مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

إنكار الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (*)

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المغالطين الإعجاز العلمي في القرآن والسنة, زاعمين أنه وهم وأكذوبة, ولا يمت إلى الحقيقة بصلة, ويستدلون على هذا بما يأتي:

1. إعجاز القرآن في نظمه وبيانه فقط، وهذا الذي تحدى به الله عز وجل فصحاء العرب.

2. القرآن كتاب دين وهداية وليس كتاب كيمياء أو فيزياء أو علم من العلوم.

3. لا يجوز تفسير القرآن في ضوء معطيات العلم الحديث؛ حتى لا يكون العلم حجة على القرآن؛ فالقرآن ثابت والعلم متغير في نظرياته وقوانينه.

4. أن بعض معطيات العلوم التجريبية قد تختلف مع عدد من الأصول الثابتة في القرآن والسنة؛ نظرًا لصياغتها من منطلقات مادية بحتة تنكر حقائق الغيب أو تتجاهلها.

5. أن علماء الإعجاز يتعسفون في لي أعناق الألفاظ لتوافق الحقيقة العلمية, والأمثلة على ذلك كثيرة, كما يتعسفون في تحويل العبادات إلى فوائد علمية.

6. اقتباس القرآن للإشارات العلمية والكونية من الأديان والكتب السابقة، فهو بذلك لم يأت بجديد ليكون إعجازًا.

7. ويتساءلون: إذا كان بالقرآن الكريم والسنة النبوية كل هذه الإشارات العلمية فلماذا لم يستفد منها المسلمون, وإذا كانت قد تكشفت لغير المسلمين من علماء الكونيات فلماذا لم يؤمنوا بالإسلام؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن القرآن الكريم والسنة النبوية يحويان كثيرًا من الإشارات العلمية والكونية التي تدل على إعجازهما العلمي, وهذا الإعجاز له أهمية كبيرة في الواقع المعاصر؛ فهو الوسيلة المناسبة في عصر العلم والتكنولوجيا, كما أنه الوسيلة الناجعة في الرد على شبهات المشككين في القرآن والسنة وبيان عظمة الإسلام؛ لذا يجب تفهم القرآن الكريم والسنة النبوية في ضوء معطيات العلم الحديث.

2) للإعجاز العلمي ضوابط وقواعد عديدة تحكمه، من أهمها: ثبوت النص وصحته إن كان حديثًا, ثبوت الحقيقة العلمية ثبوتًا قاطعًا مع توثيقها, وجود الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح بلا تكلف أو تأويل تعسفي, وهذا ما يميز الإعجاز العلمي عن التفسير العلمي- حتى لا يتم الخلط بينهما- الذي هو محاولة بشرية لـحسن فهم دلالة الآيات الكونية في ضوء معطيات العلم الحديث, ولكنه قد يعتمد على النظريات المنطقية السائدة, في حالة عدم وجود حقيقة علمية ثابتة.

3) بما أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى فلا بد أن يكون معجزًا في كل أمر من أموره إعجازًا متجددًا عبر العصور والأزمان إلى قيام الساعة, وليس إعجازه مقصورًا على نظمه وبيانه كما يدَّعون، فهناك أوجه كثيرة لإعجاز القرآن؛ منها: الإعجاز العقدي والتعبدي والأخلاقي والتشريعي والتاريخي والتربوي والنفسي، وهناك الإعجاز العلمي.

4) لا شك أن القرآن الكريم كتاب دين وهداية, وليس كتاب علم من العلوم, لكنه مع ذلك قد حوى إشارات علمية وكونية كثيرة, جاءت في مقام الاستدلال على عظمة الخالق عز وجل, وعلى وحدانيته وقدرته, وهذه الإشارات تتميز بدقتها وإحكامها لفظًا ومعنى, كما أنها صيغت صياغة موجزة, لكنها واضحة في الإشارة إلى الحقيقة العلمية, وهذا يُعد من أروع صور الإعجاز في القرآن الكريم.

5) إن تفسير القرآن في ضوء معطيات العلم الحديث لاستخراج وجه الإعجاز منه أمر حتمي, وليس أمرًا ممنوعًا كما يدَّعون؛ لأن الآيات الكونية في القرآن لا يمكن فهمها فهمًا كاملاً في إطار اللغة وحدها, وإنما لا بد من توظيف الحقائق العلمية الثابتة في هذا, وهذا ليس انتصارًا للقرآن بمعطيات العلم؛ لأن القرآن الكريم- بالقطع- فوق الإنسان وعلومه, فهو كلام الخالق عز وجل, ولا يرد ما سبق كون القرآن ثابتًا والعلم متغيرًا؛ وذلك لأن هذا الثبوت- وهو من السمات البارزة للقرآن- هو ثبوت لفظي فقط, أما دلالة ألفاظ القرآن فتتسع مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية باستمرار دون تضاد, أما تغير العلم فطبيعي, ولكن لا يعني تحول الحقائق العلمية الثابتة إلى نظريات وفروض؛ لأن الحقيقة العلمية لا تبطل مع الزمن أبدًا.

6) ليس متصورًا أن تتصادم العلوم التجريبية ومعطياتها- وهي في أزهى عصور ازدهارها- مع قضية الإيمان بالله تعالى؛ فمعطيات هذه العلوم تكاد تتطابق في جملتها مع التعاليم الإلهية؛ فعلماء الفلك وغيرهم اليوم يعترفون بحتمية وجود مرجعية لهذا الكون المحكم العجيب في كل ذرة من ذراته, هذه المرجعية لها من الصفات ما يغاير صفات المخلوقين؛ فسبحان الملك جل جلاله! وبهذا فإن إبطال هذا الزعم هو حجة على الطاعنين وليس حجة لهم في إنكار الإعجاز العلمي.

7) إن من ضوابط الكتابة في الإعجاز العلمي عدم التكلف أو التعسف في لي أعناق الألفاظ لتوافق الحقيقة العلمية, ولكن خروج بعض الباحثين عن هذا يعيبهم هم, ولا يعيب الإعجاز العلمي في شيء، أما عن دعواهم بالتعسف في تحويل العبادات إلى فوائد علمية فقول غير صحيح على إطلاقه؛ وذلك لأن كون العبادات قد شُرعت من أجل التقرب بها إلى الله تعالى لا يعني بحال عدم جدواها من الناحية المادية, والأمثلة على ذلك كثيرة؛ كالطهارة, والوضوء, والصلاة... إلخ, فهي عبادات أثبت لها العلم الحديث فوائد بدنية ونفسية كثيرة.

8) كيف يمكن للقرآن الكريم- وهو المهيمن على كل الكتب- أن يقتبس الإشارات العلمية أو شيئًا منها من الكتب السابقة التي ثبت تحريفها؟! يؤكد هذا ما أثبته العلم الحديث من أن الإشارات العلمية الواردة في الكتب السابقة على القرآن- وهي ضئيلة- تتناقض في معظمها مع حقائق العلم, من ذلك قولها بتكون الجنين من اتحاد دم الحيض والمني, وتقديم خلق اللحم على العظام, وهذه كلها أخطاء بيَّن القرآن بطلانها, ثم جاء الطب الحديث فأكد بطلانها أيضًا؛ فالجنين يتكون من مني الرجل وماء المرأة معًا, والعظام هي التي تُخلق أولا ثم تُكسى باللحم.

9) للإعجاز العلمي في القرآن والسنة فوائد عديدة, منها زيادة اليقين في قلوب المسلمين, وبيان أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى, وأن الدين الإسلامي هو دين العلم حقًّا, كما أن الإعجاز العلمي كان- ولا يزال- سببًا قويًّا في دخول كثير من علماء الغرب وغيرهم في الإسلام, من أشهرهم: موريس بوكاي, كيث مور, تاجاتات تاجسون, آرثر أليسون, مارشال جونسون, فهل بعد هذا يحق لأحد أن ينكر الإعجاز العلمي أو يشكك فيه؟!

التفصيل:

أولاً. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة حقيقة حتمية لها أهميتها في الواقع المعاصر:

"يزخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تشير إلى الكون وما به من كائنات- أحياء وجمادات- وإلى صور من نشأتها ومراحل تكونها, وإلى العديد من الظواهر الكونية التي تصاحبها, والسنن الإلهية التي تحكمها, وما يستتبعه كل ذلك من استخلاص للعبرة وتفهم للحكمة, وما يستوجبه من إيمان بالله, وشهادة بكمال صفاته وأفعاله, وهو عز وجل الخالق البارئ المصور الذي أبدع الخلق بعلم وقدرة وحكمة لا تحدها حدود, ولا يفيها حقها وصف.

وقد أحصى الدارسون لهذه الإشارات الكونية في كتاب الله تعالى ما يُقدر بحوالي ألف آية صريحة, بالإضافة إلى آيات أخرى عديدة تقترب دلالاتها من الصراحة, ودوام اتساع دائرة المعرفة الإنسانية, وتكرار تأمل المتأملين في كتاب الله, وتدبر المتدبرين لآياته- جيلاً بعد جيل, وعصرًا بعد عصر- لا ينفك العلماء والمتخصصون يكتشفون من حقائق الكون الثابتة في كتاب الله ما يؤكد على تحقق الوعد الإلهي الذي يقول فيه ربنا عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت)"([1]).

إن كل ما يكتشفه العلماء من حقائق علمية ثابتة في مختلف فروع العلم في أي عصر من العصور هو نتاج دراستهم وتدبرهم لفطرة الخلق, والقرآن والسنة وحي فاطر الفطرة الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلا غرو أن نجد كثيرًا مما يكتشفه العلماء من حقائق علمية مذكورًا من قبل في القرآن أو الحديث النبوي أو هما معًا, والذي يتدبر المعطيات العلمية في القرآن والسنة في مختلف فروع العلم يجد أنها أوجه متعددة ومتنوعة لحقيقة واحدة كبرى, هي سنة الله في خلقه وتقديره في ملكوته.

لقد يسَّر الوحي الإلهي في القرآن والسنة تفسير الظواهر الكونية والعلمية لاجتهاد المتخصصين من العلماء على مر العصور؛ ففي كل عصر يجد الناس علمًا جديدًا لم يكن فهمه متاحًا لمن سبقهم من الناس في عصور مضت, وسيظل القرآن والسنة رسالة متجددة للناس جميعًا على مر العصور وإلى يوم القيامة.

ويختص البحث في الإعجاز العلمي بالإشارات العلمية التي ذُكرت في القرآن الكريم وفي العديد من الأحاديث النبوية, فضلاً عن الإعجاز اللغوي والبياني والتاريخي.

أما الأمور الشرعية فقد وضح الحق فيها تمامًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل التحاقه بالرفيق الأعلى؛ مصداقًا لقوله تعالى: ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا((المائدة: ٣)؛ لذلك فهي خارج مجال البحث العلمي إلا فيما يخص الإعجاز في أسلوب التشريع وتطبيقه, والإبداع العلمي في العبادات والمعاملات.

وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز": إن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا, وأحاط بالكلام كله علمًا, فإذا ترتبت اللفظة في القرآن الكريم علم الله أي لفظة تصلح أن تلي الأولى, وتبين المعنى بعد المعنى, ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره.

إن الدارس للوحي الإلهي يجد أن الحقائق العلمية قد صيغت في أسلوب بلاغي معجز, فهم الناس منه في كل عصر من العصور السابقة على قدر علمهم, فلم ينكروا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية شيئًا, إلا أن الوحي الإلهي لم يوافق الناس على خطأ معتقداتهم العلمية القديمة, فأشار في القرآن والسنة إلى الحقائق العلمية الصحيحة, حتى إذا جاءت عصور العلم وجد الناس أن ما اكتشفوه من الحقائق العلمية مذكورًا في القرآن والسنة, فلم ينكروا من القرآن والسنة شيئًا, وهذا الأسلوب البلاغي في صياغة الحقائق العلمية في القرآن الكريم والحديث النبوي من أعجب أوجه الإعجاز العلمي والبلاغي.

ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل: )والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)((يس)، وقد فهم الناس من الآية الكريمة الحركة الظاهرية للشمس؛ فهي تجري أمامهم في السماء من المشرق إلى المغرب كل يوم, فلم ينكروا من الآية الكريمة شيئًا, حتى إذا جاءت عصور العلم واكتشف جري الشمس الحقيقي في السماء, وجدوا أن الآية الكريمة تذكره تصريحًا, فلم ينكروا من الآية الكريمة شيئًا.

وما ذُكرت الحقائق العلمية في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لمجرد السرد العلمي, وإنما ليستدل بها قارئ الآية أو الحديث النبوي على حقيقة غيبية أشارت إليها الآية أو الحديث تدل على قدرة الله تعالى في خلقه أو على رحمته بعباده, أو تدل على حقيقة وجود الله تعالى ووحدانيته, أو يتخذ الإنسان منها بطريق القياس والاستنباط الدليل على حقيقة البعث بعد الموت.

وفي الحديث النبوي الشريف آلاف الأمثلة التي تذكر حقائق علمية كونية؛ ليتخذ العلماء منها دليلاً عن طريق الاستدلال العلمي على قدرة الله عز وجل ووحدانيته, كما في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «يا أبا ذر، تدري أين تذهب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل، فتستأذن في الرجوع فيُؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع إلى مطلعها فذلك مستقرها»([2])، وهو تفسير لقول الله عز وجل:)والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)((يس)؛ ومن ثم فالحديث النبوي تفسير للقرآن الكريم وامتداد له؛ لأن كليهما من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وكان الاعتقاد من قبل أن الشمس ثابتة في الفضاء, إلى أن اكتشف علماء الفلك في عصر العلم الحالي أن الشمس تجري في الفضاء بسرعة أكثر من ألف ميل في الدقيقة الواحدة, فإذا ما تكلم العلماء في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في ذكر حقيقة علمية كونية لم تُعرف إلا حديثًا جدًّا- ينبغي عليهم أن يردوا ذلك ليس إلى قوانين طبيعية من تلقاء نفسها, ولكن إلى قوانين ونظم كونية هي من تقدير العزيز العليم, وأن الشمس أينما ذهبت شأنها شأن أي خلق في السماوات والأرض, إنما هي ساجدة عابدة لله عز وجل تحت العرش؛ لأن السماوات والأرض جميعًا تحت العرش, والله تعالى يقول: )ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس((الحج: ١٨)([3]).

ومن ثم فإن للإعجاز العلمي في القرآن والسنة أهمية بالغة, ومن مبررات ذلك ما يأتي:

1. أن القرآن الكريم أنزل إلينا لنفهمه, والآيات الكونية فيه لا يمكن فهمها فهمًا صحيحًا في إطار اللغة وحدها- على أهمية ذلك وضرورته- انطلاقًا من شمول الدلالة القرآنية, ومن حقيقة كلية المعرفة التي لا تتجزأ.

2. أن الدعوة بالإعجاز العلمي لكل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أصبحت هي الوسيلة المناسبة لأهل عصرنا- عصر العلم والتقنية- الذي فُتن الناس فيه بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة, وفي ظل هذا التقدم العلمي والتقني المذهل نبذ أغلب أهل الأرض الدين وراء ظهورهم ونسوه، وأنكروا الخلق والخالق, كما أنكروا البعث والحساب والجنة والنار وغير ذلك من حقائق الغيب المطلق؛ لأن هذه الأصول قد شُوِّهت في معتقداتهم تشويهًا كبيرًا, ولم تعد مقنعة لهم, أو دفعت بالبعض منهم إلى التعصب الأعمى دون أدنى بصيرة, والانطلاق بهذه العصبية العمياء لمحاربة الحق وأهله متمثلاً في دين الله "الإسلام العظيم", كما تكامل وحفظ في بعثة النبي والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.

وعلى ذلك فلم يبق أمام أهل عصرنا من وسيلة مقنعة بالدين الإسلامي الحنيف قدر إقناع الإعجاز العلمي في كتاب الله وفي سنة خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم.

3. تعرض الإسلام والمسلمين اليوم لهجوم شرس في جميع وسائل الإعلام بغير حق, والقائمون على تلك الوسائل أكثرهم من غلاة الصهاينة المجرمين وغلاة الصليبيين الحاقدين وأعداء الدين, ومن الشواذ جنسيًّا وسلوكيًّا، والداعين إلى ذلك علنًا بلا أدنى حياء أو خجل, هؤلاء جميعًا ينكرون سماوية الإسلام العظيم, وربانية القرآن الكريم, ونبوة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، أو ينكرون الدين كلية في وقاحة وبجاحة سافرة؛ ومن ثم فأهم الوسائل وأنجحها للرد على هذا الهجوم هي إثبات ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من مختلف صور الإعجاز، خاصة الإعجاز العلمي، وذلك بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة البالغة والمنطق السوي.

4. إن العالم اليوم يتحرك في اتجاه كارثة كبرى وقودها تطور علمي وتقني مذهل, يطغي أصحابه ويغريهم بإفناء غيرهم وإبادتهم في غيبة الوعي الديني الصحيح, والالتزام الأخلاقي والسلوكي المؤسسين على قواعد من خشية الله, ومراعاة حقوق الأخوة الإنسانية, والمخرج من ذلك هو الدعوة للدين الحق, ومن أوضح وسائل الدعوة إليه ما في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من إعجاز علمي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار, يقنع المنبهرين بالعلم ومعطياته في زمن تفجر المعارف العلمية الذي نعيشه كما قد لا يقنعهم أي أسلوب آخر.

5. أن في إثارة قضية الإعجاز العلمي في كل من القرآن الكريم وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم استنهاضًا لعقول المسلمين, واستثارة للتفكير الإبداعي فيها, وتشجيعًا على استعادة الاهتمام بقضية العلوم والتقنية التي تخلفت فيها الأمة مؤخرًا تخلفًا كبيرًا، في الوقت الذي تقدمت فيه دول العالم الصناعية تقدمًا مذهلاً، حتى أصبح كَمُّ المعارف المتاح يتضاعف مرة كل خمس سنوات, وتتجدد تقنياته مرة كل ثلاث سنوات تقريبًا؛ وبذلك أخذت الـهوة الفاصلة بيننا وبينهم في مجال العلم والتقنية تزداد اتساعًا عميقًا يومًا بعد يوم, وأصبحت مخاطر ذلك علينا تتضاعف مع تزايد أبعاد تلك الهوة.

هذا بالإضافة إلى حاجة العلوم المكتسبة اليوم إلى التأصيل الإسلامي الدقيق؛ إنصافًا لكل من العلم والدين؛ وذلك لأن هذه المعارف لم تنطلق في بدء عصر النهضة إلا بعد معارك شرسة بين الكنيسة وطلاب العلم, وقد انتهت هذه المعارك بهزيمة منكرة للكنيسة, فانطلقت العلوم المكتسبة كلها في الغرب من منطلقات مادية بحتة, منكرة أو متجاهلة كل القضايا الغيبية؛ فأنكرت الدين والروح والأخلاق والقيم, وتقدمت ماديًّا تقدمًا مذهلاً دون فهم لرسالة الإنسان في هذه الحياة, مما يشكل واحدة من أكبر الكوارث التي تواجه عالم اليوم, وصدق الله العظيم إذ يقول:)لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1) ( (البينة).

6.أن القرآن الكريم نزل للناس كافة؛ عربهم وعجمهم، وفي ذلك يقول ربنا عز وجل:)هذا بلاغ للناس وليُنذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذَّكَّر أولو الألباب (52)( (إبراهيم)، ومعنى هذه الآية الكريمة أن القرآن الكريم بلاغ لكل الناس في كل زمان ومكان، ويؤكد ربنا عز وجل هذا المعنى الكريم بقوله الجليل مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم آمرًا إياه بأمره: )قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون (19)( (الأنعام).

وإذا كان جانب الإعجاز اللغوي في كتاب الله تعالى ميسرًا للعرب فلا بد أن يكون فيه من الجوانب الإعجازية الأخرى الميسرة لغير العرب؛ كي يؤمنوا به, وغير العرب اليوم لا يفهمون إلا لغة العلم، وصدق الله عز وجل إذ يقول:)ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42) ( (الأنفال).

6. أن كثيرًا من كتب التفسير تخلط ما بين أمور علمية مميزة، من مثل: النجم والكوكب، الضياء والنور، الشطأ والفرع والفسيلة وغيرها, وتصحيح ذلك واجب على علماء المسلمين؛ حتى تتضح دلالة الآيات, ويُستشف منها ومضة الإعجاز العلمي.       

7. أن هذه الأخطاء العلمية تسربت إلى تراجم معاني القرآن الكريم؛ فأخرجت تراجم العديد من الآيات الكونية عن إطارها الصحيح, وتصويب ذلك واجب حتمي على علماء المسلمين([4]).

وعلى الرغم من هذا الوضوح لأهمية قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة- خاصة في زمن العلم والتقنية الذي نعيشه- فإن الكثيرين يحاولون التطاول على هذه القضية وعلى العاملين في حقلها بدعاوى مزيفة مردود عليها دعوة دعوة, وهذا ما سنتعرض له لاحقًا.

وبالإضافة إلى ما سبق، فإن لبحوث الإعجاز العلمي أثرًا في بعض القضايا الفقهية؛ فقد شاع بين كثير من علماء المسلمين السابقين والمعاصرين أن زمن أطوار الجنين الأولى: النطفة والعلقة، والمضغة مدته مئة وعشرون يومًا؛ بناء على فهم منطوق حديث جمع الـخلق الذي رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق- قال: إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا يُؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح...»([5]).

وبما أن الحديث قد أشار إلى أن نفخ الروح في الجنين يحدث بعد انتهاء زمن طور المضغة الذي ينتهي بنهاية الأربعين الثالثة حسب هذا الفهم، فعليه أفتى بعض علمائنا الأجلاء بجواز إجهاض الجنين وإسقاطه خلال الشهور الأربعة الأولى من عمره بلا ضرورة ملجئة؛ لأن حياته في هذه الفترة- حسب فهمهم- حياة نباتية، لم تُنفخ فيها الروح الإنسانية بعد، وقد ترسخ هذا الفهم عند البعض حتى أصبح كأنه حقيقة شرعية مسلَّمة، لكن هذا المفهوم لزمن أطوار الجنين الأولى، وأنها تقع في ثلاثة أربعينات قد ثبت يقينًا اليوم أنه يتعارض مع الحقائق العلمية المعتمدة في علم الأجنة الحديث؛ مما جعل غير الراسخين في العلم من المسلمين يرددون مثل هذه الأحاديث ويشككون في صحتها، كما توهم بعض المحاربين للإسلام أن هذا الموضوع يُعد خنجرًا بأيديهم يمكن أن يطعنوا به سنة النبي صلى الله عليه وسلم([6]).

ومن هنا نرى حاجة العصر الحديث- عصر العلم والتكنولوجيا- إلى الإعجاز العلمي في القرآن السنة, هذا الإعجاز الذي لا يُكتشف مرة واحدة, وإنما يطَّلع كل عصر على شيء من هذا الإعجاز؛ ومن ثمة تظل الأنفس مثارة بتلك الجدة, والعقول مشدوهة بتلك العظمة؛ لأن الإسلام رسالة الله إلى كل البشر في كل زمان ومكان، فالرسالة الخاتمة لا بد أن تكون معجزتها متجددة, وهذا المعنى يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ) ويرى الذين أُوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (6) ( (سبأ)، ونلاحظ هنا في الآية الكريمة أن فعل الرؤية مستخدم في صيغة المضارعة؛ للدلالة على الاستمرار والتجدد.

ومن أطرف ما قرأت حول قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم كان تعليق الطبري- مفسر القرن العاشر الشهير- على كلمة "فلك" في قوله تعالى: )وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33) ((الأنبياء)؛ حيث قال: "ونسكت عما لا علم لنا"([7]), وهذا التعليق من الطبري لا شك أنه يبين لنا أن كلمة "فلك" لم تكن تعني مفهومًا علميًّا سائدًا في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولا فيما تلاه من عصور, ولم يكن لها سوى مفهومها اللغوي، حتى كشف العلم لنا عن مفهومها العلمي في عصرنا الحاضر، والذي تطابق- ولا بد أن يتطابق- مع المفهوم اللغوي حتى نقول: إن هناك إعجازًا علميًّا.

وهذا التعليق من الطبري ليؤكد أن الإعجاز العلمي حقيقة واقعة, كما أنه يرسم لنا قدوة حسنة في السكوت عما لا علم لنا فيه، فلا ندَّعي إعجازًا في القرآن إلا وهو مقطوع به, ولا ننفي ذلك عن القرآن بلا علم ولا بينة([8]).

ثانيًا. ضوابط الإعجاز العلمي في القرآن والسنة:

لما انتشر الإعجاز العلمي وذاع صيته في ربوع الأرض أقبل عليه المتخصصون وغيرهم يكتبون فيه بلا شروط أو ضوابط تحكمهم, فجاءت أبحاث بعضهم بها الكثير من الأخطاء العلمية والمنهجية؛ مما جعل الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة([9]) وعلماء الإعجاز الأثبات يقومون بوضع مجموعة من الضوابط والقواعد التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي في القرآن والسنة وفق الأصول الشرعية المقررة مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة, وتلك الضوابط هي:

أ.  ثبوت النص وصحته إن كان حديثًا؛ لتواتر القرآن دون الحديث.

ب.  ثبوت الحقيقة العلمية ثبوتًا قاطعًا، وتوثيق ذلك توثيقًا علميًّا، متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلى القانون العلمي.

ج.  وجود الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه.

فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز, ويجب في أثناء تلك الدراسة مراعاة الضوابط الآتية:

1. حسن فهم النص القرآني الكريم وفق دلالات الألفاظ في اللغة العربية, ووفق قواعد تلك اللغة وأساليب التعبير فيها؛ وذلك لأن القرآن الكريم أُنزل بلسان عربي مبين، على ألا يخرج الدارس باللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية وعند الضرورة القصوى، ومن هنا فلا يمكن إثبات الإعجاز العلمي بتأويل النص القرآني.

2. فهم أسباب النزول, والناسخ والمنسوخ- إن وُجد- وفهم الفرق بين العام والخاص, والمطلق والمقيد, والمجمل والمفصل من آيات هذا الكتاب الحكيم.

3. فهم المأثور من تفسير المصطفى صلى الله عليه وسلم, والرجوع إلى أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى الزمن الحاضر.

4. جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالآية القرآنية الكريمة إن وُجدت.

5. جمع النصوص القرآنية المتعلقة بالموضوع الواحد، ورد بعضها إلى بعض؛ بمعنى فهم دلالة كل منها في ضوء الآخر؛ لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضًا كما يفسره الصحيح من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كان من الواجب توظيف الصحيح من الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بموضوع الآية المتعامل معها كلما توافر ذلك.

6. مراعاة السياق القرآني للآية المتعلقة بإحدى القضايا الكونية دون اجتزاء للنص عما قبله وعما بعده, مع التسليم بأن من طبيعة القرآن الكريم إيراد العديد من الحقائق المتتابعة، والتي قد لا تكون بالضرورة مرتبطة ببعضها البعض, كما هو الحال في آيات القسم المتعدد بأكثر من أمر من الأمور.

7. مراعاة قاعدة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, والاقتصار على القضية الواحدة في المقام الواحد, دون تكديس للآيات المستشهَد بها؛ حتى يتضح جانب الإعجاز العلمي في كل منها.

8. عدم التكلف أو محاولة لي أعناق الآيات من أجل موافقتها للحقيقة العلمية؛ وذلك لأن القرآن الكريم أعز علينا وأكرم من ذلك؛ لأنه كلام الله الخالق, وعلم الخالق بخلقه هو الحق المطلق, الكامل, الشامل, المحيط بكل علم آخر, وهو العلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

9. الحرص على عدم الدخول في التفاصيل العلمية الدقيقة التي لا تخدم قضية الإعجاز العلمي للآية أو الآيات القرآنية الكريمة، من مثل المعادلات الرياضية المعقدة، والرموز الكيميائية الدقيقة إلا في أضيق الحدود اللازمة لإثبات وجه الإعجاز.

10.عدم الخوض في القضايا الغيبية غيبة مطلقة، كالذات الإلهية، والروح, والملائكة, والجن, وحياة البرزخ, وحساب القبر, وموعد قيام الساعة, والبعث, والحساب, والميزان, والصراط, والجنة والنار وغيرها, والتسليم بالنصوص الواردة فيها تسليمًا كاملاً؛ انطلاقًا من الإيمان بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ويقينًا راسخًا بعجز الإنسان عن الوصول إلى مثل هذه الغيبيات المطلقة.

11.التأكيد على أن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا مغايرة كاملة, وأنها لا تحتاج هذه السنن الدنيوية الرتيبة, فهي كما وصفها ربنا عز وجل أمر فجائي منه بـ  )كن فيكون (117) ((البقرة), وصدق الله العظيم إذ يقول:)يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجُلِّيها لوقتها إلا هو ثقُلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)((الأعراف).

على الرغم من ذلك، فإن الله عز وجل من رحمته بنا قد أبقى لنا في صخور الأرض وفي صفحة السماء أعدادًا كثيرة من الشواهد الحسية التي تقطع بضرورة فناء الكون وبحتمية الآخرة, وأن الإشارة إلى تلك الشواهد الكونية لا يمكن أن تُفسر بمحاولة التعرف على موعد قيام الساعة؛ لأن وقت الساعة من الغيبيات المطلقة التي لا يعلمها إلا الله، ولأن الآخرة لها من السنن والقوانين ما يغاير سنن الدنيا تمامًا, وأنها لن تتم بالسنن الكونية المشاهدة في هذه الحياة كما قلنا.

11.توظيف الحقائق العلمية القاطعة في الاستشهاد على الإعجاز العلمي للآية أو الآيات القرآنية الواردة في الموضوع الواحد أو في عدد من الموضوعات المتكاملة، وذلك في جميع الآيات الكونية الواردة في كتاب الله, فيما عدا قضايا الخلق, والإفناء, والبعث.

12.ضرورة التمييز بين المحقِّق لدلالة النص القرآني والناقل له، مع مراعاة التخصص الدقيق في مراحل إثبات وجه الإعجاز العلمي في الآية القرآنية الكريمة "التحقيق العلمي"؛ لأن هذا مجال تخصص في أعلى مراحل التخصص لا يجوز أن يخوض فيه كل خائض, كما لا يمكن لفرد واحد أن يغطي كل جوانب الإعجاز العلمي في أكثر من ألف آية قرآنية صريحة؛ بالإضافة إلى آيات أخرى عديدة تقترب دلالتها من الصراحة، خاصة أن هذه الآيات تغطي مساحة هائلة من العلوم المكتسبة، تمتد من علم الأجنة إلى علم الفلك وما بينهما من مختلف مجالات العلوم والمعارف الإنسانية, ومن هنا كان من الواجب رد كل قضية إلى محققها من المتخصصين بوضوح وإثبات كاملين.

13.التأكيد على أن ما توصل إليه المحقق العلمي في فهم دلالة الآية ليس منتهى الفهم لها؛ لأن القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد.

14.اليقين بأن النص القرآني الكريم قد ينطبق على حقيقة علمية ثابتة, ولكن ذلك لا ينفي مجازًا مقصودًا، كما أن الآية القرآنية الكريمة قد تأتي في مقام التشبيه أو المجاز وتبقى صياغة الآية دقيقة دقة مطلقة من الناحية العلمية, وإن لم تكن تلك الناحية مقصودة لذاتها؛ لأن كلام الله الخالق هو الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

15.الأخذ في الاعتبار إمكانية الانطلاق من الآية القرآنية الكريمة للوصول إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلم المكتسب إلى شيء منها بعد؛ وذلك انطلاقًا من الإيمان الكامل بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي حفظه لنا بطلاقة قدرته على مدى الأربعة عشر قرنًا الماضية في صفائه الرباني وإشراقاته النورانية, وتعهد عز وجل بهذا الحفظ تعهدًا مطلقًا غير مقيد بزمن.

16.عدم التقليل من جهود العلماء السابقين في محاولاتهم المخلصة لفهم دلالة تلك الآيات الكونية في حدود المعلومات التي كانت متاحة لهم في زمانهم؛ وذلك لأن الآية الكونية الواردة في كتاب الله تتسع دلالتها مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, حتى يظل القرآن الكريم مهيمنًا على المعارف الإنسانية مهما اتسعت دوائرها, وهذا من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله عز وجل.

17.اليقين في صحة كل ما جاء بالقرآن المجيد؛ لأنه كلام الله الخالق, وعلى ذلك فلا يمكن لحقيقة كونية أن تصطدم بنص قرآني أبدًا؛ لأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, والكون صنعته وإبداعه وخلقه, ولكن إذا بدا شيء من ذلك فلا بد من وجود خلل ما؛ إما في صياغة الحقيقة العلمية، أو في فهم الدارسين للنص القرآني الكريم.

18.يجب تحري الدقة المتناهية في التعامل مع كتاب الله, وإخلاص النية في ذلك والتجرد له من كل غاية شخصية.

19.ضرورة التفريق بين قضيتي "الإعجاز العلمي" و "التفسير العلمي" للقرآن الكريم؛ فالإعجاز العلمي يُقصد به إثبات سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون، أو تفسير ظاهرة من ظواهره قبل وصول العلم المكتسب إليها بعدد متطاول من القرون, وفي زمن لم يكن لأي من البشر إمكانية الوصول إلى تلك الحقيقة عن طريق العلوم المكتسبة أبدًا.

وأما التفسير فهو محاولة بشرية لـحسن فهم دلالة الآية القرآنية، إن أصاب فيها المفسر فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد, والمعوَّل عليه في ذلك هو نيته، وهنا يجب التأكيد على أن الخطأ في التفسير ينسحب على المفسر, ولا يمس جلال القرآن الكريم, وانطلاقًا من ذلك فلا بد من الحرص على توظيف الحقائق العلمية القاطعة والتي لا رجعة فيها في كل من القضيتين.

ولكن لما كانت العلوم المكتسبة لم تصل بعد إلى الحقيقة في كثير من الأمور, فإننا لا نرى حرجًا من توظيف النظريات السائدة المقبولة المنطقية في التفسير العلمي للقرآن الكريم, أما "الإعجاز العلمي" فلا يحوز أن يُوظف فيه إلا القطعي الثابت من الحقائق العلمية التي لا رجعة فيها, وذلك في جميع القضايا الوصفية، أما القضايا المتعلقة بالخلق والإفناء والبعث لكل من الكون والحياة والإنسان، فبما أنها لا تخضع لإدراكنا المباشر, فيجتهد العلماء في وضع عدد من النظريات لتفسيرها, وتتعدد النظريات بتعدد خلفية واضعيها, ويبقى للمسلم نور من الله عز وجل في آية قرآنية كريمة، أو في حديث نبوي مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يعين العالم المسلم على الارتقاء بإحدى هذه النظريات إلى مقام الحقيقة, لا لأن العلوم المكتسبة قد وصلت فيها إلى الحقيقة, ولكن لمجرد وجود إشارة لها في كتاب الله، أو في أقوال خاتم أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

وبهذا يمكن أن نقول: إن كل إعجاز علمي هو من قبيل التفسير العلمي، وليس العكس؛ لأن التفسير العلمي بحسب الإطلاق أعم من الإعجاز العلمي.

وهذا الضابط هو من أهم الضوابط؛ لأن كثيرًا من الباحثين لا يفرقون بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي, مما دفع البعض إلى انتقاد الإعجاز العلمي وإنكاره, غير مبالين بما كُتب من أبحاث جيدة وقيمة في مجال الإعجاز العلمي.

وبمراعاة تلك الضوابط يحصل الإعجاز، ويظهر صدق الله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم للناس جميعًا, وبذلك يتم الانسجام بين الآيات الشرعية والكونية, وفي ذلك دعوة إلى الإيمان, كما أن فيه إثبات صلاحية الكتاب والسنة لكل زمان ومكان.

وليس المراد من هذه الضوابط الحَجْر على الباحثين أو منعهم من التدبر في كتاب الله, وإنما هو محاولة لضبط مسيرة البحث، وإرشاد الباحثين المسلمين إلى الطريق الصحيح لفهم كتاب الله تعالى في هذا الجانب المهم "الإعجاز العلمي", و "التفسير العلمي", ويمكن للباحث غير المتخصص أن يراجع أهل الاختصاص فيما يخفى عليه، أو يشترك مع متخصص من أجل الوصول إلى الحق, بعيدًا عن تقليد الآخرين وترديد أقوالهم([10]).

ثالثًا. تعدد أوجه إعجاز القرآن وتجددها:

    من الواضح أن حجج المعارضين والمنكرين للإعجاز العلمي في القرآن والسنة هي حجج مردودة حجة بحجة, وهو ما سيتضح من خلال هذا الوجه وما يتبعه من وجوه أخرى.

فأما عن دعواهم بقصر إعجاز القرآن الكريم على نظمه وبيانه فإننا نقول: "إن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين, المحفوظ في لغة وحيه نفسها- اللغة العربية- حرفًا حرفًا, وكلمة كلمة, وآية آية, وسورة سورة، بالترتيب نفسه الذي نجده في بلايين النسخ من المصاحف ووسائل التسجيل الأخرى, ومدوَّنًا في صدور البلايين من البشر في القديم والحديث, والذي نُقل إلينا نقلاً متواترًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم, وسيظل محفوظًا بحفظ الله حفظًا مطلقًا؛ تحقيقًا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا عز وجل على ذاته العلية فقال تعالى: ) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) ( (الحجر)، وأكد ربنا عز وجل على دقة هذا الحفظ بقوله العزيز: )بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ (22)   ( (البروج).

وانطلاقًا من كون القرآن الكريم كلام رب العالمين, في صفائه الرباني, وإشراقاته النورانية, ودقة حفظه، فلا بد أن يكون معجزًا في كل أمر من أموره, فما من زاوية من الزوايا ينظر منها إنسان محايد إلى هذا الكتاب المجيد إلا ويرى منها جانبًا من جوانب الإعجاز فيه, وإن ركز الأقدمون على جانب النظم؛ انطلاقًا من فهمهم بأن جانب الفصاحة والبلاغة وحسن البيان كان الجانب الذي تميز فيه العرب في زمن الوحي؛ ومن ثم فهو جانب التحدي الذي يثبت به الإعجاز"([11]).

وبهذا تتعدد أوجه الإعجاز في كتاب الله بتعدد جوانب النظر فيه؛ فكل حرف من حروفه, وكل كلمة من كلماته, وكل آية من آياته فيها إعجاز لفظي وبياني ودلالي, وكل مجموعة من الآيات, وكل سورة من السور- طالت أو قصرت- تشهد لكتاب الله تعالى بأنه معجز بما فيها من قواعد عقدية, أو أوامر تعبدية, أو قيم أخلاقية, أو ضوابط سلوكية, أو أحداث تاريخية, أو إشارات علمية إلى شيء من أشياء هذا الكون الفسيح وما فيه من ظواهر وسنن وكائنات؛ فكل تشريع, وكل قصة, وكل واقعة تاريخية, وكل وسيلة تربوية, وكل نبوءة مستقبلية, وكل إشارة تنظيمية, وكل خطاب إلى النفس الإنسانية جاء في القرآن الكريم يفيض بجلال الربوبية, ويتميز عن كل صياغة إنسانية؛ مما يشهد للقرآن الكريم بالتفرد, كما يشهد بعجز الإنسان عن الإتيان بشيء من مثله.

إذًا فأوجه إعجاز القرآن كثيرة؛ فهناك الإعجاز اللغوي, والبياني, والنظمي, والتركيبي, والدلالي, والإعجاز العقدي, والتعبدي, والأخلاقي, والتشريعي, وهناك الإعجاز التاريخي, والتربوي, والنفسي, والاقتصادي, والإداري, والإعلامي, وهناك الإعجاز العلمي والتقني, والإعجاز العددي: الرقمي، والحسابي, والإعجاز الصوتي, وإعجاز التحدي الذي لم يـجب ولن يجاب إلى قيام الساعة, وإعجاز الحفظ من التحريف أو الضياع, وغير ذلك كثير([12]).

وعليه، فإن "المضيقين الذين حاولوا قصر إعجاز القرآن الكريم على بيانه ونظمه وأسلوبه وفصاحته وبلاغته فقط, بدعوى أنه الجانب الذي تحدى به العرب فيما كانوا يجيدونه ويتقنونه- قد نسوا أن التحدي بالقرآن الكريم لم يكن للعرب فقط، بل نزل للجن والإنس, فرادى ومجتمعين, وليس جميع الإنس والجن يعرفون اللغة العربية، فضلاً عن إجادتها وإتقانها إلى حد اكتشاف جانب الإعجاز النظمي في كتاب الله, ولا يزال التحدي قائمًا.

وادعاء عدد آخر من هؤلاء المضيقين بأن "المثلية" التي جاء بها التحدي بالقرآن الكريم هي مثلية البيان والنظم- هو ادعاء فيه إجحاف كبير بفضل القرآن الكريم؛ لأنه مع إيماننا بإعجاز بيان القرآن الكريم ونظمه, إلا أن البيان يبقى إطارًا لمحتوى, والمحتوى أهم من الإطار, ومحتوى القرآن الكريم هو الدين بركائزه الأربع الأساسية؛ العقيدة, والعبادة, والأخلاق, والمعاملات, بالإضافة إلى ما جاء به من قصص السابقين, وإنباء بالغيب, وخطاب للنفس الإنسانية, وإشارات كونية, وضوابط اقتصادية, وإدارية, وتحدٍّ للإنس والجن مجتمعين, وحفظ على مدى السنين؛ وذلك لأن القرآن الكريم هو معجزة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم  إلى يوم الدين, وأن التحدي به وقع بالقرآن كله وليس فقط ببيانه ونظمه"([13]).

رابعًا. القرآن كتاب دين وهداية وهو يحتوي على العديد من الإشارات العلمية:

إن كل المشتغلين بدراسة الإعجاز العلمي يؤمنون بأن القرآن الكريم كتاب دين وهداية, وهو بعيد كل البعد عن تناول العلوم بمنهجية التدريس, ومع ذلك فقد حوى إشارات علمية كثيرة ومتنوعة([14]).

ولا تعارض البتة بين كون القرآن الكريم كتاب هداية ربانية, وإرشادات إلهية, ودستور عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملات, وكتاب تشريع سماوي يشمل نظامًا كاملاً للحياة, وبين احتواءه على عدد من الإشارات العلمية الدقيقة التي وردت في مقام الاستدلال على عظمة الخالق وقدرته في إبداع الخلق, وقدرته على إفناء ما قد خلق, وإعادة كل ذلك من جديد, وفي الاستدلال أيضًا على وحدانية الخالق المطلقة فوق جميع خلقه؛ لأنه عز وجل خلق كل شيء في الوجود- من اللبنات الأولية لكل من المادة والطاقة إلى الإنسان- في زوجية واضحة؛ حتى يبقى الله وحده متفردًا بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه.

أما القول بأن تلك الإشارات قد تم سردها بصورة مجملة فإنها بحق إحدى صور الإعجاز العلمي والبياني في القرآن الكريم؛ وذلك لأن كل إشارة علمية وردت فيه قد صِيغت صياغة فيها من إعجاز الإيجاز, والدقة في التعبير, والإحكام في الدلالة, والشمول في المعنى ما يمكن الناس- على اختلاف ثقافاتهم, وتباين مستويات معارفهم, وتتابع أجيالهم وأزمانهم- أن يدركوا لها من المعاني ما يتناسب وهذه الخلفيات كلها؛ بحيث تبقى المعاني المستخلصة من الآية الواحدة يكمل بعضها بعضًا في تناسق عجيب, وتكامل أعجب؛ لأنه تكامل لا يعرف التضاد, وهذا عندي من أروع صور الإعجاز في كتاب الله؛ فالإجمال في تلك الإشارات مع وضوح الحقيقة العلمية للأجيال المتلاحقة- كل على قدر حظه من المعرفة بالكون وعلومه- هو بالقطع أمر فوق طاقة البشر, وصورة من صور الإعجاز لم تتحقق ولا يمكن أن تتحقق لغير كلام الله الخالق.

ومن هنا كان فهم الناس للإشارات العلمية الواردة بالقرآن الكريم على ضوء ما يتجمع لديهم من معارف- فهمًا يزداد اتساعًا وعمقًا جيلاً بعد جيل, وهذا في حد ذاته شهادة للقرآن الكريم بأنه لا تنتهي عجائبه ولا يبلى على كثرة الرد, كما وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقد أدرك نفر من السابقين ذلك، وفي مقدمتهم الإمام الزركشي- رحمه الله-  الذي كتب في كتابه "البرهان في علوم القرآن" ما نصه: "وما من برهان ودلالة وتقسيم, وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به, لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين؛ لأمرين؛ الأول: بسبب ما قاله عز وجل:   ) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم((إبراهيم: 4)، والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام, فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخطَّ إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون, ولم يكن ملغزًا, فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجل صورة تشتمل على أدق دقيق؛ لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أنبائها ما يوفي على ما أدركه فهم الخطباء...".

ثم يضيف قائلاً: "كل من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر؛ ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل, ومرة إلى السامعين, ومرة إلى المفكرين, ومرة إلى المتذكرين؛ تنبيهًا على أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقته منها"([15])([16]).

وعليه، فإن قول المدَّعين: إن القرآن كتاب دين وهداية وليس كتاب علم من العلوم, وإن الإشارات العلمية الواردة فيه قد جاءت مجملة- لا يقوم دليلاً على إنكارهم الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.


خامسًا. تفسيرالقرآن في ضوء معطيات العلم الثابتة أمر حتمي:

إن قول مثيري الشبهة: لا يجوز تفسير القرآن في ضوء معطيات العلم الحديث قول باطل بعيد عن الحق, وذلك لما يأتي:

إن في كون القرآن الكريم بيانًا من الله تعالى إلى الناس كافة ما يفرض على المتخصصين من أبناء المسلمين أن يفهموه- كل في حقل تخصصه- على ضوء ما تجمع لديهم من معارف, وذلك بتوظيف مناهج الاستقراء الدقيقة؛ فالقرآن الكريم نزل للناس ليفهموه وليتدبروا آياته، والآيات الكونية في كتاب الله تعالى لا يمكن فهمها فهمًا كاملاً في إطار اللغة وحدها, ولا يمكن استقراء سبقها للمعارف المكتسبة في هذا الإطار وحده, بل لا بد من توظيف البعد العلمي؛ حتى يتم فهم دلالة الآية الكريمة فهمًا دقيقًا، ويتم إثبات سبقها بالإشارة إلى العديد من حقائق الكون, وهو ما يُعرف بـ "الإعجاز العلمي في القرآن الكريم", علمًا بأن تفسير آيات الكونيات على ضوء من معطيات العلوم التجريبية لا يشكل احتجاجًا على القرآن بالمعارف المكتسبة, ولا انتصارًا له بها، فالقرآن الكريم- بالقطع- فوق الإنسان وعلومه؛ لأنه كلام الله الخالق عز وجل، والتفسير على أساس من المعطيات العلمية الحديثة يبقى محاولة بشرية للفهم في إطار لم يكن متوافرًا للناس من قبل.

ولا يمكن أن تكون محاولات البشر لفهم القرآن الكريم حجة على كتاب الله, سواء أصابت أم أخطأت تلك المحاولات, وإلا لما حفل القرآن الكريم بهذا الحشد الهائل من الآيات التي تحض على استخدام كل الحواس البشرية للنظر في مختلف جنبات الكون بمنهج علمي استقرائي دقيق؛ وذلك لأن الله تعالى قد جعل السنن الكونية على قدر من الثبات والاطراد الذي يمكن حواس الإنسان المتأمل لها والمتفكر فيها والمتدبر لتفاصيل جريانها من إدراك أسرارها، على الرغم من حدود قدرات تلك الحواس، وربما كان هذا هو المقصود من آيات التسخير التي يزخر بها القرآن الكريم, ويمن علينا ربنا عز وجل- وهو صاحب الفضل والمنة- بهذا التسخير الذي هو من أعظم نعمه علينا نحن معشر العباد.

ومن أروع ما يدركه الإنسان المتأمل في الكون كثرة الأدلة المادية الملموسة على كل حدث وقع في الكون، وهي أدلة مدوَّنة في صفحة السماء وفي صخور الأرض بصورة يمكن لحواس الإنسان ولعقله إدراكها لو اتبع المنهج العلمي الاستقرائي الصحيح؛ فما من انفجار حدث في الكون إلا وهو مدوَّن, وما من نجم توهج أو خمد إلا وله أثر, وما من هزة أرضية أو ثورة بركانية أو حركة بانية للجبال إلا وهي مسجَّلة في صخور القشرة الأرضية, وما من تغير في تركيب الغلاف الغازي أو المائي للأرض إلا وهو مدوَّن في صخورها, وفي بقايا الأحياء في تلك الصخور, وما من تقدم للبحار أو انحسار لها, ولا تغير في المناخ، ولا هبوط نيزك من النيازك على الأرض إلا وهو مدوَّن كذلك في صخور الأرض.

ومن هنا، فإن الدعوة القرآنية للتأمل في الكون واستخلاص سنن الله فيه, وتوظيف تلك السنن في عمارة الأرض، والقيام بواجبات الاستخلاف فيها- هي دعوة للناس في كل زمان ومكان, وهي دعوة لا تتوقف ولا تتخلف ولا تتعطل أبدًا؛ انطلاقًا من الحقيقة الواقعة أنه مهما اتسعت دائرة المعرفة الإنسانية فإن القرآن الكريم يبقى- دومًا- مهيمنًا عليها ومحيطًا بها؛ لأنه كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته, والذي هو أدرى بصنعته من كل من هم سواه.

وعلى ذلك، فإن مقابلة كلام الله بمحاولة البشر لتفسيره, وإثبات جوانب الإعجاز فيه لا تنتقص من جلال الربوبية الذي يتلألأ بين كلمات هذا البيان الرباني الخالص, وإنما تزيد المؤمنين ثباتًا على إيمانهم, وتشرح صدور الباحثين عن الحق وتهديهم إليه، وتقيم الحجة على الجاحدين من الكفار والمشركين, فإذا أخطأ المفسر في فهم دلالة آية من آيات القرآن الكريم فإن هذا الخطأ يعود على المفسر نفسه ولا ينسحب على جلال كلام الله أبدًا, والذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا, وكذلك الذين فسروا بالتاريخ؛ ومن ثم، فليحاول العلماء التجريبيون تفسير الآيات الكونية بما تجمع لديهم من معارف؛ لأن تلك الآيات لا يمكن فهم دلالاتها فهمًا كاملاً, ولا استقراء جوانب الإعجاز فيها في حدود اللغة وحدها.

وعليه, فإن قولهم بعدم جواز تفسير الثابت بالمتغير قول ساذج؛ لأن معناه الجمود على فهم واحد لكتاب الله ينأى بالناس عن واقعهم في كل عصر حتى لا يستسيغوه فيملوه ويهملوه.

وثبات القرآن الكريم- وهو من السمات البارزة له- لا يمنع من فهم الإشارات الكونية الواردة فيه على أساس من معطيات العلوم الكونية, حتى ولو كان ذلك يتسع من عصر إلى آخر بطريقة مطردة, فالعلوم المكتسبة كلها لها طبيعة تراكمية, ولا يتوافر للإنسان منها في عصر من العصور إلا أقدار تتفاوت بتفاوت الأزمنة وتباين العصور, تقدمًا واضمحلالاً, وهذه الطبيعة التراكمية للمعرفة الإنسانية المكتسبة تجعل الأمم اللاحقة أكثر علمًا في مجال الكونيات- بصفة عامة- من الأمم السابقة, إلا إذا تعرضت الحضارة الإنسانية بأكملها للانتكاس والتدهور.

من هنا كانت معطيات العلوم الكونية- بصفة خاصة- ومعطيات المعارف المكتسبة كلها- بصفة عامة- دائمة التغير والتطور, بينما كلمات القرآن الكريم وحروفه ثابتة لا تتغير, وهذا وحده من أعظم شواهد الإعجاز في كتاب الله.

وعلى الرغم من ثبات اللفظ القرآني, وتطور الفهم البشري لدلالاته- مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية جيلاً بعد جيل- فإن تلك الدلالات يتكامل بعضها مع بعض في اتساق لا يعرف التضاد, ولا يتوافر ذلك لغير كلام الله تعالى.

ويظل اللفظ القرآني ثابتًا, وتتوسع دائرة فهم الناس له عصرًا بعد عصر, وفي ذلك شهادة للقرآن الكريم بأنه يغاير كلام البشر كافة, وأنه- بالقطع- بيان من الله تعالى؛ ولذلك فإننا نجد القرآن الكريم يحض الناس حضًّا على تدبر آياته, والعكوف على فهم دلالاتها, ويتحدى أهل الكفر والشرك والإلحاد أن يجدوا فيه صورة واحدة من صور الاختلاف أو التناقض على توالي العصور عليه, وكثرة النظر فيه, وصدق الله العظيم إذ يقول: )  أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا (82)((النساء).

وإذ يكرر التساؤل التقريعي في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة:) فبأي آلاء ربكما تكذبان (13) ( (الرحمن)، ويؤكد ضرورة تدبر القرآن الكريم, وأنه تعالى قد جعله في متناول عقل الإنسان, فيذكر ذلك أربع مرات في سورة القمر؛ حيث يصدع التنزيل بقول الحق تعالى: )ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكِر (17)( (القمر)، والذكر هنا- كما يجمع المفسرون- يشمل التلاوة والتدبر معًا, ويشير إلى استمرار تلك العملية مع توالي العصور وتجدد الأزمان, ومن هنا يبقى النص القرآني ثابتًا, ويتجدد فهم الناس له كلما اتسعت دائرة معارفهم ونمت حصيلتهم العلمية, وذلك- بالقطع- فيما لم يرد في شرحه شيء من المأثور الموثق.

وليس في ذلك مقابلة بين كلام الله وكلام الناس كما يدَّعي البعض, ولكنه المحاولة الجادة لفهم كلام الله, وهو تعالى الذي أنزله للبشر؛ لكي يفهموه ويتعظوا بدروسه, وفهم آيات القرآن الكريم- في الوقت نفسه بمعان تتسع مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية باستمرار, وفي تكامل لا يعرف التضاد- هو صورة من صور الإعجاز في كتاب الله, لا ينكرها إلا جاحد.

أما القول بأن ما يُسمى بـ "حقائق العلم" ليس إلا نظريات وفروضًا, يبطل منها اليوم ما كان سائدًا بالأمس, وربما يبطل في الغد ما هو سائد اليوم- فهو أيضًا قول ساذج؛ لأن هناك فروقًا واضحة بين الفروض والنظريات من جهة، والحقائق والقواعد والقوانين من جهة أخرى, وهي مراحل متتابعة في منهج العلوم التجريبية الذي يبدأ بالفروض، ثم النظريات, وينتهي بالقواعد والقوانين والحقائق.

والفروض هي تفسيرات أولية للظواهر الكونية, والنظريات هي صياغة عامة لتفسير كيفية حدوث تلك الظواهر ومسبباتها, أما الحقائق الكونية فهي ما يثبت ثبوتًا قاطعًا في علم الإنسان بالأدلة المنطقية المقبولة, وهي جزء من الحكمة التي نحن أولى الناس بها كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم, أما القواعد والقوانين العلمية فهي تعبيرات بشرية عن السنن الإلهية في الكون, تصف علاقات محددة تربط بين عناصر الظاهرة الواحدة, أو بين عدد من الظواهر الكونية المختلفة, وهي كذلك جزء من الحكمة التي هي ضالة المؤمن.

والحقيقة العلمية لا تبطل مع الزمن أبدًا, ولكنها قد تتسع وتنمو بنماء جهود العلماء المتتابعة؛ وذلك لمحدودية القدرات الإنسانية التي تضع أعدادًا من القوانين العلمية التي تعبر عن أعداد من الحقائق الكونية المحدودة, ومن هنا كانت الطبيعة التراكمية للمعارف المكتسبة التي تتسع جيلاً بعد جيل, وهذا لا ينتقص من صدق الملاحظات العلمية التي ترتقي لمرتبة الحقيقة أو القاعدة أو القانون.

ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن تفسير القرآن في ضوء معطيات العلم الحديث الثابتة لاستخراج وجه الإعجاز منها- بالضوابط المقررة في ذلك كما ذكرنا في الوجه الثاني- أمر حتمي.

سادسًا. اتفاق معطيات العلوم الحديثة مع قضية الإيمان بالله:

إن قول المدَّعين: إن بعض معطيات العلوم التجريبية قد يتباين مع عدد من الأصول الثابتة في الكتاب والسنة؛ نظرًا لصياغتها من منطلقات مادية بحتة, منكرة لكل حقائق الغيب أو متجاهلة لها- قول على إطلاقه غير صحيح؛ لأنه إذا جاز ذلك في بعض الاستنتاجات الجزئية الخاطئة, أو في بعض الأوقات كما كان الحال في مطلع القرن العشرين- والمعرفة بالكون جزئية متناثرة ساذجة بسيطة- أو في الجزء المتوسط منه عندما أدت المبالغة في التخصص إلى حصر العلماء في دوائر ضيقة للغاية حجبت عنهم الرؤية الكلية لمعطيات العلوم- فإنه لا يجوز اليوم وقد بلغت المعارف بأشياء هذا الكون حدًّا لم تبلغه البشرية من قبل, وأصبحت الاستنتاجات الكلية لتلك المعارف تؤكد ضرورة الإيمان بالخالق البارئ المصور المنزَّه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, والذي ليس كمثله شيء, وضرورة التسليم بالغيب والوحي والبعث والحساب, فمن المعطيات الكلية للعلوم الكونية المعاصرة ما يمكن إيجازه فيما يلي:

· أن وحدة البناء في هذا الكون من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته تشير إلى وحدانية هذا الخالق العظيم؛ وحدة بناء كل من الذرة, والخلية الحية, والمجموعة الشمسية, والمجرة, وغيرها من تجمعات أجرام السماء, ووحدة تأصل العناصر كلها وردها إلى أبسطها، وهو غاز الأيدروجين, ووحدة تواصل كل صور الطاقة, وتواصل المادة والطاقة, وتواصل كل من المكان والزمان، هذا التواصل وتلك الوحدة التي يميزها التنوع في أزواج، وتلك الزوجية التي تنتظم كل صور المخلوقات من الجمادات والأحياء- من اللبنات الأولية للمادة إلى الإنسان- تشهد بتفرد الخالق البارئ المصور بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه، واستعلاء هذا الخالق الواحد الأحد الفرد الصمد فوق خلقه بمقام الألوهية الذي لا يشاركه فيه أحد, ولا ينازعه على سلطانه منازع، ولا يشبهه من خلقه شيء.

· أن العلوم التجريبية في تعاملها مع المدرك المحسوس فقط قد استطاعت أن تتوصل إلى أن بالكون غيبًا قد لا يستطيع الإنسان أن يشق حُجُبَه, ولولا ذلك الغيب ما استمرت تلك العلوم في التطور والنماء؛ لأن أكبر الاكتشافات العلمية قد تمت نتيجة للبحث الدءوب عن هذا الغيب.

· وتؤكد العلوم التجريبية أن بالأحياء سرًّا لا نعرف كنهه؛ لأننا نعلم مكونات الخلية الحية, والتركيب المادي لجسد الإنسان, ومع ذلك لم يستطع هذا العلم أن يصنع لنا خلية حية واحدة, أو أن يوجد لنا إنسانًا عن غير الطريق الفطري لإيجاده, وحتى الاستنساخ الذي هو عبث بالخلق لا يخرج عن ذلك في شيء.

· أن النظر في أي من زوايا الكون ليؤكد حاجته- بمن فيه وما فيه- إلى رعاية خالقه العظيم في كل لحظة من لحظات وجوده.

· إن العلوم الكونية إذ تقدر أن الكون والإنسان في شكليهما الحاليين ليسا أبديين, فإنها- وعلى غير قصد منها- لتؤكد حقيقة الآخرة, بل حتميتها, والموت يتراءى في مختلف جنبات الكون في كل لحظة من لحظات وجوده، شاملاً الإنسان والحيوان والنبات والجماد وأجرام السماء على تباين هيئاتها, وتكفي في ذلك الإشارة إلى ما أثبتته الدراسة من أن الشمس تفقد من كتلتها بالإشعاع على هيئة طاقة ما يُقدر بحوالي 4,6 مليون طن من المادة في كل ثانية من ثواني عمرها, وأنها إذ تستمر في ذلك فلا بد من أن يأتي الوقت الذي تخبو فيه جذوتها, وينطفئ أَوارها([17]), وتنتهي الحياة على الأرض قبل ذلك؛ لاعتماد الأرض في ممارسة أنشطتها الحيوية على القدر المقنن الذي يصلها من أشعة الشمس.

كذلك تثبت الدراسات الكونية أن الطاقة تنتقل من الأجسام الحارة إلى الأجسام الأقل حرارة بطريقة مستمرة في محاولة لتساوي درجات حرارة الأجرام المختلفة في الكون, ولا بد أن تنتهي مع هذا الانتقال الحراري كل صور الحياة المعروفة لنا.

وليس معنى ذلك أنه يمكن معرفة متى تكون نهاية هذا الوجود؛ لأن الآخرة قرار إلهي لا يرتبط بسنن الدنيا, وإن أبقى الله تعالى لنا في الدنيا من الظواهر والسنن ما يؤكد إمكانية وقوع الآخرة, بل حتميتها؛ انصياعًا للأمر الإلهي بـ )  كن فيكون (117)((البقرة)  ، وفي ذلك يقول ربنا عز وجل:)بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون (117)((البقرة).

   والقرآن الكريم يؤكد لنا فجائية وقوع الآخرة بقول ربنا عز وجل مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله العزيز: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)  ( (الأعراف).

فهل يمكن لعاقل بعد ذلك كله أن يتصور أن العلوم الكونية ومعطياتها- في أزهى عصور ازدهارها- تتصادم مع قضية الإيمان بالله؟ وهذه هي معطياتها الكلية, وهي في جملتها تكاد تتطابق مع تعاليم السماء, وعلماء الفلك اليوم يعترفون بحتمية وجود مرجعية للكون في خارجه لا يحدها الزمان ولا المكان, ولا تشكلها قوالب المادة والطاقة, وعلى ذلك فهذه المرجعية لا بد أن تكون لها من الصفات ما يغاير صفات جميع المخلوقين.

وفي ذلك كتب المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ محمد فريد وجدي في خاتمة كتابه "المستقبل للإسلام" ما نصه: "إن كل خطوة يخطوها البشر في سبيل الرقي العلمي هي تقرب إلى ديننا الفطري, حتى ينتهي الأمر إلى الإقرار الإجماعي بأنه الدين الحق", ثم يضيف: "نعم إن العالم بفضل تحرره من الوراثات والتقاليد, وإمعانه في النقد والتمحيص يتمشى عن غير قصد منه نحو الإسلام, بخطوات متزنة ثابتة, لا توجد قوة في الأرض ترده عنه إلا إذا انحل عصام المدنية, وارتكست الجماعات الإنسانية عن وجهتها العلمية"([18]).

سابعًا. التكلف والتعسف في الإعجاز العلمي أمران مرفوضان:

لقد زعم مثيرو الشبهة أن علماء الإعجاز العلمي يلوون أعناق الألفاظ لتخدم فكرتهم وقضيتهم, مستندين في ذلك إلى بعض الأمور التي سنفندها من خلال هذا الوجه.

كنا قد ذكرنا في الوجه الثاني أن من الضوابط والقواعد التي يجب اتباعها في البحث في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة- هو عدم التكلف أو التعسف في لي أعناق الألفاظ من أجل موافقتها للحقيقة العلمية؛ وذلك لأن القرآن الكريم أعز علينا وأكرم من ذلك, فكلام الله الخالق, وعلم الخالق بخلقه هو الحق المطلق الكامل الشامل المحيط بكل علم آخر, وهو العلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

كما ينبغي ألا يخرج الدارس باللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية, وعند الضرورة القصوى, ومن هنا فلا يمكن إثبات الإعجاز العلمي بتأويل النص القرآني([19]).

ولكن مع ذلك كله قد يخرج بعض الباحثين عن هذه الضوابط- وهذا قد حدث بالفعل- فهل معنى هذا أن يتم إنكار الإعجاز العلمي كله جملة وتفصيلاً؟ إن العيب كل العيب هنا فيمن حاد عن الجادة والصواب, فكيف ينسحب هذا على الإعجاز العلمي نفسه؟! إننا نتساءل: لو أن شخصًا ما خرج عن ضوابط وقواعد مهنته أو حرفته هل هذا يعيب مهنته أو حرفته وينتقص منها أم يعيبه هو؟!

أما عن الأدلة التي استندوا إليها لإثبات زعمهم فهي آيات عديدة, وهذه الآيات قد تم توضيحها من خلال شبهات مستقلة في هذه الموسوعة (موسوعة حقائق الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية في مواجهة الشبهات), وسنكتفي هنا بذكر مثال يوضح مدى تهافت أدلتهم, وهو قوله تعالى: )  فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصَّعَّد في السماء((الأنعام: 125)، فقد زعموا أن في هذه الآية تعسفًا واضحًا من خلال ربط لفظ "يصَّعَّد" بالإعجاز العلمي, مع أن هذا اللفظ لا علاقة له إطلاقًا بالصعود من الناحية اللغوية, وإنما يعني: محاولة شاقة في عمل شيء مستحيل.


والجواب عن هذا ما يأتي:

إن هذا الزعم مغالطة وقلب للحقائق؛ وذلك لأن لفظ "يصَّعَّد" له دلالات متعددة في معاجم اللغة([20]), من ضمنها ما ذكروه, وأيضًا يعني: الصعود أو الارتفاع إلى أعلى, وهو ما أوضحته كتب التفاسير؛ ومن ثم، فإن المراد من قول الله تعالى:)كأنما يصَّعَّد في السماء(هو الارتفاع المتدرج البطيء, والله تعالى يشبه ضيق صدر الكافر بضيق صدر الذي يتصاعد في السماء, وهذا تشبيه بليغ شُبِّهت فيه الحالة المعنوية بحالة حسية, والتشبيه لا تكتمل أركانه ولا يكون وجه الشبه في المشبه به أقوى منه في المشبه إلا بحمل النص على ظاهره من التصعد في السماء على الحقيقة, خاصة أنه لا توجد قرينة في النص تصرف دلالة اللفظ الظاهر عن معناه.

وبالرغم من أن الآية جاءت في مقام التشبيه إلا أنها قد صِيغت صياغة علمية دقيقة؛ فقد أثبت علماء الفضاء أن الإنسان كلما صعد إلى السماء عانى من ضيق التنفس, وأُصيب بالعمى المؤقت وواجه ظلامًا شديدًا... إلخ, وهذا لا شك إعجاز علمي؛ فقد اعتمد فيه على اللغة دون أدنى تكلف أو تعسف, وهذا لا يعني تخطئة ما فهمه المسلمون الأوائل في صدر الإسلام؛ فالآيات الكونية في القرآن تتسع دلالتها مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد؛ حتى يظل القرآن مهيمنًا على المعارف الإنسانية مهما اتسعت دوائرها, وهذا من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله كما ذكرنا في الوجوه السابقة.

إن الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم قد فهموا من الآية الكريمة في حدود معارف عصرهم أن لفظ "يصَّعَّد" هو تكلف ما لا يُطاق, والمشقة في الصعود إلى أعلى, دون تصور أو إدراك لكيفية الصعود بالمعنى المعاصر, وهذا فهم صحيح مطابق للغة, ثم جاء العلماء في العصر الحديث فأبانوا عن هذا المعنى عندما صعد الإنسان إلى الفضاء, فإذا بالضغط يتناقص, والأكسجين ينعدم في طبقات الجو العليا, وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ) ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء (- (الأنعام: 125).

وعليه, فإن الطاعن قد أخفى جانبًا من المعنى وأبرز الآخر, وكان حريًّا به أن يبرز كلا الجانبين؛ ليكون منصفًا مع نفسه ومع الآخرين.

هذا عن تفنيد الدليل القرآني الذي استندوا إليه في إنكارهم للإعجاز العلمي, وهناك دليل آخر على حد زعمهم, وهو التعسف في تحويل العبادات إلى فوائد علمية, وهذا يُجاب عنه بما يأتي:

إن الله عز وجل لا يأمر بشيء إلا كان فيه خير للإنسان نفسيًّا وبدنيًّا, علم هذا من علمه، وجهله من جهله, وليس معنى هذا أن تتحول العبادات إلى استفادات مادية, ولكن الواجب الشرعي على المسلمين أن يأتمروا في كل الأحوال بما أمر به الإسلام, وأن ينتهوا عن كل ما نهى عنه دون الحاجة إلى معرفة الأسباب أو الحكمة, لكن المولى خالق الكون وعالم الغيب عز وجل يعلم أن الإنسان عجول وحريص على أن يتحسس السبب أو الحكمة من كل أمر يقضيه أو فعل يفعله, ويتطلع إلى أن يعرف كيف يحدث الله عز وجل أية معجزة في الكون؛ وذلك كي يطمئن قلبه, فهذا نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام يسأل الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى, يقول الله تعالى:) وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي((البقرة: ٢٦٠).

ولذلك فإننا نرى أن المولى عز وجل يظهر للإنسان من حين لآخر عبر مرور القرون والأحقاب حقيقة في الكون أو في خلقه لم يعرفها الإنسان من قبل إلا بعد أن أخضع الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة للتجربة والفحص بآلياته وأجهزته المتطورة, ويذهل ويندهش عندما يرى أن القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف قد ذكر أو أشار إلى هذه الحقيقة قبل أن يعرف سرها الإنسان في عصر من العصور, فتكون هذه آية من آيات الله عز وجل على قدرته وإبداعه، وسيظل الإنسان إلى أن تقوم الساعة يرى من هذا الآيات المعجزة؛ إذ يقول المولى عز وجل: )خُلق الإنسان من عجل سأُريكم آياتي فلا تستعجلون (37)( (الأنبياء)([21]).

والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فمن الأمور التي ثبت لها فوائد طبية حديثًا: الوضوء, الاغتسال من الجنابة, السواك, الصلاة, الصيام... إلخ, ومن الأمور الشرعية التي ثبت لها أضرار طبية حديثًا أيضًا: إتيان الحائض, الزنا, اللواط, شرب الخمر, أكل لحم الخنزير... إلخ؛ ومن ثم, فإننا يجب أن نؤمن أن هذه الأوامر والنواهي هي من عند خالق البشر عز وجل؛ ولذلك من السذاجة أن تظن أن لأمر الله فائدة أو فائدتين فقط, بل إن له فوائد كثيرة، فأوامره عز وجل أعظم من أن تُفسر بعلة أو حكمة واحدة([22]).

وبالإضافة إلى ما سبق, فإن بعض المدَّعين قد أنكروا الإعجاز العلمي بحجة استشهاد بعض كتب التفسير بالإسرائيليات الموضوعة، وهذا ربط غير صحيح مطلقًا؛ وذلك لأنه لا حاجة بنا اليوم إلى الإسرائيليات في تفسير الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله؛ لأن الرصيد العلمي في مختلف المعارف قد بلغ اليوم شأوًا لم يبلغه من قبل, وإذا كان من استخدم الإسرائيليات في تفسيره من الأوائل قد أخطأ التفسير، فإن من يستخدم حقائق العلم الثابتة ومشاهداته المتكررة في شرح تلك الآيات اليوم لا بد أن يصل إلى فهم لها لم يكن من السهل الوصول إليه من قبل, وأن يجد في ذلك من السبق العلمي للقرآن الكريم ما يشهد بالعديد من صور الإعجاز العلمي فيه، التي لم يكن ممكنًا لأحد من السابقين إدراكها؛ مما يؤكد وصف القرآن بأنه لا تنقضي عجائبه، ولا يبلى على كثرة الرد([23]).

وعليه, فإن التكلف والتعسف الذي وقع فيه بعض الباحثين لا يمكن أن يكون بحال مطية لإنكار الإعجاز العلمي برمته؛ فإن أعدادًا أوفر قد وُفِّقت في ذلك أيما توفيق, فلِمَ التعميم في الحكم إذًا؟!

ثامنًا. براءة القرآن من تهمة اقتباس الإشارات العلمية من الكتب السابقة:

إن دعوى المغرضين أن الإشارات العلمية الواردة في القرآن الكريم قد ذُكرت في الكتب السابقة على الإسلام- قول باطل مردود؛ وذلك لما يأتي:

أن هذه الدعوى دعوى قديمة أُلبست ثوبًا جديدًا يتماشى مع عصر العلم والتكنولوجيا, فلقد قال الله تعالى في محكم كتابه حاكيًا قول كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم:  )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً (5) ( (الفرقان)؛ أي: القرآن الكريم, فرد عليهم رب العزة عز وجل قائلاً لنبيه صلى الله عليه وسلم:)قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورًا رحيمًا (6)((الفرقان).

وعليه, فإن الاقتباس عمومًا- كما يقول الدكتور عبد العظيم المطعني- عملية فكرية لها ثلاثة أركان:

الأول: الشخص المقتبَس منه.

الثاني: الشخص المقتبِس (اسم فاعل).

الثالث: المادة المقتبَسة نفسها (اسم مفعول).

والشخص المقتبَس منه سابق إلى الفكرة, التي هي موضوع الاقتباس, أما المادة المقتبَسة فلها طريقتان عند الشخص المقتبِس؛ إحداهما: أن يأخذ المقتبِس الفكرة بلفظها ومعناها كلها أو بعضها, والثانية: أن يأخذها بمعناها كلها أو بعضها كذلك, ويعبر عنها بكلام من عنده.

والمقتبِس في عملية الاقتباس أسير المقتبَس منه- قطعًا- ودائر في فلكه؛ إذ لا طريق له إلى معرفة ما اقتبس إلا ما ذكره المقتبَس منه, فهو أصل, والمقتبِس فرع لا محالة.

وعلى هذا، فإن المقتبِس لا بد له- وهو يزاول عملية الاقتباس- أن يأخذ الفكرة كلها بلفظها ومعناها أو بمعناها فقط.

ويمتنع على المقتبس أن يزيد في الفكرة المقتبسة أية زيادة غير موجودة في الأصل؛ لأننا قلنا: إن المقتبس لا طريق له لمعرفة ما اقتبس إلا ما ورد عند المقتبس منه, فكيف يزيد على الفكرة والحال أنه لا صلة له بمصادرها الأولى إلا عن طريق المقتبس منه.

إذا جرى الاقتباس على هذا النهج صدقت دعوى من يقول: إن فلانًا اقتبس مني كذا.

أما إذا تشابه ما كتبه اثنان؛ أحدهما سابق والثاني لاحق, واختلف ما كتبه الثاني عما كتبه الأول، مثل:

1. أن تكون الفكرة عند الثاني أبسط وأحكم، ووجدنا فيها ما لم نجده عند الأول.

2. أو أن يصحح الثاني أخطاء وردت عند الأول, أو يعرض الوقائع عرضًا يختلف عن سابقه.

في هذه الحال لا تصدق دعوى من يقول: إن فلانًا قد اقتبس مني كذا.

ورد هذه الدعوى مقبول من المدَّعى عليه؛ لأن المقتبس- اتهامًا- لـما لم يدر في فلك المقتبس منه- فرضًا- بل زاد عليه وخالفه فيما ذكر من وقائع، فإن معنى ذلك أن الثاني تخطى ما كتبه الأول حتى وصل إلى مصدر الوقائع نفسها واستقى منها ما استقى, فهو إذًا ليس مقتبسًا، وإنما مؤسس حقائق تلقاها من مصدرها الأصيل ولم ينقلها عن ناقل أو وسيط.

وسوف نطبق هذه الأسس التي تحكم عملية الاقتباس على ما ادعاه القوم هنا وننظر, فلو أخذنا التوراة كمثال نقول:

هل القرآن الكريم عندما اقتبس- كما يدَّعون- من التوراة كان خاضعًا لشرطي عملية الاقتباس, وهما: نقل الفكرة كلها, أو الاقتصار على نقل جزء منها, فيكون- بذلك-  دائرًا في فلك التوراة, وتصدق حينئذ دعوى القوم بأن القرآن- معظمه- مقتبس من التوراة؟

أم أن القرآن لم يقف عند حدود ما ذكرته التوراة في مواضع التشابه بينهما؟ بل:

1. عرض الوقائع عرضًا يختلف عن عرض التوراة لها.

2. أضاف جديدًا لم تعرفه التوراة في المواضع المشتركة بينهما.

3. صحَّح أخطاء خطيرة وردت في التوراة في مواضع متعددة.

4. انفرد بذكر مادة خاصة به ليس لها مصدر سواه.

5. في حالة اختلافه مع التوراة حول واقعة يكون الصحيح هو ما ذكره القرآن, والباطل ما جاء في التوراة بشهادة العقل والعلم.

لقد كان الواقع هو الاحتمال الثاني، فدعوى الاقتباس باطلة، ويكون للقرآن في- هذه الحالة- سلطانه الخاص به في استقاء الحقائق وعرضها، فلا اقتباس لا من توراة ولا من إنجيل, ولا من غيرهما([24]).

ويؤكد ما سبق العالم الفرنسي الدكتور موريس بوكاي الذي درس طويلاً الإشارات العلمية والكونية الواردة في الكتب السماوية الثلاثة, وقارنها بحقائق العلم الحديث, فخلص إلى نتيجتين ضمنهما كتابه المعروف "التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم", وهما:

الأولى: من حيث الكم, فإن كَمَّ هذه الإشارات في الكتابين السابقين ضئيل, بينما هو في القرآن كبير.

الثانية: من حيث الكيف, فإن الكم الضئيل يتناقض- في معظمه- مع حقائق العلم, بينما كم الإشارات في القرآن- وهو كثير- يتطابق مع هذه الحقائق, وهذا طبيعي؛ لكون القرآن محفوظًا بحفظ الله له, بينما الكتابان السابقان طالتهما- كما هو معروف- يد التحريف والتبديل.

ولكي يصل الدكتور بوكاي إلى هاتين النتيجتين فقد ساق أمثلة كثيرة من العلم الحديث, منها حديثه عن علم الفلك, الذي علق عليه بقوله: إن هذه الإشارة العلمية التي تتضمنها هذه الآيات تشكل حدثًا جديدًا في صور الكلام الإلهي الذي أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله عليهم السلام, ولا يوجد لها نظير في التوراة (العهد القديم) أو في الأناجيل (العهد الجديد), وذلك باستثناء بعض المفاهيم التي عرضتها التوراة, وقد ثبت عدم اتساقها مع معطيات العلم الحديث.

أما القرآن الكريم, فالمعطيات التي قدمها لنا مهمة من الناحية العلمية, وما أمسك القرآن الكريم عن ذكره أيضًا مهم؛ إذ إن القرآن الكريم لا يقدم لنا مجرد معلومات علمية بشأن الكون ونشأته كانت معروفة للناس في عصر نزوله, بل قدم لنا بعض الحقائق العلمية التي لم تكن معروفة في زمن نزوله, واتضح صوابها ومطابقتها لصحيح المعلومات العلمية التي تم اكتشافها فحسب في العصر الحديث, ولم يقدم لنا القرآن الكريم معلومة واحدة عن خلق العالم استطاع العلم الحديث أن يثبت أنها غير صحيحة([25]).

وعندما تحدث بوكاي عن علم الجنين بدأ حديثه بقوله: "منذ بدأت كتابات البشر عن التناسل بشيء من التفصيل- مهما كان ضئيلاً- بدأت هذه الكتابات تتخبط وتتعثر في كثير من الأخطاء؛ وفي العصور الوسطى على سبيل المثال, بل وفي عصر لا يبعد عنا كثيرًا كانت ضروب كثيرة من الخرافات تحيط بموضوع التناسل, وكيف لا تقع هذه الأخطاء بشأن التناسل والقدرة على فهم عملياته المعقدة تتطلب أن يكون الإنسان ملمًّا بعلم التشريح, وأن يكون استخدام المجهر متاحًا, وأن تكون المعلومات التي أمكن لعلم وظائف الأعضاء وعلم الأجنة وعلم التوليد الوصول إليها- متاحة للباحث الذي يريد أن يدلي بدلوه في الكلام عن موضوع مثل موضوع التناسل؟

ولكن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة للقرآن الكريم عندما تحدث منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا عن التناسل, فذكر في مواضع كثيرة كثيرًا من الحقائق التي تتصل بمراحل التناسل على نحو بالغ الصحة والدقة والكمال, ودون أي خطأ يمكن اكتشافه بالغًا ما بلغ التحقيق العلمي والتدقيق في المعلومات.

ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقائق المتصلة بموضوع التناسل في عبارات سهلة بسيطة يسهل على الإنسان العادي فهمها, وهي مع ذلك تتفق تمامًا مع حقائق العلم الحديث في موضوع علمي بحت مثل موضوع التناسل"([26]).

وحتى لا يكون كلامنا عامًّا نسوق نماذج تطبيقية من علم الجنين؛ حتى يتضح لكل مُدَّعٍ أن القرآن الكريم متفرد في سوق الإشارات العلمية والكونية, ولم يقتبسها من أي كتاب سابق عليه, وهذه النماذج كالآتي:

لقد انتشرت عند المصريين القدماء الخرافات والتخمينات فيما يخص علم الجنين؛ فكانت خرافة مشيمة الملك, وتلاوة النساء رقى وتمائم عند الحمل والولادة لتسهيل عملية الولادة، إلى غير ذلك من الخرافات التي لا تمت إلى العلم بصلة.

وقد اعتقد الهنود قديمًا أن الجنين يتكون من اتحاد الدم والمني, وذكروا مراحل لنمو الجنين تتنافى تمامًا مع الحقيقة, وتدل على دور الخيال في فهم هذه المراحل لديهم.

أما اليونانيون فهم أول من ربط العلم بالمنطق, ورغم ذلك ظلت تعليلاتهم بعيدة عن الحقيقة؛ فقالوا بخلق الجنين من مني الرجل ودم الحيض, وقدموا خلق اللحم على العظام, وكلها أخطاء بيَّن بطلانها القرآن, ثم جاء الطب الحديث فأكد بطلانها أيضًا.

وبنظرة عجلى إلى المراحل التي وردت عند أبقراط وأرسطو وجالين نجدها تختلف تمامًا عن مراحل نمو الجنين التي جاء بها القرآن وطبقها العلم الحديث؛ فأبقراط جعل منشأ الجنين من دم الحيض وحده, وأرسطو خالفه وجعله من دم الحيض ومني الرجل, وجالين خالفهما وجعله من دم الحيض ومني الرجل ومني المرأة، فأي شبه بين ذلك وبين ما جاء في القرآن الكريم من أن الجنين يُخلق من كلا الطرفين؛ حيث النطفة الأمشاج المكونة من ماء الرجل وبويضة المرأة؟! ولا دخل لدم الحيض في تكون الجنين على الإطلاق([27]).

وبذلك يكون القرآن قد تخلى عن هذا الخطأ الفاحش الذي أجمع عليه هؤلاء الثلاثة وغيرهم من الهنود والمصريين القدماء, وأيضًا تخلت الأحاديث النبوية عن هذا الخطأ وأبطلته.

وبنظرة عجلى أيضًا إلى ما يوجد في الكتاب المقدس من معلومات خاطئة مأخوذة من النظريات البشرية التي كانت منتشرة حين جُمعت أسفار هذا الكتاب- لتدل على أن الإسلام لم يأخذ منها شيئًا, وإنما جاء بعلم لم يكن ليأتي إلا من عند رب عليم خبير:

· ذكر العهد القديم أن الجنين يتكون من دم الحيض السائل, وليس للسائل المنوي إلا دور ثانوي في تكوين الجنين, وذلك في قوله: "... ألم تصبني كاللبن, وخثرتني كالجبن..."، وهذه هي نظرية أرسطو التي كانت سائدة في عصره, والتي قالت بأن الجنين يتخلق من دم الحيض حين يقوم المني بعقده, مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتحوله إلى جبن.

وقد جاء القرآن مخالفًا لكل هذا وأكد أن الجنين يتكون من النطفة الأمشاج التي تجمع بين نطفتي الرجل والمرأة, ولا علاقة لدم الحيض بالجنين, بالإضافة إلى أن القرآن ذكر بقية المراحل بدقة بالغة, وهي (النطفة- العلقة- المضغة- العظام- اللحم- التسوية والتعديل), ولم ترد أية إشارة إليها في الكتاب المقدس, فأين التشابه بينهما إذًا ؟!

· ذكر العهد القديم أن خلق الجلد واللحم يكون قبل العظام والعصب؛ فقال: "كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام عصب", بينما قال القرآن: )فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا( ( 14 ) المؤمنون, وهذا ما أثبته العلم الحديث, فأين ما أخذه القرآن من الكتاب المقدس في هذا الأمر؟!

· كانت اليهود تظن أن الرجل إذا جامع امرأته من ورائها- أي: في قبلها- جاء الولد أحول, فنزل قوله تعالى:) نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم   ((البقرة: ٢٢٣)، فقطع بذلك دابر هذه الخرافة بعد بيان بطلانها.

· إن في تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم إعجازًا علميًّا, يتضح بعد أن أثبت العلم الحديث أسبقية خلق السمع على البصر, فهل أخذ القرآن الكريم هذا الإعجاز من الكتاب المقدس؟ بالطبع لا, فلم يرد تقديم السمع على البصر إلا في موضع واحد من الكتاب المقدس لا يثبت ترتيبًا, وإنما هو إشارة عابرة, القصد منها بيان أن الأذن تسمع والعين تبصر, أما الباقي فقدَّم البصر على السمع فيها.

وعليه, فهل بعد كل ما سبق يدَّعون أن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة مقتبس من الكتب السابقة؟!

تاسعًا. فوائد الإعجاز العلمي:

لقد أوضحنا في الوجوه السابقة وأثبتنا بالحجج القاطعة والبراهين الدامغة أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد حويا كثيرًا من الإشارات العلمية والكونية في مجالات متعددة, وهذا من إعجازهما العلمي.

ولا شك أن لهذا الإعجاز فوائد عديدة للمسلمين وغيرهم, وليس كما يظن المغرضون, وهذه الفوائد هي:

1. الأثر البالغ الذي تتركه في قلوب المسلمين, والذي يترجم بزيادة اليقين عندهم لدى رؤيتهم هذه الحقائق الباهرة؛ لأنها وردت على لسان النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا فإنها خير دعوة للتمسك بالقرآن والسنة والاهتداء بهما.

2. الرد العلمي الدامغ على الأفكار التي تشكك في صحة الرسالة المحمدية؛ حيث إن عرض تلك الحقائق التي أخبر عنها نبي أمي كان في زمن يعمه الجهل بالعلوم البحتة, خاصة في تلك الميادين الكونية؛ ولذلك فهذا الإعجاز يُعتبر مجالاً خصبًا لإقناع المنصفين من العلماء بربانية القرآن الكريم, وصدق رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

3. الرد العلمي المقترن بالبرهان الساطع على أن الدين الإسلامي هو دين العلم حقًّا؛ فمع إشادة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم وترغيبه بتحصيله وتنويهه بفضل العلماء, قد ذكر كثيرًا من الدلالات العلمية, وأشار إلى كثير من الأسرار الكونية, مما هو موضوع العديد من التخصصات في آفاق الكون, ولم يستطع أحد إلى الآن أن يثبت وجود تعارض أي دلالة كونية ورادة في حديث صحيح مع ما استقر من الحقائق العلمية اليوم, وأنَّى له ذلك؟!

4. إن الإعجاز العلمي يُعتبر خير محرِّض لهمم المسلمين؛ كي يتابعوا مسيرة البحث والتجريب والمقارنة, وغير ذلك من وسائل الكشوف العلمية والتقدم المعرفي, وفي الوقت نفسه يفضي إلى توسيع دائرة شواهد الإعجاز العلمي.

5. كما أن هذا الإعجاز العلمي يُعتبر قناة آمنة ترفد بقية قنوات الدعوة إلى الله, والذي يتتبع أسباب دخول كثير من الناس في الإسلام- ممن كانوا نصارى أو بوذيين أو يهود- يجد بحق أن فريقًا منهم قد ابتدأ سيره إلى الحق, ثم انتهى به ذلك إلى إعلان شهادة الحق, من خلال معاينة لطائف الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

6. ولا شك أن ظاهرة الرجوع إلى دين الإسلام من قِبل الذين كانوا من الشاردين الغافلين, يعزز يقين المسلمين بدينهم رجوعًا لحالة عزة في نفوس أبناء الأمة الإسلامية, بعد الكبوة التي حصلت لهم عقب سقوط الخلافة الإسلامية, وهيمنة الدوائر الاستعمارية على مجتمعهم.

7. وهذا كله يذكِّرنا بالحقيقة التي لا تتخلف أبدًا, والتي أخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن عقبة بن عامر: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك»([28]).

8. إن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة يمثل شاهدًا إضافيًّا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويستوي في ذلك الحكم إن كان الإعجاز العلمي قرآنًا أو سنة([29]).

نلحظ من خلال هذه الفوائد أن الإعجاز العلمي كان ولا يزال سببًا قويًّا لدخول كثير من الناس في الإسلام, وليس كما يتوهم أو يدَّعي المغالطون: إذا كان الإعجاز العلمي قد تكشف لغير المسلمين من علماء الكونيات, فلماذا لم يؤمنوا بالإسلام؟!

ونحن نرد على ذلك فنقول: إن العلماء غير المسلمين الذين تعرفوا على بعض الإشارات الكونية الواردة في القرآن الكريم ودرسوها على ضوء ما لديهم من المعارف العلمية قرروا أن هذا الذي جاء به القرآن الكريم لا يمكن أن يكون معارف بشرية- وقت نزول القرآن- وأنه خارج عن القدرات العقلية لمن قال به, وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ومنهم من توقف عند ذلك ولم يربط الإعجاز العلمي بالوحي الإلهي؛ لأن عقيدة الألوهية عندهم غير واردة, ولم ينتقلوا بهذا اليقين العقلي إلى الاستدلال على الوحي، وصدق القرآن والإيمان بالإسلام؛ لأن هذه التداعيات الفكرية ليست سهلة وبسيطة، بل هي متشابكة ومعقدة.

كما أن الهداية أو الجحود والقبول أو الرفض في العقيدة والإيمان بالله تعالى تخضع لأمور ترتبط بالوجدان الذي ينجذب نحو الغيبيات, والأمر أولاً وأخيرًا مرده إلى توفيق الله تعالى؛ ولنتذكر قوله عز وجل:)إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) ((القصص)، وقوله تعالى: ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14) ((النمل).

ولا ينفي هذا أن هناك من العلماء من أيقن بأن هذه الإشارات العلمية فوق قدرات البشر فآمن بأن القرآن وحي من عند الله عز وجل, وأشهر إسلامه, سواء في مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن والسنة عبر السنوات الماضية, أم في غيرها([30]), ومن هؤلاء:

1. د. موريس بوكاي:طبيب وباحث فرنسي مشهور, كان سبب إسلامه أنه قام بفحص جثة فرعون- التي طلبتها فرنسا من الحكومة المصرية لتجري عليها بعض الأبحاث- فوجد أنه قد مات غريقًا, ولا يزال ملح البحر مترسبًا في جسده, فلما أعلم بقول الله تعالى: )فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون (92)((يونس) أعلن إسلامه؛ لأنه أدرك أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من عند بشر أيًّا كان علمه, بل هو كلام رب البشر عز وجل.

2. د. كيث مور: طبيب كندي, من أشهر علماء الأجنة والتشريح في العالم, وله كتاب "تطور الجنين", الذي يُعد من المراجع العلمية الأولى لعلم الجنين في كليات الطب على مستوى العالم, كان سبب إسلامه هو قوله تعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون)، فلما سمع هاتين الآيتين أعلن إسلامه؛ لأنهما يتطابقان تمامًا مع العلم الحديث([31]).

3. د. تاجاتات تاجاسون: هو رئيس قسم التشريح والأجنة بجامعة شانج ماي بتايلاند, وهو بوذي الديانة, كان سبب إسلامه عندما سمع قول الله عز وجل:)إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا (56)( (النساء)، فعكف على البحث في القرآن الكريم لمدة ثلاث سنوات, ثم أعلن في المؤتمر الطبي الثامن بالمملكة العربية السعودية, وقال: لقد أصبحت مهتمًّا بالقرآن في السنوات الثلاث الأخيرة, وإنني أؤمن بكل ما جاء في القرآن الكريم؛ وإنه صحيح ويمكن إثباته بالوسائل العلمية, فلم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يعرف شيئًا عن الكتابة إلا كونه رسولاً من الله عز وجل, ولقد حان الوقت أن أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله([32]).

 

 

4. د. آرثر أليسون:عالم بريطاني, وهو رئيس قسم الهندسة الكهربائية والإلكترونية بجامعة لندن, كان سبب إسلامه هو مشاركته في أعمال المؤتمر الطبي الإسلامي الدولي حول الإعجاز العلمي في مصر عام 1985م- ببحث عن أساليب العلاج النفسي الروحاني في ضوء القرآن الكريم, وآخر حول النوم والموت والعلاقة بينهما في ضوء الآية القرآنية:)الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيُمسك التي قضى عليها الموت ويُرسل الأخرى إلى أجل مسمًّى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42) ((الزمر).

الغريب في الأمر أنه لم يكن- وقتئذ- قد اعتنق الإسلام, وإنما كانت مشاعره تجاهه لا تتعدى الإعجاب به كدين.

وبعد أن ألقى بحثه جلس يشارك في أعمال المؤتمر ويستمع إلى باقي البحوث التي تناولت الإعجاز العلمي في القرآن الكريم, فتملكه الانبهار, وازداد يقينه بأن هذا هو الدين الحق, فكل ما يسمعه عن الإسلام يدلل بأنه دين العلم ودين العقل... فلم يجد بدًّا من إعلان إسلامه.

وقد قرر العالم البريطاني المسلم البروفيسور عبد الله أليسون- الاسم الجديد له بعد اعتناقه الإسلام- أن الحقائق العلمية في الإسلام هي أمثل وأفضل أسلوب للدعوة الإسلامية, ولا سيما للذين يحتجون بالعلم والعقل.

ولذلك أعلن أنه سيقوم بإنشاء معهد للدراسات النفسية الإسلامية في لندن على ضوء القرآن المجيد والسنة النبوية, والاهتمام بدراسات الإعجاز الطبي في الإسلام؛ وذلك لكي يوصل تلك الحقائق إلى العالم الغربي الذي لا يعرف شيئًا عن الإسلام([33]).

  

5. د. مارشال جونسون:عالم غربي متخصص في علم الأجنة, وهو أستاذ علم التشريح وعلم الأحياء التطويري في جامعة توماس جيفيرسن, فيلاديلفيا, بينسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية, وقد أسلم في إحدى مؤتمرات الإعجاز العلمي, التي كانت تتحدث عن مراحل خلق الإنسان, وقال هذا العالم: لو كانت هذه الحقائق عندنا لأقمنا الدنيا ولم نقعدها, وتساءل: كيف تسكتون أنتم عن ذلك([34])؟!

 

وبعد, فهؤلاء الخمسة هم من أشهر العلماء الذين أسلموا في الغرب, وهناك الكثير غيرهم, والأمر ليس مقصورًا على العلماء وأهل التخصص فقد أسلم غيرهم, ومنهم:

موسى تشيرانتونيو: هو شاب أسترالي, اعتنق الإسلام وأصبح بعد مرور تسع سنوات داعية إسلاميًّا, يحكي قصة إسلامه فيقول: لم أنجذب للإسلام إلا عندما قرأت عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؛ فمعجزات القرآن العلمية أخذت بلُبِّي وأسرتني ودفعتني لكي أعتنق الإسلام, وفي الحقيقة لم أنجذب للإسلام بسبب دعوته للأخلاق وحسن المعاملة؛ لأن كل الأديان تدعو لذلك, هو أمر سهل يمكن أن يدَّعيه أي شخص, كما يضع كل مؤلف توقيعه على كتابه, ففي رأيي آيات الإعجاز العلمي هي بمثابة توقيع الله ودليل على أن القرآن الكريم من الله وليس من محمد([35]).

وعليه, فإن البعض يتساءل: إذا كان القرآن الكريم والسنة النبوية يحويان كل هذه الإشارات العلمية والكونية, فلماذا لا نكتشفها قبل الغرب؟!

هذا السؤال يتكرر كثيرًا, فالقرآن ما دام يحوي كل هذه الحقائق العلمية فلماذا لا نكتشفها نحن المسلمون ونسبق الغرب إليها.

نقول: إن السبب هو تقصيرنا وإهمالنا لكتاب الله وللبحث العلمي؛ والدليل على ذلك أن أجدادنا عندما تدبروا القرآن وعملوا بما فيه واستجابوا للتعاليم الإلهية التي تأمرهم أن يسيروا في الأرض ويفتشوا عن أسرار الخلق- صنعوا أعظم حضارة علمية في التاريخ, وهذا باعتراف الغرب نفسه([36]).

إن في الإشارات الكونية في القرآن والسنة تشجيعًا للمسلمين على تأمل الكون وإمعان النظر فيه, واستقراء السنن الحاكمة لكل شيء فيه؛ قال عز وجل:)قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)((يونس).

ولو أن المسلمين وعوا هذه الحقيقة منذ القدم لكان لهم في مجال الدراسات الكونية سبق ملحوظ ونجاح غير ملحوق؛ فنحن ندرك اليوم- وفي ضوء ما تجمع لنا من معارف في مجال دراسات العلوم البحتة والتطبيقية- أن الإشارات الكونية في كتاب الله تتسم بالدقة المتناهية في التعبير, وبالشمول والإحاطة في المعنى, والاطراد والثبات في الدلالة, وبالسبق لكثير من الكشوف العلمية بالمئات من السنين, وفي ذلك شهادة قاطعة لا يستطيع أن ينكرها إلا جاحد بأن القرآن الكريم هو كلام الله وليس صناعة بشرية([37]).

"من هنا كان واجب المتخصصين من المسلمين في كل عصر وفي كل جيل أن ينفر منهم من يستطيع أن يجمع إلى حقل تخصصه إلمامًا بحد أدنى من علوم اللغة العربية وآدابها, ومن الحديث وعلومه, والفقه وأصوله, وعلم الكلام وقواعده, مع إحاطة بأسباب النزول, وبالناسخ والمنسوخ, وبالمأثور في التفسير, وباجتهاد السابقين من أئمة المفسرين, ثم يعود هؤلاء إلى دراسة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله عز وجل- كل في تخصصه- محاولين فهمها في ضوء معطيات العلم وكشوفه, وقواعد المنطق وأصوله وبالهداية الربانية, والمنح الإلهية التي يرزقها الله عز وجل للمخلصين من عباده, المتجردين لخدمة كتابه وسنة خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يدركوا ما يستطيعون من فهم لكتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد, وكما قال الله تعالى: ) بل هو آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49) ( (العنكبوت)"([38]).

الخلاصة:

· يزخر القرآن الكريم بالعديد من الإشارات العلمية والكونية التي وردت في آيات كثيرة تربو على ألف آية صريحة, وأخرى تقترب دلالتها من الصراحة, وكذا تحتوي السنة النبوية على كثير من الحقائق العلمية التي وردت في أحاديث صحيحة.

· للإعجاز العلمي في القرآن والسنة أهمية كبيرة, ومن أسباب هذه الأهمية: تفهم القرآن والسنة في ضوء معطيات العلم الحديث, الدعوة إلى الله تعالى؛ فهو وسيلة مناسبة لأهل عصرنا, وهو أيضًا وسيلة ناجعة في الرد على شبهات المشككين في القرآن والسنة... إلخ.

· إن للكتابة في الإعجاز العلمي ضوابط وقواعد عديدة, أهمها: ثبوت النص وصحته إن كان حديثًا, ثبوت الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه.

· إن الإعجاز العلمي يختلف عن التفسير العلمي؛ فالإعجاز العلمي يُقصد به إثبات سبق القرآن الكريم والحديث النبوي بالإشارة إلى حقيقة من حقائق الكون الثابتة ثبوتًا قطعيًّا قبل أن يصل إليها العلم الحديث, أما التفسير العلمي فهو محاولة بشرية لـحسن فهم دلالة الآيات الكونية في ضوء معطيات العلم الحديث، وهذا التفسير تُوظف فيه الحقائق الثابتة, وأيضًا النظريات المقبولة السائدة في حالة عدم وجود هذه الحقائق.

· إن القرآن الكريم معجز في كل أمر من أموره إعجازًا متجددًا يناسب كل عصر إلى قيام الساعة, وليس إعجازه مقصورًا على نظمه وبيانه؛ فهناك الإعجاز العقدي والتعبدي والأخلاقي, والتشريعي, والتاريخي, والتربوي, والنفسي, وهناك الإعجاز العلمي... إلخ, فلِمَ التضييق والقصر؟!

· لا شك أن القرآن الكريم كتاب دين وهداية, وهو بعيد كل البعد عن تناول العلوم بمنهجية التدريس, وهو مع ذلك قد حوى إشارات علمية كثيرة, وردت في مقام الاستدلال على عظمة الخالق وقدرته ووحدانيته عز وجل.

· تتميز الإشارات العلمية في القرآن الكريم بدقتها وإحكامها لفظًا ومعنى، كما أنها صِيغت صياغة موجزة, لكنها واضحة في الإشارة إلى الحقيقة العلمية, وهذا من أروع صور الإعجاز في كتاب الله.

· ليس صحيحًا قولهم: لا يجوز تفسير القرآن في ضوء معطيات العلم الحديث؛ لأن ذلك يتنافى مع تدبر آي القرآن, وهذه الآيات منها آيات كونية, وهذه لا يمكن فهمها فهمًا كاملاً في إطار اللغة وحدها, فلا بد من توظيف معطيات العلم الحديث حتى يتم هذا, وهذا ليس انتصارًا لكتاب الله بمعطيات العلم؛ لأن القرآن فوق الإنسان وعلومه, فهو كلام الخالق عز وجل.

· إن القول بعدم جواز تفسير الثابت- وهو القرآن- بالمتغير- وهو العلم- قول باطل؛ لأن معناه الجمود على فهم واحد لكتاب الله ينأى بالناس عن واقعهم في كل عصر حتى لا يستسيغوه فيملوه ويهملوه.

· إن قولهم: إن حقائق العلم ليست إلا نظريات وفروضًا قول ساذج؛ لأن هناك فروقًا واضحة بين الفروض والنظريات من جهة, والحقائق والقواعد من جهة أخرى؛ فهي مراحل متتابعة في منهج العلوم التجريبية، الذي يبدأ بالفروض ثم النظريات, وينتهي بالقواعد والقوانين والحقائق الثابتة ثبوتًا قاطعًا.

· لا يمكن للعلوم التجريبية ومعطياتها- في أزهى عصور ازدهارها- أن تتصادم مع قضية الإيمان بالله؛ فهي في جملتها تكاد تتطابق مع تعاليم السماء, وعلماء الفلك اليوم يعترفون بحتمية وجود مرجعية لهذا الكون المحكم العجيب, لها من الصفات ما يغاير صفات المخلوقين.

· إن من ضوابط الإعجاز العلمي عدم التكلف أو التعسف في لي أعناق الألفاظ من أجل موافقتها للحقيقة العلمية, ولكن خروج بعض الباحثين عن هذا يعيبهم هم ولا يعيب الإعجاز العلمي في شيء.

· ليس من المعقول تحويل العبادات إلى فوائد علمية؛ لأنها قد شُرعت- في الأساس- من أجل التقرب بها لله تعالى, ولكنها بجانب هذا لا تخلو من حكم كثيرة وفوائد معنوية كانت أو مادية.

· لا حاجة بنا اليوم إلى الإسرائيليات في تفسير الإشارات العلمية؛ لأن الرصيد العلمي في جميع المعارف قد بلغ اليوم شأوًا لم يبلغه من قبل.

· كيف يمكن للقرآن الكريم- وهو المهيمن على كل الكتب- أن يقتبس الإشارات العلمية أو شيئًا منها من الكتب السابقة التي ثبت تحريفها؟!

· إن الإشارات العلمية الواردة في الكتب السابقة على القرآن- وهي ضئيلة- تتناقض في معظمها مع حقائق العلم الحديث.

· إن للإعجاز العلمي في القرآن والسنة فوائد عديدة, منها زيادة اليقين في قلوب المسلمين, وبيان أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى, وأن الدين الإسلامي هو دين العلم حقًّا... إلخ.

· لا شك أن الإعجاز العلمي كان ولا يزال سببًا قويًّا لدخول كثير من علماء الغرب وغيرهم في الإسلام, كأمثال: موريس بوكاي, كيث مور, تاجاتات تاجسون, آرثر أليسون, مارشال جونسون.

فهل بعد كل ما سبق يمكن لأحد أن ينكر الإعجاز العلمي في القرآن والسنة الذي أضحى حقيقة واقعية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؟!


 

(*) وهم الإعجاز العلمي, د. خالد منتصر, دار العين, القاهرة, ط1, 2005م. قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, نهضة مصر, القاهرة, ط3، 2008م. المعجزة الخالدة: مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة, د. أحمد أبو الوفاء عبد الآخر ود. كارم السيد غنيم, د. ت, ط1, 1423هـ/ 2005م.

[1]. قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, مرجع سابق, ص22.

[2]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث المشايخ عن أُبيِّ بن كعب رضى الله عنه، رقم (21390). وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[3]. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي, د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر, القاهرة, ط1، 2003م, ج1, ص11: 14.

[4]. قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار، مرجع سابق, ص139: 146 بتصرف.

[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، (6/ 350)، رقم (3208). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، (9/ 3759)، رقم (6599).

[6]. أثر بحوث الإعجاز العلمي في بعض القضايا الفقهية، بحث منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[7]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن, ابن جرير الطبري, تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي, دار هجر, القاهرة, ط1, ج16, ص267.

[8]. حقيقة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم, د. جمال الحسيني أبو فرحة, مقال منشور بموقع: الفسطاط www.fustat.com.

[9]. الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة: هيئة سعودية تأسَّست عام 1406هـ/ 1985م بمكة المكرمة, ثم تحوَّلت إلى هيئة عالمية عام 1423هـ/ 2001م, ولها فروع أخرى خارج المملكة، أهمها: القاهرة, لبنان, تركيا, ولها موقع على الشبكة العنكبوتية, ولها مجلة فصلية في الإعجاز العلمي, وعدد من الأقراص المدمجة وأشرطة الفيديو, وقد شاركت في عدد من المؤتمرات والندوات العلمية والطبية المحلية والدولية، وأصدرت أكثر من 28 كتيبًا وعددًا من النشرات.

[10]. انظر: قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, مرجع سابق, ص48: 56. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: تاريخه وضوابطه, د. عبد الله المصلح, رابطة العالم الإسلامي, مكة المكرمة, ط2, 1427هـ/ 2006م, ص33: 40.

[11]. قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, مرجع سابق, ص19.

[12]. المرجع السابق, ص7، 8 بتصرف.

[13]. المرجع السابق, ص71، 72.

[14]. المعجزة الخالدة: مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. أحمد أبو الوفاء عبد الآخر ود. كارم السيد غنيم, مرجع سابق, ص143 بتصرف.

[15]. البرهان في علوم القرآن, الزركشي, تحقيق: د. محمد متولي منصور, مكتبة دار التراث, القاهرة, ط1, 1429هـ/ 2008م, ص23, 24.

[16]. قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, مرجع سابق, ص72: 76 بتصرف.

[17]. الأوار: شدة حرارة الشمس، وأوار النار: شدة لهيبها.

[18]. انظر: قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, مرجع سابق, ص78: 99.

[19]. انظر: المرجع السابق, ص49، 50.

[20]. انظر: تهذيب اللغة, لسان العرب, مادة: صعد.

[21]. انظر: الإعجاز العلمي في لفظ الجنابة وحكمها الشرعي, د. عبد البديع حمزة زللي, بحث منشور بمجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة, العدد (23), ص193، 194.

[22]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الإنسان, د. محمد راتب النابلسي, دار المكتبي, دمشق, ط3, 1429هـ/ 2008م, ص116، 117 بتصرف.

[23]. قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, مرجع سابق, ص72 بتصرف.

[24]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين, د. محمود حمدي زقزوق وآخرون, المجلس الأعلى للشئون الإسلامية, القاهرة, 1425هـ/ 2004م، ص139: 141 بتصرف.

[25]. التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث, د. موريس بوكاي, ترجمة: علي الجوهري, مكتبة القرآن, القاهرة, 1999م , ص200 بتصرف.

[26]. المرجع السابق, ص243.

[27]. انظر: رد الشبهات حول علم الأجنة في القرآن والسنة, د. مصطفى عبد المنعم, بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[28]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم»، (7/ 2992، 2993)، رقم (4874).

[29]. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة, د. عبد الله المصلح ود. عبد الجواد الصاوي, دار جياد, السعودية, ط1, 1429هـ/ 2008م, ص35، 36 بتصرف.

[30]. المعجزة الخالدة: مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة, د. أحمد أبو الوفاء عبد الآخر ود. كارم السيد غنيم, مرجع سابق, ص149 بتصرف.

[31]. ما هي حقيقة إسلام موريس بوكاي وكيث مور وغيرهما؟ عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[32]. انظر: موقع: هدي الإسلام www.hadielislam.com.

[33]. انظر: موقع: قصة الإسلام www.islamstory.com.

[34]. انظر: ندوة في القاهرة: إنكار الحقائق العلمية دليل جهل, مقال منشور بموقع: جريدة الشرق الأوسط, العدد (8869) www.aawsat.com.

[35]. انظر: إسلام داعية أسترالي بعد قراءته عن الإعجاز العلمي في القرآن, بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[36]. ضوابط الإعجاز العلمي في القرآن والسنة, عبد الدائم الكحيل, بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[37]. قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها, د. زغلول النجار, مرجع سابق, ص73 بتصرف.

[38]. المرجع السابق, ص76 بتصرف.

redirect how do i know if my wife cheated unfaithful wives
click why wives cheat on husbands dating site for married people
click here online women cheat husband
signs of a cheater why women cheat website
husbands who cheat women who cheat on husband my boyfriend cheated on me with a guy
online why men have affairs read here
go online how long for viagra to work
generic viagra softabs po box delivery viagra 50 mg buy viagra generic
why do wife cheat on husband website reasons why married men cheat
why do wife cheat on husband dating for married men reasons why married men cheat
why wife cheat cheat on my wife why women cheat in relationships
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق
نص التعليق
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  2407
إجمالي عدد الزوار
  36890835

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع