مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

الزعم أن سبب إيمان أهل المدينة بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرتهم من أهل مكة (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن الدافع وراء إيمان أهل المدينة بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو غيرتهم من أهل مكة؛ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمع بالناس في موسم الحج دعا إلى دينه أناسا من أهل يثرب كانت تأكل قلوبهم الغيرة من أهل مكة، فاستهواهم حديثه واعتقدوا أنه النبي المنتظر. ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في الدافع الذي حدا ببعض صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بدعوته واعتناق رسالته - صلى الله عليه وسلم - للخلوص إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس صادقا في دعوته، وأن دعوته - صلى الله عليه وسلم - تفتقد ما من شأنه أن يحبب الناس فيها ويدفعهم إلى اعتناقها طواعية.

وجها إبطال الشبهة:

1)  كان لإسلام أهل المدينة وتمسكهم بالدين الإسلامي الجديد عدة أسباب منها:

·       مبادرتهم إلى تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل اليهود؛ خوفا من تهديداتهم باتباعهم له وإخراجهم من المدينة وقتلهم قتل عاد وإرم.

·       رغبتهم في ضم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ حتى يجمع شتاتهم، ويوحد صفهم، ويؤلف بين قلوبهم بعد حروب دامت بينهم فترة طويلة.

·      الاقتناع الكامل بالدين الجديد وتعاليمه السامية.

2) لقد بايع الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على البذل المستمر والتضحية في سبيل هذا الدين؛ طلبا للنجاة في الآخرة، وطمعا في دخول الجنة.

التفصيل:

أولا. الأسباب التي تقف وراء إسلام أهل المدينة:

إن ثمة أسبابا عدة تقف وراء إسلام أهل المدينة المنورة، وهي بعيدة تمام البعد عن أمر الغيرة من أهل مكة، الأمر الذي ركز عليه مثيرو هذه الشبهة وأهم هذه الأسباب:

1. خوفهم على أنفسهم من اليهود الذين كانوا يهددونهم ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعهم له لإخراجهم من المدينة وقتلهم قتل عاد وإرم، فبادروا إلى تصديقه، حتى لا يسبقهم هؤلاء إلى اتباعه:

كان اليهود جيران الأوس والخزرج يتحرشون بهم ويسعون إلى السيطرة على المدينة، ويهددون أهلها بنبي جديد قد حان زمانه يتبعه اليهود فيقتلون العرب، ويأخذون أرضهم وأموالهم، ولا شك أن هذا الخبر كان يغيظ أهل يثرب ويشعرهم بالخطر.

فلما كان الموسم الذي قبل الهجرة بعامين خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعادته يعرض نفسه على القبائل، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج فقال لهم: "من أنتم"؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: "أمن موالي يهود"؟ قالوا: نعم. قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله - عز وجل - وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام[1] [2].

2. رغبة أهل المدينة في ضم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ حتى يجمع شتاتهم ويوحد صفهم، ويؤلف بين قلوبهم:

كان سكان المدينة من الأوس والخزرج في نزاع دائم، تقول السيدة عائشة - رضي الله عنها -: «كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، قدم رسول الله إلى المدينة وقد افترق ملؤهم وقتل سراتهم» [3] [4]. وبعاث موضع بالمدينة كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم، فهم بحاجة إلى من يضمد جراحهم وينهي صراعهم ويجمعهم على غاية واحدة.

لذلك نجد بعضهم عند البيعة يؤكد ذلك قائلا: قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا. فلما رجعوا إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم[5].

وهكذا نجد رغبة الأنصار في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عسى أن يجمع كلمتهم ويوحد صفهم، وهذا ما حدث بفضل الله - عز وجل - ثم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلما أنعم الله على الخزرج والأوس بنعمة الإسلام اتفقت الكلمة واجتمع الشمل وتآخى الفريقان، فوحد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمهما ولقبهما بالأنصار لأنهم نصروه، وتوحيد الاسمين تحت راية الإسلام كان له أعظم أثر في النفوس؛ إذ بذلك امتنع الشقاق وتصافت النفوس وساروا جميعا نحو غرض واحد ومبدأ واحد هو نشر الإسلام[6].

3.  الاقتناع التام بالدين الجديد وبتعاليمه السامية:

 عرف عن أهل المدينة لين الجانب، ودماثة الخلق، وحسن المعاملة، بخلاف أهل مكة الذين عرفوا بالشدة والقسوة، وهذه أمثلة تؤكد ذلك:

خرج أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير في المدينة يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدما، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة، قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه.

فوقف أسيد عليهما متشتما، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال أسيد: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تصلي، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك[7]، فقام سعد مغضبا مبادرا؛ تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يديه، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره، فقال مصعب - وقد أخبره أسعد بن زرارة: أي مصعب، جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، قال مصعب - لسعد: أوتقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين، قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.

فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة[8]، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة ووائل وواقف، وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وكان شاعرا لهم وقائدا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام[9].

ومن أجل لين جانب أهل المدينة ودماثة أخلاقهم، سهل عرض الإسلام عليهم وتفاعلهم معه، على خلاف أهل مكة الذين عرفوا بالشدة والقسوة، فكان قبولهم للإسلام بعيد المنال في بداية أمر الدعوة الإسلامية.

إن سبب إسلام أهل المدينة الأول هو الاقتناع الكامل بالإسلام، وتعاليمه السامية، وحبهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

هذا الحب الذي جعل الأنصار يقتسمون أموالهم مع إخوانهم من المهاجرين، ويؤثرونهم على أنفسهم كما ذكرهم الله - سبحانه وتعالى - بقوله: )يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( (الحشر: ٩).

إن هذا الإيمان الراسخ في القلوب هو الذي جعل الأنصار يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، ونصرة الله ورسوله؛ لذلك نجد لهم موقفا عجيبا يتجلى فيه مدى حبهم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - عندما قسم - صلى الله عليه وسلم - الغنائم لبعض الزعماء من قريش وسائر العرب وأعطاهم عطايا سخية يتألف بها قلوبهم، ولم يكن في الأنصار منها شيء، قليل ولا كثير، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه، فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا[10] عليك في أنفسهم، فقال: "فيم"؟ قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأين أنت من ذاك يا سعد"؟ قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني"، حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له، فأتاه فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني.

فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة[11] فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم"؟ قالوا: بلى، ثم قال: "ألا تجيبون يا معشر الأنصار"؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المن لله ولرسوله، قال: "والله، لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك". فقالوا: المن لله ولرسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة[12] من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، فبكى القوم حتى أخضلوا[13] لـحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا ورسوله قسما، ثم انصرفوا وتفرقوا»[14] [15].

هكذا نجد الأنصار قد تغلغل الإيمان في قلوبهم، لدرجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤثر غيرهم في الفيء؛ لأنه يعلم قوة إيمانهم التي تفوق الغنائم وغيرها، إنهم إنما نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به طلبا لرضا الله - سبحانه وتعالى - ودخول الجنة، لذلك يقول أحدهم عند البيعة الكبرى: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ علينا وشرط أن يعطينا على ذلك الجنة.

فلم يكن إيمان الأنصار وأهل المدينة إذن غيرة من قريش أو مكة - كما يزعمون -، ولكنه إيمان عن يقين صادق بما عند الله - سبحانه وتعالى - في الآخرة.

ثانيا. مبايعة الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - علي البذل والتضحية والسمع والطاعة:

لقد بايع الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة وعلى أن يحموه وينصروه، ولهم الجنة. وفي ذلك يقول كعب بن مالك وهو يروي ما حدث في العقبة الثانية: «فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتسلل تسلل القطا[16] مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع... فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه يستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج؛ خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده، فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"، فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: والذي بعثك بالحق، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا[17]، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابرا عن كابر، فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم"، قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء[18] على قومهم بما فيهم"، فأخرجوا منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس»[19].

وكان ممن تكلم أيضا في هذه البيعة الصحابي الجليل أسعد بن زرارة فقال: «سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب إذا فعلنا ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أسألكم لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا، وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم"، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة"، قالوا: فلك ذلك»[20] [21].

والمتأمل في هذه البيعة - بيعة العقبة الثانية - يجد فيها أمورا مهمة؛ منها:

1. الضمان الأساسي هو الإيمان بالله، فلقد كان العهد مع الله بنصرة رسوله ودعوته هو صفقة مع الله يقوم على الالتزام بها ضمير المؤمن.

2. هذه البيعة تمثلها الآية: )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة( (التوبة: ١١١)، فليس فيها ذكر لحقوق الدنيا وغنائمها. إنها بيعة على البذل المستمر لله طلبا للنجاة في الآخرة، وهؤلاء المبايعون هم الدعامات التي قام عليها المجتمع الإسلامي الأول.

3. إدراك الأنصار الرائع لعظم العواقب النهائية لهذه البيعة «والله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدا».[22] فإن الجنة أعظم من أي جهد يبذله الإنسان، وإن سبق الناس إلى هذا الأمر شرف عظيم عند الله: )وعجلت إليك رب لترضى (84)( (طه)[23].

وهكذا نجد أن الأنصار قد بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن ينصروه ويحموه من قومه، ويكون لهم الجنة مقابل ذلك، فهم إنما رغبوا في النجاة في الآخرة من النار، وعلى الرغم من أن هذا يكلفهم كثيرا من التعب والمشاق، إلا أن ذلك كله في سبيل الله - سبحانه وتعالى - فكيف تكون غيرتهم من أهل مكة هي سبب إسلامهم؟!

وإنا - في نهاية دفع هذه الشبهة - نتوجه إلى مثيري هذا الطعن بتساؤلات مؤداها: أية غيرة تلك التي زعمتم أنها تمثل السبب وراء إسلام أهل المدينة؟! وإلام استندتم في القول بهذه الغيرة المدعاة؟!

الخلاصة:

·       كان لإسلام أهل المدينة وتمسكهم بالدين الإسلامي الجديد عدة أسباب بعيدة تمام البعد عن أمر الغيرة من أهل مكة، منها:

o      خوفهم على أنفسهم من اليهود الذين كانوا يهددونهم ببعثة نبي آخر الزمان، واتباعهم له لإخراج أهل المدينة منها وقتلهم قتل عاد وإرم، فبادر الأنصار إلى تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يسبقهم اليهود إلى تصديقه.

o      رغبة الأنصار في ضم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليجمع شملهم ويوحد صفهم ويؤلف بين قلوبهم بعد حروب عديدة قامت بينهم - الأوس والخزرج - لسنوات طويلة راح ضحيتها كثير من الرجال من الطرفين.

o      اقتناعهم التام بالإسلام وبتعاليمه السامية، وذلك لما عرف عنهم من لين الجانب، ودماثة الخلق، وحسن المعاملة، وأمثلة إسلام معظمهم تشهد بذلك، فأين إذن غيرتهم من قريش، وأهل مكة؟!

·       كان إسلام أهل المدينة وإيمانهم بالله - سبحانه وتعالى - عن اقتناع تام بتعاليم الدين الإسلامي الجديد، خوفا من عذاب الله - سبحانه وتعالى - وطمعا في دخول الجنة، وهذا ما دفع القوم إلى إبرام بيعة العقبة الثانية، وعلى الرغم من أنهم يعلمون خطورة الموقف إلا أنهم آثروا رضا الله - سبحانه وتعالى - على كل شيء، وضحوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله - سبحانه وتعالى - حتى ينالوا في الآخرة الجنة، وقد كان لهم ما تمنوا في الآخرة، حيث أحبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمنى أن يكون منهم، ودعا لهم بقوله: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»، وقال صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» [24].

 



(*) مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، مصر، 1415هـ/ 1995م.

[1]. حسن: أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، باب ذكر العقبة الأولى وما جاء في بيعة من حضر الموسم (698)، وحسنه الألباني في فقه السيرة (1/ 146).

[2]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص115.

[3]. السراة: الأشراف.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب الأنصار (3566).

[5]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص114: 116 بتصرف.

[6]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ص141.

[7]. يخفر: ينقض.

[8]. ميمون النقيبة: محمود الطبيعة والسريرة.

[9]. الروض الأنف، السهيلي، دار الفكر، بيروت، 1409هـ/ 1989م، ج2، ص199.

[10]. وجد: حزن.

[11]. العالة: في حاجة للمال والطعام.

[12]. اللعاعة: الشيء القليل.

[13]. أخضل: بل.

[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري (11748)، والهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل الأنصار (16475)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 397).

[15]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص575، 576.

[16]. القطا: نوع من اليمام.

[17]. الأزر: جمع الإزار، أي نساءنا، والمرأة قد يكنى عنها بالإزار؛ لأنها تحمى كما يحمى الإزار، أو المراد أنفسنا، وقد يعبر عن النفس بالإزار والثوب.

[18]. الكفلاء: جمع الكفيل، وهو الضامن.

[19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه (15836)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم (7011)، والطبراني في المعجم الكبير، باب الكاف، كعب بن مالك الأنصاري (174)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 146).

[20]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب المغازي، ما جاء في ليلة العقبة (37103)، وأحمد في مسنده، مسند الشاميين، بقية حديث أبي مسعود البدري الأنصاري رضي الله عنه (17119)، والبيهقي في سننه الكبرى، باب ذكر العقبة الثانية وما جاء في بيعة من حضر الموسم (707)، وقال عنه الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد: مرسل صحيح (17119).

[21]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1 ص445: 451. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص122، 123.

[22]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (14496)، وابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ، باب بدء الخلق (6274)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (63).

[23]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص124، 125.

[24]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري (11748)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 397).

read women who cheat on husband want my wife to cheat
my husband cheated my husband almost cheated on me open
online redirect read here
go using viagra on females how long for viagra to work
generic viagra softabs po box delivery us drugstore pharmacy viagra buy viagra generic
where to order viagra online buy viagra free shipping viagra sipari verme
viagra vison loss buy viagra online read
viagra vison loss buy viagra online read
read here website why women cheat on men
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق
نص التعليق
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  9212
إجمالي عدد الزوار
  36595429

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع