ولا غيرها لبيان كيفية الرب سبحانه, ولم يوضح لنا القرآن ما كُنْه ذاته وما حقيقتها, وإنما كانت كل آيات القرآن التي تحدثت عن الله تعالى تدور بين إثبات الكمال لله ونفي النقص عنه, ولم نجد آية واحدة بينت لنا كُنْه ذاته أو حقيقتها، بل نجد في القرآن ما يفهم منه أن السؤال عن كُنْه هذه الذات أو حقيقتها غير مرغوب فيه؛ فلقد سأل فرعون نبي الله موسى عليه السلام قائلًا:)وما رب العالمين (23)( (الشعراء)، فقال له موسى عليه السلام: )قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24)((الشعراء)، ومن المعروف أن صيغة السؤال "بما" تعني السؤال عن الكُنْه والحقيقة, فإذا قيل مثلًا: ما الإنسان؟ بمعنى ما حدّه وما كنهه، فيقال في الجواب: إنه حيوان ناطق, فيؤخذ في بيان كنه الإنسان وتوضيح حقيقته أمران لا بد منهما:

الأمر الأول: اعتبار الجنس الذي ينتمي إليه الإنسان وهو الحيوان.

الأمر الثاني: اعتبار صفة يختص بها الإنسان دون سائر أنواع الجنس الذي ينتمي إليه، وهي صفة الناطقية.

وبدون هذين الأمرين لا يكون هناك بيان لحقيقة الإنسان ولا كنهه, وإنما صح بيان حقيقة الإنسان هنا؛ لأن له جنسًا ينتمي إليه وهو الحيوان, وله فضل يميزه عن سائر أنواع الحيوان وهو النطق، والأمر بالنسبة لله يختلف تمامًا، فهو سبحانه وتعالي كما أخبر عن نفسه: )ليس كمثله شيء((الشورى: ١١)، فكيف يكون له جنس ينتمي إليه حتى يصح أن يقال: )وما رب العالمين (23)((الشعراء)، ورسل الله هم أعلم بالله وبصفاته.

ولقد أدرك نبي الله موسى عليه السلام ما في سؤال فرعون من لبس وخطأ, فأعرض عن الإجابة عن السؤال المطلوب به بيان الكنه والحقيقة لقصور العقل عن معرفة ذلك, وأخذ يوضح لفرعون صفات الرب بأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما, ولم يستطع موسى أن يبين له كيف هو, أو ما كنه الرب, وإنما عدل عن جواب ما هو إلى التعريف به بذكر صفاته المحسوسة آثارها للخلق؛ ليستطيع أن يترقى المرء من المحسوس إلى تعقل الموصوف بهذه الصفات، أما كيف هو, أما كنه ذاته, أما حقيقتها فلا يعلم ذلك إلا هو.

ومن هنا نستطيع القول بأن كل آية وردت في القرآن الكريم تتحدث عن الذات الإلهية كان هدفها إثبات وجود الرب وإثبات ذاته وليس إثبات كيف هذه الذات ولا بيان حقيقتها أو كنهها.

وإذا تساءلنا عن السبب الذي من أجله حرص القرآن على إثبات وجود الذات دون بيان كيف هذه الذات أو بيان حقيقتها ـ نجد القرآن نفسه قد أجاب صراحة عن هذا السؤال بقوله تعالى: )ولا يحيطون به علمًا (110)( (طه)، وعدم إحاطة العقل علمًا به سبحانه ليس راجعًا إلى أن ذاته غير قابلة لأن تعرف، بل إلى قصور العقل وحدود إمكانه لتقبل المعرفة, ومما ينبغي أن يعلم أن المعرفة العقلية قد تكون تصديقية وقد تكون تصورية؛ فالمعرفة التصديقية هي تلك التي يستطيع العقل أن يتحقق من صدقها بالتجربة والمشاهدة؛ مثال ذلك: إذا أردنا أن نتحقق من صدق القضية القائلة بأن الماء يتركب من هيدروجين وأكسجين بنسبة 2: 1؛ فإن ذلك يكون سهلًا إذا أخذنا العناصر المكونة للماء وأجرينا عليها التجربة لنثبت أن هذه القضية صادقة أو كاذبة.

أما المعرفة التصورية فلا تصبح يقينًا ما لم نتحقق من صدقها بالتجربة, وإنما تظل هكذا خيالًا عقليًّا ما لم يثبت الواقع صدقها, كتصور العقل لما يمكن أن يحدث في المستقبل, وكتصوره أيضًا للأمور الميتافيزيقية؛ فإن معرفة العقل للهيئة المخصوصة التي قد يكون عليها المستقبل, وتصور العقل للهيئة التي قد تكون عليها الأمور الغيبية يعتبر من هذا النوع, فنحن لم نر ما أخبرت عنه الشرائع من أمور البعث والحساب, ولم نشاهد كيفية مأكل أهل الجنة, وإنما كانت معرفتنا بها عن طريق الإخبار عنها بالآيات والأحاديث.

وما دام الإنسان لم يشاهد هذه الأمور ولم يحس بها فلا يجوز عقلًا أن يجزم فيها برأي قاطع يعتمد فيه على مجرد التصور العقلي لما يمكن أن يكون عليه الأمر, وإنما ينبغي أن يلجأ إلى النصوص التي تخبر عن هذه الأحوال وعن كيفيتها؛ لأن المطلوب في الإيمان بهذه الأمور هو الاعتقاد الجازم اليقيني, ولا يكفي فيه مجرد التصور العقلي لكيفية معينة يتخيلها بعقله أو يرسمها له ذهنه؛ لأن كل ما ورد على عقلك عن الله فهو بخلافه؛ لأنه ليس كمثله شيء.

ومن المعروف أن العقول تتعامل مع الأمور المحسوسة على سبيل التحقق والتيقن, أما مع الأمور التجريدية فتتعامل معها العقول على سبيل التصور والتخيل, من هنا كانت حاجة العقل إلى الدليل القاطع في الأمور الغيبية التي لا تخضع لتجربته الحسية, والدليل هنا ليس إلا النص الصحيح من كتاب أو سنة.

ومن ناحية أخرى، فإن العقل البشري مؤهل لأن يدرك نفسه, ويدرك ما دونه من أشياء هذا العالم, ولكنه يعجز عن إدراك حقيقة ما فوقه من الموجودات كالملائكة مثلًا, وكمعرفة الذات الإلهية على سبيل الحقيقة؛ فإن معرفته بهذه الموجودات تظل قاصرة على مجرد التصور والتخيل ما لم يلجأ إلى دليل يقيني من كتاب أو سنة فيؤمن به ويعتقد صدقه، ومعلوم أن مجرد التصور والتخيل لما يمكن أن يكون عليه الأمر لا يكفي في قضية الإيمان التي لا بد فيها من اليقين([30]).

وعليه، فهذا هو السبيل القويم في إثبات وجود الخالق عز وجل والتعرف عليه([31]), هذا هو المنهج الذي يجمع بين معارف الإنسان, ومعطياته الحسية والعقلية؛ حيث ينتقل بالإنسان من إدراك العالم الحسي, والوقوف على قوانينه وعلاقاته وأسبابه, ويتدبر كل هذا بعقله, حتى يتيقن من وجود غيب وراء هذا العالم, ووجود خالق مدبر لهذا الكون, فيسعى للتعرف عليه والبحث عنه بمنهج يوصله لليقين في عقيدته, فيأتي الوحي الإلهي الذي لا ينكره العقل ولا يحيل حدوثه, فيأخذ منه النور الذي يبصره بحقيقة الخالق, ووجوده, وصفاته وأسمائه, ويؤمن بوجوده إيمانًا خالصًا.

هكذا يصل الإنسان إلى معرفة خالقه, وخالق الكون بدليل يقيني واضح, تجتمع فيه المعارف الحسية والعقلية؛ ليثبت أمامه الحقيقة الواضحة واليقين القاطع بوجود الخالق.

وهكذا يبقى الموقف الإلحادي من إنكار الخالق عاجزًا عن وجود حجة أو دليل صادق يثبته, بل تعارضه كل أحكام العقل والعلم والمنطق، ويظل العالم كله يسبح بتوحيد الخالق والإيمان به, بعيدًا عن شذوذهم وتخليط عقولهم.

الخلاصة:

· التدين والإيمان بالله الخالق أمر فطري في طبيعة البشر, وهو الأصل في وجود البشرية, والمؤمنون بالخالق هم الأغلبية الساحقة في كل عصر وفي كل مجتمع؛ فالإيمان بالخالق هو الأصل وليس بحاجة إلى دليل يثبته, إنما الموقف الإلحادي الذي ينكر وجود الخالق هو ذلك الموقف الذي يحتاج إلى دليل, وأصحابه هم الشواذ والقلة في كل عصر, ولا قياس عليهم.

· الأدلة على وجود الخالق عز وجل كثيرة ومتنوعة, ومنها دليل الفطرة, والدليل العقلي، ومن أهمها الأدلة المادية والعلمية على وجود الخالق, وهي كثيرة جدًّا؛ فالكون كله يعد دليلًا ماديًّا واضحًا على وجود الخالق وإتقانه وحكمته.

· يدل علم الفلك والآفاق على وجود خالق حكيم مدبر لهذا الكون, خلق كل شيء فقدره تقديرًا, وقصد لهذا الخلق قصدًا, وأراده على هذا النحو من الدقة والإتقان؛ إذ يوقفنا على هذا الكون الفسيح الذي تنتظم فيه حركة الأفلاك والنجوم انتظامًا بارعًا, وأن كل فلك وجد في مكانه الدقيق، بحيث لو انحرف عنه لاستحالت الحياة, ولحدثت الكوارث, كما يوقفنا على النظام العجيب في كوكب الأرض, ووجوده بدقة في الفضاء بحيث يكفل الحياة الطبيعية للمخلوقات عليه.

· كما يدل علم الأنفس وخلق الإنسان على وجود خالق حكيم مدبر, خلق كل شيء فأتقنه, وعلم الإنسان ما لم يعلم, وأراد هذا الخلق وقصده قصدًا, وجعل له غاية من وجوده, فخلق الإنسان آية من آيات الخالق الحكيم, ويدل على عظمته وقدرته؛ ففي الإنسان كثير من التوافقات المذهلة, والتنظيمات العجيبة التي تؤكد أنه جاء عن خالق حكيم عليم, ويكفي في الإنسان وجود الروح ذلك السر العظيم الذي أعجز العلماء, وما إلى ذلك من عجائب خلق الإنسان, من وجود العقل, ووجود الخلية الحية, وتركيب العين والأذن والأنف والتنفس, وتركيب المخ, والدورة الدموية, وبصمات الأصابع؛ مما يدل على وجود خالق مدبر, خلق الإنسان على نحو من الدقة والإتقان, ولا يمكن أن يكون ذلك نتاج الصدفة والعبث.

· كما يدلنا علم الأحياء من نبات وحيوان وطيور وحشرات وكائنات متنوعة على وجود خالق مدبر لهذا الكون, خلقه بإتقان وإرادة وقصد, وهدى كل المخلوقات إلى طريقة معيشتها وما يكفل لها البقاء, وألهمها طباعها وغرائزها وطرق غذائها وحياتها، وتتجلى قدرة الخالق في تنوع هذه الأحياء من نباتات وحيوانات وطيور وحشرات, وطرقها في التكاثر والمعيشة, ثم عظمة الخالق في مظاهر إلهام هذه الأحياء, من الحفاظ على الصغار وكفالة الحياة لهم, والدفاع عنهم والقدرة على التكيف مع ظروف الحياة, كل هذا يدل على خالق مقدر, خلق هذه الكائنات على نحو من القصد والدقة, وقدر لها معايشها, ولا يمكن أن يكون هذا نتاجًا للصدفة أو المادة العمياء.

· أثبت العلم الحديث أن المادة حادثة؛ أي: لها بداية ونهاية, وأنها وجدت من عدم, وبهذا فإن العالم ليس أزليًّا, وإنما جاء عن صنع خالق حكيم مدبر, أوجده على هذا النحو من الدقة والإتقان، فالمادة دائمًا في حالة تغير وتبدل وتجدد مستمر، ولا بد أن يكون لها حالة أولى وجدت عليها؛ بمعنى أنها محدثة, ويدل على حدوث المادة دليل التوسع الكوني والانفجار العظيم, وكذلك دليل التوازن الحراري الذي يدل أن الكون حادث، وإلا لفقد توازنه وطاقته منذ زمن بعيد, وكذلك دليل بناء الذرة, وعلى هذا فلا يمكن أن يكون العالم قديمًا, بل هناك خالق أوجده وأحدثه.

· إن معارف الإنسان متنوعة ومختلفة, وعلى هذا تتنوع مصادرها وأدوات تحصيلها, ولما كانت المعارف الطبيعية قائمة على الحواس والمشاهدة كان المنهج التجريبي هو الأصلح في دراستها؛ اعتمادًا على التجربة والحس, ولكن المنهج التجريبي لا يفلح أداة في دراسة المعارف الغيبية والوقوف على ما وراء الطبيعة.

· إن منهج التعرف على الخالق عز وجل يقتضي الربط بين معارف الإنسان الحسية والعقلية المجردة لإدراك حقيقة الكون والوقوف على أسبابه وعلاقاته, ثم الاهتداء بنور الوحي في التعرف على الخالق والإيمان به, وعبادته حق العبودية.

· القرآن الكريم هو الوسيلة الأصلح في التعرف على ذات الله وصفاته, والإيمان بوجوده وقدرته, وإدراك الغاية من خلق الكون, والإيمان بالغيب, وتوحيد الخالق عز وجل.

 

(*) الإسلام يتحدَّى, وحيد الدين خان, ترجمة: ظفر الإسلام خان، مراجعة وتقديم: د. عبد الصبور شاهين, مؤسسة الرسالة, بيروت ط2, 1422هـ/ 2001م. قضية الألوهية بين الدين والفلسفة, د. محمد السيد الجليند, المكتبة الأزهرية للتراث, القاهرة.

[1]. العلم في رحاب الله, حسين عباس الأنصاري, مكتبة الأنجلو المصرية, القاهرة، 2001م، ص19، 20 بتصرف.

[2]. قضية الألوهية بين الدين والفلسفة, د. محمد السيد الجليند, مرجع سابق, ص27، 28 بتصرف.

[3]. الإسلام يتحدَّى, وحيد الدين خان, مرجع سابق, ص53.

[4]. المرجع السابق, ص56: 59.

[5]. دائرة معارف القرن العشرين, محمد فريد وجدي, دار المعرفة, بيروت, ط3, 1971م, ج1, ص496، 497.

[6]. العلم في رحاب الله, حسن عباس الأنصاري, مرجع سابق, ص53.

[7]. الفهرنهيت: مقياس لدرجة الحرارة.

[8]. الإسلام يتحدَّى, وحيد الدين خان, مرجع سابق, ص62: 67.

[9]. العلم في رحاب الله, حسين عباس الأنصاري, مرجع سابق, ص55: 61.

[10]. رحيق العلم والإيمان, د. أحمد فؤاد باشا, دار الفكر العربي, القاهرة, ط1, 1422هـ/ 2002م, ص14: 18.

[11]. العلم يدعو للإيمان, د. كريسي موريستون, نقلًا عن: العلم في رحاب الله, حسين عباس الأنصاري، مرجع سابق, ص125، 126.

[12]. رحيق العلم والإيمان, د. أحمد فؤاد باشا, مرجع سابق, ص189: 210 بتصرف.

[13]. العلم في رحاب الله, حسين عباس الأنصاري, مرجع سابق, ص129، 130.

[14]. رحيق العلم والإيمان, د. أحمد فؤاد باشا, مرجع سابق, ص134: 151.

[15]. المرجع السابق, ص183: 186.

[16]. العلم في رحاب الله, حسين عباس الأنصاري, مرجع سابق, ص110، 111.

[17]. رحيق العلم والإيمان, د. أحمد فؤاد باشا, مرجع سابق, ص154، 155.

[18]. العلم في رحاب الله, حسين الأنصاري, مرجع سابق, ص112: 119.

[19]. رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤاد باشا, مرجع سابق, ص180.

[20]. العلم في رحاب الله, حسين الأنصاري, مرجع سابق, ص122، 123 بتصرف.

[21]. رحيق العلم والإيمان, د. أحمد فؤاد باشا، مرجع سابق, ص155: 158.

[22]. البراهين العلمية على صحة العقيدة الإسلامية, عبد المجيد العرجاوي, دار وحي القلم, دمشق, ط1, 2003م, ص24: 27.

[23]. الإسلام يتحدى, وحيد الدين خان, مرجع سابق, ص55، 56.

[24]. البراهين العلمية على صحة العقيدة الإسلامية, عبد المجيد العرجاوي, مرجع سابق, ص27.

[25]. قضية الألوهية بين الدين والفلسفة, د. محمد السيد الجليند, مرجع سابق, ص37، 38.

[26]. البراهين العلمية على صحة العقيدة الإسلامية, عبد المجيد العرجاوي, مرجع سابق, ص19، 20 بتصرف.

[27]. قضية الألوهية بين الدين والفلسفة, د. محمد السيد الجليند, مرجع سابق, ص52: 58.

[28]. باستثناء فريضة الصلاة التي فرضت ليلة المعراج به صلى الله عليه وسلم.

[29]. قضية الألوهية بين الدين والفلسفة, د. محمد السيد الجليند, مرجع سابق، ص39: 43 بتصرف.

[30]. المرجع السابق, ص81: 85 بتصرف.

[31]. للتفصيل في قضية إثبات وجود الخالق عز وجل راجع كتاب: كبرى اليقينيات الكونية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط25، 1426هـ/ 2005م، ص77 وما بعدها.

why do men have affairs when a husband cheats why men cheat on beautiful women
wives that cheat redirect read here
click website dating site for married people
click here online women cheat husband
viagra vison loss buy viagra online read
viagra vison loss vasodilator viagra read
why do wife cheat on husband wife cheaters reasons why married men cheat
why wife cheat cheat on my wife why women cheat in relationships
read here click here why women cheat on men
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق
نص التعليق
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  1842
إجمالي عدد الزوار
  36890230

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع