مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

ادعاء أن المسلمين يستخدمون الزكاة في استمالة الناس وإغرائهم للدخول في الإسلام(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن المسلمين يسيئون استخدام الزكاة ويصرفونها في مصارف لا تفيد الفقير، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة). ويتساءلون: كيف تكون الزكاة من صميم الدين، ويستخدمها المسلمون في استمالة قلوب الناس - ولو كانوا أغنياء - للدخول في الإسلام، وفي تجهيز الجيوش للاعتداء على الآخرين؟! ثم يستهزئون قائلين: أيعجز محمد - صلى الله عليه وسلم - عن إقناع الناس بدينه، فيلجأ إلى هذه الوسائل الرخيصة؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في صحة الزكاة التي فرضها الله - عز وجل - على المسلمين.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الزكاة لغة: النماء، واصطلاحا: حق الله في المال يخرج في مصارفه بشروط محددة. ودليل مشروعيتها ثابت بالقرآن والسنة والإجماع.

2)  الحكم التشريعية والمقاصد التربوية والإيمانية والأخلاقية وفيرة في فريضة الزكاة، سواء علمها المسلمون أم غابت عنهم.

3)  لو كان التأليف إغراء ما أخذ المسلمون من اليهود والنصارى الجزية.

4)  هل إقبال الناس على الإسلام في العصر الحديث عن قناعة به أم أن المسلمين قد ألفوا قلوبهم بالمال؟!

 التفصيل:

أولا. تعريف الزكاة، ودليل مشروعيتها وحكمتها:

الزكاة لغة: النمو والزيادة، يقال: زكا الزرع: إذا نما وزاد، وقد تطلق بمعنى الطهارة؛ قال عز وجل: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها( (التوبة: 103)؛ أي: تطهرهم بها. [1] واصطلاحا: اسم لما يخرجه الإنسان من حق الله - عز وجل - إلى الفقراء، وسميت زكاة؛ لما يكون فيها من رجاء البركة، وتزكية النفس، وتنميتها بالخيرات، فإنها مأخوذة من الزكاء، وهو النماء والطهارة والبركة، قال عز وجل: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)( (التوبة)، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد فرضها الله بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكانت فريضة الزكاة بمكة في أول الأمر مطلقة، لم يحدد فيها المال الذي تجب فيه ولا مقدار ما ينفق منه، وفي السنة الثانية من الهجرة - على الأشهر - فرض مقدارها في كل نوع من أنواع المال، وبينت بيانا مفصلا [2].

وهي أداء حق يجب في أموال مخصوصة، على وجه مخصوص، ويعتبر في وجوبه الحول والنصاب [3].

أدلة مشروعية الزكاة:

1. القرآن الكريم: كقوله عز وجل: )وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (المزمل: ٢٠)، وقوله عز وجل: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)( (التوبة)، قال المفسرون: أدخل "من" على الأموال للتبعيض؛ لأن الصدقة المفروضة ليست جميع المال، وإنما هي جزء منه، وقال: )من أموالهم( ولم يقل: من مالهم؛ ليكون مشتملا على أجناس المال كلها، والضمير في )من أموالهم( يعود إلى كافة المسلمين؛ كما عليه جمهور أهل التفسير. وهذا دليل على وجوب الأخذ من أموال جميع المسلمين [4].

2. السنة المطهرة: فقد جاءت السنة بتأكيد ما جاء به القرآن من وجوب الزكاة وتفصيلها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام علي خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان». [5] وقوله أيضا عندما بعث معاذا إلى اليمن قائلا له: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم» [6].

3.  الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوبها، واتفق الصحابة على قتال مانعيها [7].

واقتضت إرادة الله أن يكون في الناس الغني والفقير؛ لتستقيم شئون حياتهم، وليتعاونوا جميعا على عمارة الأرض، فلو كانوا كلهم أغنياء لبطلت مصالحهم، ولو كانوا كلهم فقراء لفسدت معيشتهم، وهانت حياتهم، وبطلت الحكمة من إيجادهم، ووقفت البشرية في تقدمها عند أول عهدها بالحياة؛ حيث كان يكفي الرجل لقمة يجدها من صيد يصيده، أو من ثمرة تسقط عليه من غصن شجرة، ويكفيه من اللباس ما يستر عورته.

وإذا كانت حكمة الله أن توجد هاتان الطبقتان، فقد أمر - سبحانه وتعالى - الفريقين بالتعاون والتآزر، فأمر الأغنياء أن يعودوا على الفقراء بجزء من أموالهم، وأمر الفقراء أن يبذلوا للأغنياء من خبراتهم وحرفهم ما يحقق مصالحهم وأغراضهم، وقد كان الإسلام رفيقا بالفريقين، فلم يأخذ من الأغنياء إلا جزءا يسيرا من أموالهم، ولم يحرم الفقراء من أموال الأغنياء حتى لا تأكل الأحقاد والضغائن نفوسهم [8].

ثانيا. المقاصد والأهداف التربوية والإيمانية والأخلاقية للزكاة: [9]

والزكاة في الإسلام - كغيرها من العبادات - لها حكم وآثار على جميع المستويات منها ما نعلمه، ومنها ما لا نعلمه، لذلك نتحدث عن أثرها في المعطي وهو الذي وجبت عليه الزكاة، وفي الآخذ، وكذلك عن أثرها في المجتمع.

1.  هدف الزكاة وأثرها في المعطي:

ليس هدف الإسلام من الزكاة جمع المال، ولا إعناء الخزانة فحسب، وليس هدفه منها مساعدة الضعفاء وذوي الحاجة وإفاقة عثرتهم فحسب، بل هدفه الأول أن يعلو بالإنسان على المادة، ويكون سيدا لا عبدا لها. ومن هنا اهتمت أهداف الزكاة بالمعطي اهتمامها بالآخذ تماما. وهنا تتميز فريضة الزكاة عن الضرائب الوضعية التي لا تكاد تنظر إلى المعطي إلا باعتباره موردا أو ممولا لخزانتها.

ولقد عبر القرآن الكريم عن هدف الزكاة بالنظر للأغنياء الذين تؤخذ منهم، فأجمل ذلك في كلمتين من عدة أحرف، ولكنها تتضمنان الكثير من أسرار الزكاة وأهدافها الكبيرة، وهاتان الكلمتان هما: التطهير، والتزكية اللتان وردت بهما الآية الكريمة: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها( (التوبة: ١٠٣) وهما يشملان كل تطهير وتزكيةـ سواء كانا ماديين أم معنويين - لروح الغني ونفسه، أو لماله وثروته، مما سنفصله في الفقرات التالية:

الزكاة تطهير من الشح:

الزكاة التي يؤديها المسلم - امتثالا لأمر الله وابتغاء مرضاته - إنما هي تطهير له من أرجاس الذنوب بعامة، ومن رجس الشح بخاصة.

ذلك الشح الذميم الذي أحضرته النفس وابتلي به الإنسان آفة خطيرة على الفرد وعلى المجتمع، إنها قد تدفع من اتصف بها إلى الدم فيسفكه، وإلى الشرف فيدوسه، وإلى الدين فيبيعه، وإلى الوطن فيخونه، قال عز وجل: )ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (16)( (التغابن)، وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالإنفاق وحذر من الشح والإمساك فقال لأسماء - رضي الله عنها -: «أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك»[10]، وقال أيضا:«إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» [11].

فالزكاة بهذا المعنى طهرة: أي تطهر صاحبها من خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله، وفرحه بإخراجه، واستبشاره بمصرفه إلى الله عز وجل.

والزكاة - كما تحقق معنى التطهير للنفس - تحقق معنى التحرير لها من ذل التعلق بالمال والخضوع له، ومن تعاسة العبودية للدينار والدرهم؛ فإن الإسلام يحرص على أن يكون المسلم عبدا لله وحده، متحررا من الخضوع لأي شيء سواه، سيدا لكل ما في هذا الكون من عناصر وأشياء.

الزكاة تدريب على الإنفاق والبذل:

مما لا خلاف فيه بين علماء التربية والأخلاق أن للعادة أثرها العميق في خلق الإنسان وسلوكه وتوجيهه؛ ولهذا قيل: العادة طبيعة ثانية، ومعنى ذلك أن للعادة من القوة والسلطان ما يقرب من الطبيعة الأولى التي ولد عليها الإنسان.

والمسلم الذي يتعود الإنفاق وإخراج زكاة ماله يصبح الإنفاق والإعطاء صفة أصيلة من صفاته، وخلقا عريقا من أخلاقه.

تخلق بأخلاق الله:

والإنسان إذا تطهر من الشح والبخل، واعتاد البذل والإنفاق ارتقى من حضيض الشح الإنساني: )وكان الإنسان قتورا (100)( (الإسراء)، واقترب من أفق الكمالات الربانية، فإن من صفات الحق - عز وجل - إفاضة الخير والرحمة والجود والإحسان دون نفع يعود عليه تعالى، والسعي في تحصيل هذه الصفات بقدر الطاقة البشرية تخلق بأخلاق الله، وذلك منتهى كمالات الإنسان.

الزكاة شكر لنعمة الله:

الاعتراف بالجميل وشكر النعمة أمر لازم، والزكاة توقظ في صاحبها معنى الشكر لله - عز وجل - والاعتراف بفضله عليه وإحسانه إليه، فإن لله عز وجل - كما يقول الإمام الغزالي - على عبده نعمة في نفسه وفي ماله، فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أحسن من ينظر إلى الفقير، وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله - عز وجل - على إعفائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله.

علاج للقلب من حب الدنيا:

والزكاة تنبيه للقلب على واجبه نحو ربه، ونحو الدار الآخرة وعلاج له من الاستغراق في حب الدنيا، وحب المال؛ فإن الاستغراق في حبه - كما قال الرازي - يذهل النفس عن حب الله، وعن التأهب للآخرة، فاقتضت حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده؛ ليصير ذلك الإخراج كسرا من شدة الميل إلى المال، ومنعا من انصراف النفس بالكلية إليه، وتنبيها لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال؛ وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله - عز وجل - فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة حب الدنيا عن القلب.

الزكاة منمية لشخصية الغني:

ومن معاني التزكية التي تحققها الزكاة أنها نماء وزيادة لشخصية الغني وكيانه المعنوي، فالإنسان الذي يسدي الخير ويصنع المعروف ويبذل من ذات نفسه ويده لينهض بإخوانه في الدين والإنسانية، وليقوم بحق الله عليه، يشعر بامتداد في نفسه وانشراح واتساع في صدره، ويحس بما يحس به من انتصر في معركة، وهو فعلا قد انتصر على ضعفه وأثرته وشيطان شحه وهواه.

فهذا هو النمو النفسي والزكاة المعنوية، ولعل هذا ما نفهمه من عبارة الآية )تطهرهم وتزكيهم( (التوبة: 103)، فعطف التزكية على التطهير يفيد هذا المعنى الذي ذكرناه؛ إذ كل كلمة في القرآن لها معناها ودلالتها.

الزكاة مجلبة للمحبة:

 والزكاة تربط بين الغني ومجتمعه برباط متين سداه ولحمته[12] المحبة والإخاء والتعاون، فإن الناس إذا علموا في الإنسان رغبته في نفعهم، وسعيه في جلب الخير لهم، ودفع الضر عنهم، أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة، على ما جاء في الأثر " جلبت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها ".

الزكاة تطهير للمال:

والزكاة - كما هي طهارة للنفس وتزكية لها - هي تطهير لمال الغني وتنميته.

فإن تعلق حق الآخرين بالمال يجعله ملوثا لا يطهر إلا بإخراجه منه، وفي مثل هذا المعنى يقول بعض السلف " الحجر المغصوب في الدار رهن بخرابها "، وكذلك الدرهم الذي استحقه الفقير في المال رهن بتلوثه كله.

بل إن مال الأمة كلها ليهدد بالنقص، وعروض الآفات السماوية التي تضر بالإنتاج العام، وتهبط بالدخل القومي، وما ذاك إلا أثر من سخط الله تعالى ونقمته على قوم لم يتكافلوا، ولم يتعاونوا ولم يحمل قويهم ضعيفهم وفي الحديث: «ما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا» [13].

الزكاة لا تطهر المال الحرام:

وإذا قلنا إن الزكاة مطهرة للمال، وسبب لنمائه ولبركته فإنما نعني بذلك المال الحلال الذي وصل إلى يد حائز من طريق مشروع، أما المال الخبيث الذي جاء عن طريق النهب أو الاختلاس أو الرشوة أو استغلال النفوذ أو الربا أو القمار، أو أي نوع من أنواع أكل أموال الناس بالباطل، فإن الزكاة لا تؤثر فيه ولا تطهره ولا تباركه، وما أبلغ ما قاله بعض الحكماء: مثل الذي يطهر المال الحرام بالصدقة كمثل الذي يغسل القاذورات بالبول!

والآيات كثيرة تدل على أن الله لا يصلح عمل المفسدين ولا يحبهم ولا يقبل منهم صرفا ولا عدلا، وفي الحديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا»[14].

الزكاة نماء للمال:

والزكاة بعد ذلك نماء للمال وبركة فيه، وربما استغرب ذلك بعض الناس، فالزكاة في الظاهر نقص من المال بإخراج بعضه، فكيف تكون نماء وزيادة؟!

ولكن العارفين يعلمون أن هذا النقص الظاهر وراءه زيادة حقيقة: زيادة في مال المجموع، وزيادة في مال الغني نفسه؛ فإن هذا الجزء القليل الذي يدفعه يعود عليه أضعافه من حيث لا يدري.

قال تعالى: )وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39)( (سبأ)، وقال تعالى: )الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا( (البقرة: ٢٦٨)، وقال تعالى: )وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون (39)( (الروم)، وقال تعالى: )يمحق الله الربا ويربي الصدقات( (البقرة: ٢٧٦).

2.  هدف الزكاة وأثرها في الآخذ:

والزكاة بالنظر لآخذها تحرير للإنسان مما يذل كرامة الإنسان، ومؤازرة عملية ونفسية في معركته الدائرة مع أحداث الحياة وتقلبات الزمان، فمن الذي يأخذ الزكاة ويستفيد منها من الأفراد؟ إنه الفقير الذي أتعبه الفقر! أو المسكين الذي أرهقته المسكنة! أو الرقيق الذي أذله الرق! أو الغارم الذي أضناه الدين! أو ابن السبيل الذي أيأسه الانقطاع عن الأهل والمال!

الزكاة تحرير لآخذها من ذي الحاجة:

إن الإسلام يريد للناس أن يحيوا حياة طيبة، ينعمون فيها بالعيش الرغد، ويغتنمون بركات السماوات والأرض، ويأكلون من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويحسون فيها بالسعادة تغمر جوانحهم، وبالأمن يعمر قلوبهم، والشعور بنعمة الله تملأ عليهم أنفسهم وحياتهم، إنه يجعل تحقيق المطالب المادية عنصرا مهما في تحقيق السعادة للإنسان.

أجل، يحب الإسلام للناس أن يسعدوا بالغنى، ويكره لهم أن يشقوا بالفقر، وتشتد كراهيته وعدوانه للفقر إذا كان ناشئا عن سوء التوزيع وتظالم المجتمع، وبغي بعضه على بعض.

وفرق ما بين نظام الإسلام والأنظمة المادية. إن الأنظمة المادية تقف عند إشباع البطن والفرج، ولا تتجاوز دائرة المنافع المادية الدنيا، فالرفاهية والسعة هي هدفها الأخير، وجنة أحلامها على الأرض، ولا جنة غيرها.

أما النظام الإسلامي فيجعل هدفه من وراء الغنى ورغد العيش أن يسمو الناس بأرواحهم إلى ربهم، وألا يشغلهم الهم في طلب الرغيف، والانشغال بمعركة الخبز عن معرفة الله وحسن الصلة به، والتطلع إلى حياة أخرى هي خير وأبقى.

إن الناس إذا توافرت لهم كفايتهم وكفاية من يعولونه استطاعوا أن يطمئنوا في حياتهم ويتجهوا بالعبادة الخاشعة إلى ربهم، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

ومن هنا فرض الله الزكاة وجعلها من دعائم دين الإسلام، تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، فيقضي بها الفقير حاجاته المادية؛ كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن، وحاجاته النفسية الحيوية؛ كالزواج الذي قرر العلماء أنه من تمام كفايته، وحاجاته المعنوية الفكرية؛ ككتب العلم لمن كان من أهله.

وبهذا يستطيع هذا الفقير أن يشارك في الحياة، ويقوم بواجبه في طاعة الله. وبهذا يشعر أنه عضو حي في جسم المجتمع، وأنه ليس شيئا ضائعا ولا كما مهملا، وإنما هو في مجتمع إنساني كريم يعنى به ويرعاه ويأخذ بيده، ويقدم له يد المساعدة، في صورة كريمة لا من فيها ولا أذى، بل يتقبلها من يد الدولة، وهو عزيز النفس، رافع الرأس، موفور الكرامة؛ لأنه إنما يأخذ حقه المعلوم، ونصيبه المقسوم.

حتى لو اضطربت الأمور في المجتمع المسلم، وقدر للأفراد أن يكونوا هم الموزعين للزكاة بأنفسهم، فإن القرآن يحذرهم من إهانة الفقير أو جرح إحساسه بما يفهم منه الاستعلاء عليه، أو الامتنان، أو أي معنى يؤذي كرامته كإنسان، وينال من عزته كمسلم. قال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا( (البقرة: ٢٦٤).

إن شعور الفقير أنه ليس ضائعا في المجتمع وأن مجتمعه يهتم به ويرعاه، كسب كبير لشخصيته، وزكاة لنفسيته، وهذا الشعور نفسه ثروة لا يستهان بها للأمة كلها.

إن رسالة الإنسان على الأرض، وكرامته على الله سبحانه، تقتضيان ألا يترك للفقر الذي ينسيه نفسه، ويذهله عن دينه ودنياه، ويعزله عن أمته ورسالتها، ويشغل عن ذلك كله بالتفكير في سد الجوعة وستر العورة، والحصول على المأوى.

الزكاة تطهير من الحسد والبغضاء:

والزكاة - لآخذها أيضا - تطهير من داء الحسد والكراهية، فالإنسان إذا عضته أنياب الفقر، ودهته داهية الحاجة، ورأي حوله من ينعمون بالخير، ويعيشون في الرغد، ولا يمدون له يدا بالعون، بل يتركونه لمخالب الفقر وأنيابه... هذا الإنسان لا يسلم قلبه من البغضاء، والضغينة على مجتمع يهمله، ولا يعنى بأمره، وتربة الشح والإنانية لا تنبت إلا الحقد والحسد لكل ذي نعمة.

والإسلام يقيم العلائق بين الناس على أساس من الأخوة الجامعة بينهم، وأصل هذه الأخوة: هو الإنسانية والعقيدة المشتركة: «وكونوا عباد الله إخوانا»[15]، «المسلم أخو المسلم». [16] ولن تقوم هذه الأخوة وتستقر إذا شبع أحد الأخوة وترك الآخرين يجوعون وهو ينظر إليهم فلا يمد لهم يدا بمعونة.

إن هذا معناه تقطيع الأواصر بين الأخوة وإيقاد نار الكراهية والحسد في صدر الفقير المحروم ضد الغني والواجد، وهذا ما يقف الإسلام دونه، ويحول دون وقوعه.

فإن الحسد والبغضاء داء فتاك وآفة قاتلة، وخسارة مدمرة للفرد والمجتمع.

الحسد خسارة على الدين؛ لأنه ينحرف بتفكير الحاسد فيسيء الفهم في قسمة الله لأرزاق عباده وقد يحمل القدر وزر التظالم الاجتماعي الواقع بين الناس؛ ولهذا قال القرآن في وصف اليهود: )أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله( (النساء: ٥٤).

والحسد والبغضاء والأحقاد آفات تنخر في كيان الفرد الروحي والجسمي، وفي كيان الجماعة المادي والمعنوي. فالفرد الذي يغزو قلبه الحسد، وتحتله الضغينة والكراهية، لن يكون إنسانا كامل الإيمان؛ لأن القلب لا يتسع لإيمان بالله وحقد على عباد الله.

والحسد والكراهية داء جثماني كما هو داء نفسي أيضا، إنه يؤدي إلى الإصابة بأمراض وبيلة كقرحة المعدة وضغط الدم. والحسد والكراهية يضران بإنتاج المجتمع واقتصاده، فالحاسد الكاره إنسان مصاب بضعف الإنتاج إن لم يكن بعقمه. إنه بدل أن يعمل وينتج يفرغ طاقته في الكراهية والبغضاء والحسد، فلا عجب أن سمى نبي الإسلام هذه الآفات (داء الأمم) وحذر النبي أمته من أن تدب إليهم دبيب العقارب والحشرات السامة فقال: «دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء. والبغضاء هي الحالقة. أما إني لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» [17].

لم يحارب الإسلام هذه الآفات النفسية الاجتماعية الخطيرة بالوعظ المجرد، والإرشاد النظري فحسب، ولكنه عمل على اقتلاع أسبابها من الحياة، واستئصال جذورها من المجتمع، فليس يكفي الجائع أو المحروم أو العريان أن تلقي عليه درسا بليغا في خطر الحقد والحسد، وكل لحظته في حياته التعسة البائسة وحياة الطاعمين الناعمين المترفين من حوله تلقنه درووسا عملية أخرى: كيف يحسد؟ وكيف يحقد؟ وكيف يبغض؟ وكيف يغلي قلبه كراهية وغيظا ونقمة؟

ومن أجل ذلك فرض الإسلام الزكاة لييسر للعاطل العمل، ويضمن للعاجز العيش، ويقضي عن الغارم الدين، ويحمل ابن السبيل إلى أهله ووطنه، فيشعر الناس أنهم أخوة بعضهم أولياء بعض، وأن مال الآخرين مال لهم عند الضرورة والحاجة، ويحس الفرد أن قوة أخيه قوة له إذا ضعف، وغنى أخيه مدد له إذا عسر. وفي هذا الجو النقي يمتد إليه ظل الإيمان بما يتتبعه من حب وإيثار «لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [18].

3.  أهدف الزكاة وآثارها في حياة المجتمع:

إن الجانب الاجتماعي من أهداف الزكاة ظاهر لا ريب فيه، ويكفي أن ننظر إلي مصارف الزكاة نظرة سريعة؛ لتتضح لنا هذه الحقيقة وضوح الصبح لذي عينين.

إذا قرأنا آية التوبة: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله( (التوبة:٦٠) تبين لنا أن من هذه الأهداف ما له صبغة دينية سياسية؛ لأنه يتصل بالإسلام بوصفه دينا ودولة، وذلك ما يشير إليه سهما "المؤلفة قلوبهم" و "في سبيل الله".

إن هذين المصرفين يقتضيان أن تكون لهذا الدين جماعة ودولة، تجمع الزكوات من أربابها بواسطة "العاملين عليها"، ثم تنفق منها على نشر دعوته وإعلاء كلمته، والدفاع عن حوزته؛ وذلك بتأليف القلوب عليه ودعوة الشعوب إليه، فإنها دعوة إلى سبيل الله.

ونبين فيما يأتي علاقة الزكاة بالمقومات الروحية والأخلاقية للمجتمع المسلم وللأمة المسلمة.

الزكاة والضمان الاجتماعي:

ومن هذه الأهداف ما له صبغة اجتماعية؛ كمساعدة ذوي الحاجات والأخذ بأيدي الضعفاء من فقراء ومساكين وغارمين وأبناء سبيل؛ فإن مساعدة هؤلاء تؤثر فيهم بوصفهم أفرادا، وتؤثر في المجتمع كله باعتباره كيانا متماسكا، والحق أن الحدود بين الفرد والمجتمع متداخلة، بل المجتمع ليس إلا مجموعة أفراد، فكل ما يقوي شخصية الفرد وينمي مواهبه وطاقاته المادية والمعنوية هو - من غير شك - تقوية للمجتمع وترقية له. وكل ما يؤثر في المجتمع بصفة عامة يؤثر في أفراده، شعروا بذلك أم لم يشعروا.

فلا عجب أن نعد تشغيل العاطل ومساعدة العاجز ومعونة المحتاج؛ كالفقير والمسكين، والرقيق، والمدين، أهدافا اجتماعية؛ لما تؤدي إليه من تماسك المجتمع وتكافله، وهي في الوقت نفسه أهداف فردية بالنظر لهؤلاء الآخذين للزكاة.

إن الزكاة جزء من نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام، ذلك التكافل الذي لم يعرفه الغرب إلا في دائرة ضيقة، هي دائرة التكافل المعيشي، وذلك بمساعدة الفئات العاجزة والفقيرة، وعرفه الإسلام في دائرة أعمق وأفسح، بحيث يشمل جوانب الحياة المادية والمعنوية، فهناك التكافل الأدبي، والتكافل العلمي، والتكافل السياسي، والتكافل الدفاعي، والتكافل الجنائي، والتكافل الأخلاقي، والتكافل الاقتصادي، والتكافل الحضاري، وأخيرا التكافل المعيشي. وهو الذي خصص اليوم خطأ باسم "التكافل الاجتماعي".

التكافل الاجتماعي إذن نظام أشمل وأوسع كثيرا من الزكاة؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها، ونواحي الارتباطات البشرية جميعا، والزكاة خط واحد من هذه الخطوط، وهي تشمل ما يسمى الآن " بالتأمين الاجتماعي " و " الضمان الاجتماعي " مجتمعين، والفرق بين التأمين والضمان أن كل فرد في التأمين يؤدي قسطا من دخله نظير تأمينه عند عجزه الدائم أو المؤقت. أما في الضمان، فالدولة هي التي تقوم بها من ميزانيتها العامة بدون أن يشترك أفراد المجتمع بأداء قسط معين.

وإن كثيرا ممن يؤدون الزكاة في عام، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة؛ بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم، أو حلول كوارث جعلتهم يستدينون على أنفسهم وعيالهم، أو انقطاعهم عن وطنهم ومالهم، أو نحو ذلك.

فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي. وهناك آخرون لم يكونوا ممن وجبت عليهم الزكاة من قبل، ولم يساهم بشيء في حصيلة الزكاة، ولكنه يستحقها لفقره وحاجاته، فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي.

غير أن الزكاة في الواقع أقرب منها إلى التأمين؛ لأنها لا تعطي الفرد بمقدار ما دفع كما هو الشأن في نظام التامين، وإنما تعطية بمقدار ما يحتاج إليه، قل ذلك أم كثر.

إن الزكاة بذلك تعد أول تشريع منظم في سبيل ضمان اجتماعي لا يعتمد على الصدقات الفردية التطوعية. بل يقوم على مساعدات حكومية دورية منتظمة، مساعدات غايتها تحقيق الكفاية لكل محتاج: الكفاية في المطعم والملبس والمسكن وسائر الحاجات لنفس الشخص ولمن يعوله في غير إسراف ولا تقتير.

ولقد سدت الزكاة كل ما يتصور من أنواع الحاجات الناشئة عن العجز الفردي أو الخلل الاجتماعي، أو الظروف العارضة التي لا يسلم من تأثيرها بشر. ونحن نقرأ فيما كتبه الإمام الزهري لعمر بن عبد العزيز عن مواضع السنة في الزكاة: أن فيها نصيبا للزمني والمقعدين، ونصيبا لكل مسكين به عاهة لا يستطيع عيلة ولا تقلبا في الأرض، ونصيبا للمساكين الذين يسألون ويستطعمون حتى يأخذوا كفايتهم ولا يحتاجون بعدها إلى السؤال، ونصيبا لمن في السجون من أهل الإسلام، ممن ليس له أحد، ونصيبا لمن يحضر المساجد من المساكين الذين ليس لهم رواتب ولا معاشات منتظمة.

الزكاة والتوجيه الاقتصادي:

وللزكاة أثرها في الجانب الاقتصادي. فإنها بما تستقطعه من أرباب المال تدفعهم إلى العمل على تعويض ما أخذ منهم.

وهذا أوضح ما يكون في زكاة النقود، فقد حرم الإسلام كنزها، وحبسها عن التداول والتثمير، وجاء في ذلك وعيد الله عز وجل: )والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)( (التوبة).

ولم يكتف بهذا الوعيد الهادر الشديد، بل أعلن حربا عملية على الكنز، ووضع الخطة الحكيمة لإخراج النقود من الشقوق والخزائن؛ وذلك حين فرض 2. 5% على الثروة النقدية، سواء استغلها صاحبها أم لم يستغلها. فالزكاة بذلك سوط يسوقه سوقا إلى إخراج النقود لتعمل وتغل وتكسب وتنمى، حتى لا يأتي عليها مرور الأعوام.

الزكاة والمقومات الروحية للأمة:

وفوق ذلك كله، فإن للزكاة أهدافها وآثارها في تحقيق المثل العليا التي تعيش لها الأمة المسلمة، وتعيش بها، وفي رعاية مقوماتها الروحية التي يقوم عليها بناؤها، ويبني كيانها، وتتميز شخصيتها.

"والأمة - كما يقول الأستاذ البهي الخولي - بمقوماتها الروحية، لا بمقوماتها الحسية فحسب؛ بل إن المقومات الحسية لا قيمة لها في بناء الأمة، ودعم كيانها بدون المقومات الروحية؛ لذا نرى الإسلام يحفل بها، ويجعل الإنفاق من مال الجماعة على رعايتها ودعمها فريضة لازمة، فهي للكيان المعنوي كالشراب والطعام للكيان الحسي. وقد أصل الإسلام تلك المقومات الروحية في ثلاثة أصول - أشارت إليها آية مصارف الزكاة - هي:

الأول: توفير الحرية لكافة أفراد المجتمع. ولكنه في هذا المقام ينص على فرضية فك الرقاب، أي تحرير الأرقاء من ذل العبودبة. وذلك أول ما عرفت الإنسانية قاطبة من سمو التشريع في تحرير الأرقاء: أن يجعل تحريرهم فريضة على المسلمين بسهم من أموالهم مقرر. وقد جاء هذا الحق في آية الزكاة في قوله عز وجل: )وفي الرقاب( (التوبة:٦٠).

والثاني: بعث همم الأفراد ومواهب المروءة فيهم إلى بذل المكرمات التي تحقق للمجتمع منافع أدبية أو حسية، أو ترد عنه مكروها يوشك أن يقع، ذلك أن في الأفراد طاقات لا حد لها في حب الخير، والاستعداد لمختلف الخدمات الاجتماعية، وهي كمواهب العقل، لم يخلقها الله سدى، بل خلقها لتحقق ذاتها، وتؤدي وظيفتها في الحياة، فإن كان من الواجب تشجيع طاقات الذهن واستثارة كامنها، لتؤدي وظيفتها في الحياة فإن تشجيع مواهب المروءة الفطرية في الأفراد، أحق وأولى، لا لثمارها وما تبدع من مثل كريمة في الحياة فحسب، بل لأنها أيضا هي السبيل الذي يعد لنا الرجال ذوي القيم، ويخرج للأمة ثروتها الأساسية من النفوس السامية الكريمة فإنه ليس أفضل من فعل الخير إلا النفس التي فعلته، والنية التي بعثته. والأمة التي تعنى بهذا الطراز، تعنى بأسباب القوة ودعامات المجد كله، وكفاها شرفا وأهلية للحياة ما تشيع من عزائم الخير، ومواجيد الحب، بل كفاها برا بالحق، وبالحياة وبنفسها، أنها تستخرج من مناجم النفوس والفطر أثمن كنوزها، وأشرف معادنها، وتهب للحياة أشرف معانيها، وترقى بالإنسانية إلى أكرم قيمها. وذلك هو المثل الأعلى الذي أراده الله للإنسانية والحياة.

والثالث: رعاية العقائد والتعاليم التي نزلت لتزكية مبادئ الفطرة في الإنسان، وبخاصة إحكام الصلة بالله، وتبصير الفرد بغايته من الحياة، وبطوره الأخروي الذي هو صائر إليه ولا بد بحكم تطوره في مراحل الأزل، وهو ما جاء في قوله - عز وجل - في الآية نفسها: )وفي سبيل الله( (التوبة: ٦٠).

"ومما أدخلوه في مفهوم قوله: )وفي سبيل الله( نفقات الغزو والدفاع، أي: إعداد الجيوش والدفاع والجهاد في الإسلام إنما هو - أصلا - دفاع عن العقيدة، وجهاد في سبيلها، وليس أمرا مدنيا بحتا، ولا جهادا وطنيا صرفا مقطوع الصلة بالله، بل هو - أولا وقبل كل شيء - جهاد في سبيل الله. وأخص ما كان في سبيل الله هو ما كان في صيانة العقيدة والدفاع عنها والتمكين لها، وامتداد سلطانها".

وبرعاية هذه الأصول الثلاثة تكون الزكاة قد قامت بدورها في تثبيت القيم العليا، والمقومات المعنوية الأصيلة التي يحرص عليها المجتمع المسلم، بل يقوم عليها كيانه.

وبهذا يتحقق التكامل والتساند في الحياة الإسلامية، وفي كافة النظم الإسلامية.

فالزكاة - وإن كانت نظاما ماليا في الظاهر - لا تنفصل عن العقيدة ولا عن العبادة، ولا عن القيم والأخلاق، ولا عن السياسة والجهاد، ولا عن مشكلات الفرد والمجتمع، والحياة والأحياء.

ثالثا. حقيقة تأليف القلوب وأهدافها النبيلة:

والمؤلفة قلوبهم: هم الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام أو التثبيت عليه، أو بكف شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم، أو نصرهم على عدو لهم، أو نحو ذلك.

دلالة هذا المصرف:

وهذا المصرف - أيضا - يدلنا بوضوح على ما أكدناه في غير موضع من أن الزكاة في الإسلام ليست إحسانا شخصيا، ولا عبادة مجردة موكولة إلى الأفراد.

فإن هذا الصنف من مصارف الزكاة ليس مما يوكل إلى الأفراد في العادة الغالبة، إنما هو من شأن رئيس الدولة أو من ينيبه عنه، أو أهل الحل والعقد في الأمة.

فهؤلاء هم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها، وتحديد صفات من يؤلفون ومدى ما يبذل لهم وفق مصلحة الإسلام وحاجة المسلمين.

والمؤلفة قلوبهم أقسام ما بين كفار ومسلمين:

·   فمنهم من يرجى بعطيته إسلامه أو إسلام قومه وعشيرته؛ كصفوان بن أمية الذي وهب النبي - صلى الله عليه وسلم - له الأمان يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر؛ لينظر في أمره بطلبه، وكان غائبا فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل أن يسلم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين، وقد أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إبلا كثيرة محملة كانت في واد، فقال: هذا عطاء من لا يخشى الفقر. وروي عنه أنه قال: «والله، لقد أعطاني النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه لأبغض الناس إلى، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلى». [19] وقد أسلم وحسن إسلامه.

ومن هذا القسم ما رواه أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله: فأمر له بشاء كثيرة بين جبلين من شاء الصدقة. قال فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» [20].

·   ومنهم من يخشى شره، ويرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه؛ كما جاء عن ابن عباس أن قوما كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أعطاهم من الصدقات مدحوا الإسلام، وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا [21].

·   ومنهم من دخل حديثا في الإسلام، فيعطى إعانة له على الثبات على الإسلام. سئل الزهري عن "المؤلفة قلوبهم"، فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني. قيل: وإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا. وكذلك قال الحسن: هم الذين يدخلون في الإسلام. وذلك أن الداخل حديثا في الإسلام قد هجر دينه القديم، وضحى بما له عند أبويه وأسرته، وكثيرا ما يحارب من عشيرته، ويهدد في رزقه، ولا شك أن هذا الذي باع نفسه وترك دنياه لله تعالى جدير بالتشجيع والتثبيت والمعونة.

·   ومنهم قوم من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم، واستشهدوا له بإعطاء أبي بكر - رضي الله عنه - لعدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، مع حسن إسلامهما لمكانتهما في أقوامهما.

·   ومنهم زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم تثبيتهم، وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره؛ كالذين أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.

·   ومنهم قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.

·   ومنهم قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم إلا أن يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين، وأرجح المصلحتين، وهذا سبب جزئي قاصر، فمثله ما يشبهه من المصالح العامة.

وكل هذه الأنواع تدخل تحت عموم لفظ "المؤلفة قلوبهم" سواء أكانوا كفارا أم مسلمين [22].

وبهذا البيان يتضح أن قضية مصارف الزكاة - وخصوصا للمؤلفة قلوبهم - لا يمكن ربطها بمبدأ الإغراء، فالإسلام لا يشتري قلوب الناس، ولا ينفق الأموال ليربي منافقين، ولكن يؤلف قلب الكافر لنصرة الدين الإسلامي، ولمصلحة المسلمين، فأين الإغراء في هذا؟

ورأينا عمر بن الخطاب أوقف سهم المؤلفة قلوبهم ومنعه في عهد خلافة أبي بكر، ولم يخالفه أحد من الصحابة بل وافقوه على ذلك.

وقد كانت هناك ظروف اقتضت تخصيص سهم للمؤلفة قلوبهم في عصر الرسالة، لكن بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانتشار الإسلام، وبعد أن مر المسلمون بتجربة حرب الردة التي انتهت بهزيمة المرتدين واستسلامهم، وأوضحت بجلاء حاسم أن القوة الإسلامية هي الغالبة، وصاحبة الصوت العالي المسموع في كل مكان، أصبح الإسلام قويا عزيزا، لا يحتاج إلى بذل الأموال لتأليف القلوب، وبذلك لا يوجد مؤلفة حتى يعطيهم عمر أو يمنعهم.

إن الغاية من هذا التشريع الذي قام به عمر هو إعزاز المسلمين، وإن إعطاء الأموال للمؤلفة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان وسيلة لهذه الغاية، وبعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكثرة المسلمين أصبح عدم إعطائهم هو الذي يؤدي إلى إعزاز المسلمين؛ لأن إعطاءهم في حالة الكثرة منع إذلال للمسلمين؛ وإظهار لهم بمظهر الضعف والقلة، فهو يؤدي إلى عكس ما كان يؤدي إليه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاختلاف ظروف المسلمين.

ولما كانت غاية التشريع هي المقصودة منه في الحقيقة؛ فلذلك لا يعطون في حالة عزة المسلمين، وهذه نظرة صائبة إلى غاية التشريع وحكمته [23].

لو كان التأليف إغراء ما أخذ المسلمون من اليهود والنصارى الجزية!

ويتساءل العقلاء: هل دين همه أن يغري الناس بالدخول فيه يفرض جزية على من لا يسلم؟! فهلا ترك المطالبة بالجزية ليؤلف قلوبهم للدخول فيه؟! وهل دين يقاتل غنيا لمنعه الزكاة يغري فقيرا لاعتناقه؟ فهلا ترك القتال لإغراء الناس بالدخول فيه؟ وهل دين يجعل من مصارف الزكاة إعتاق الرقاب للعبيد الضعفاء الذين لا يملكون موردا للحرية، يخطط ليغري الأغنياء المترفين بالمال؟!

في الحقيقة فهمهم الخاطئ جعلهم يقلدون المسلمين تقليدا خاطئا في تأليف القلوب لاعتناق المسيحية، وأصبح نشر المسيحية عندهم لا يتم إلا بين أهل الحاجة للمال، أو الإغاثة فتراهم قد تركوا أهل العلم والعلماء، حيث لا يمكنهم إقناع ذوي العقل بهذا الدين، فاتجهوا يخدمون الاستعمار سواء في إفريقيا السوداء، أو شمال إفريقيا، أو في باقي دول العالم الفقيرة.

وقد أجمع المسلمون على أن الجزية تسقط عمن أسلم.

والجزية تطلب من غير المسلمين لحكمة أرادها الله، وهي إنقاذهم من الكفر، وهي تفرض نظير حماية المسلمين لأهل الكتاب وانتفاعهم بالمرافق العامة مع المسلمين. ومن ثم، فلو كان الهدف من التأليف الذي ابتغاه المسلمون إغراء غير المسلمين للدخول في الإسلام، لكان الأولى بالمسلمين إغراء أهل الكتاب بترك الجزية، وهذا لم يحدث.

رابعا. هل إقبال الناس على الإسلام في العصر الحديث عن قناعة أم أن المسلمين يتألفون قلوبهم بالمال؟!

والسؤال المطروح الآن: كيف انتشر الإسلام في جنوب شرق آسيا وبلاد الهند؟ هل كان بالإغراء أم كان بالمعاملة الحسنة وحسن مقاصد الإسلام؟! وماذا عن إقبال الناس في العصر الحديث، وخاصة في أوربا، وأمريكا على الإسلام، فهل دفع المسلمون لهم مالا؛ لتأليف قلوبهم؟!

إن أسس انتشار الإسلام متوافرة فيه؛ ومنها:

·       متانة أصوله التي تخاطب العقل، وتجعله فيصلا في المحاكمة في القبول أو الرفض.

·       بلاغة القول وحسن البيان مع الحوار بالتي هي أحسن.

·       شعور الناس أن خطاب القرآن الكريم موجه إليهم مهما كانت قوميتهم.

يقول بسمارك - وهو من مشاهير السياسيين الألمان -: "إني تدبرت وتأملت ودققت في الكتب السماوية المنزلة من "اللاهوت"، فما وجدت الحكمة التي تؤمن السعادة للبشرية إلا في القرآن المحمدي، نعم دققت من كل جهة، ومن كل نقطة فوجدت في كل كلمة منه حكمة عظيمة، ومن يدعي أن هذا القرآن من قريحة محمد فقد أغمض العين عن الحقائق، وإني أدعي أن حضرة محمد قدوة ممتازة".

وفي مطلع القرن العشرين حضر الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية إلى إسطنبول، وسأل الشيخ المطيعي بديع الزمان سعيد النورسي، ما رأيك في الحرية الموجودة الآن في الدولة العثمانية؟ وماذا تقول في مدنية أوربا؟ فأجابه بديع الزمان النورسي: إن الدولة العثمانية حبلى حاليا بجنين أوربا وستلد يوما ما، أما أوربا فهي - أيضا - حبلى بجنين الإسلام وستلد يوما ما، ومن هذا الحوار نتوقع أن الإسلام سوف ينتشر في أوربا، والعالم بأسره، وأنه هو الدواء للبشرية وطوق النجاة لها[24]؛ إيمانا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر - أي الدين - ما بلغ الليل والنهار» [25]. ونتساءل: هل يفيق المسلمون من سباتهم لحمل هذا العبء، وهذه المسئولية العظمى، وخصوصا العلماء والمفكرين؛ ليقدموا لهذه البشرية الحائرة التائهة الحلول الإسلامية لمشكلاتها المعاصرة؟!

وهل ينتظر عاقل بزوغ فجر الإسلام من الغرب وهو متقاعس متواكل، فالمولى - عز وجل - ناصر دينه بنا أو بغيرنا: )وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38)( (محمد)، فلنتسابق؛ ليكون لنا شرف النصرة التي وعد الله بها. وإن كانت حقيقة الأمر - في النهاية - أنه لا يخلو عصر من العصور - تقريبا - من الحاجة للتأليف، حتى في حال قوة المسلمين، ولهذا فالضرورة تقدر بقدرها.

وقد عبر عن هذه المعاني السابقة مجتمعة، وعن الحكمة من فرض سهم في مصارف الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وضرورة استمرارية هذا المصرف ما دعت الحاجة لذلك، د. القرضاوي إذ قال تحت عنوان "الحاجة إلى تأليف القلوب لم تنقطع": "وأما قولهم إن الحاجة إلى تأليف القلوب قد زالت بانتشار الإسلام وغلبته وظهوره على الأديان الأخرى، فهذه الدعوى مردودة؛ لأسباب ثلاثة:

ما قاله بعض المالكية: إن العلة في إعطاء المؤلف من الزكاة ليست إعانته لنا، حتى يسقط ذلك بفشو الإصلاح وغلبته، بل المقصود من دفعها إليه ترغيبه في الإسلام؛ لأجل إنقاذ مهجته من النار.

فهو يرى في هذا البقاء وسيلة من وسائل الدعوة قد تجدي عند بعض الناس، وتقربهم من الإسلام وتنقذهم من الكفر، وواجب المسلمين ألا يدخروا وسيلة تعينهم على هداية البشر وإنقاذهم من ظلمات الجاهلية في الدنيا، ومن عذاب النار في الآخرة. وقد يدخل الرجل الإسلام للدنيا، ثم يحسن إسلامه بعد ذلك.

قال أنس رضي الله عنه: «إن كان رجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» [26].

وهذا إذا مشينا على أن المؤلف كافر يعطى؛ ليرغب في الإسلام، وليس كل مؤلف كذلك، فمن المؤلفة من يدخل في الإسلام ويترك دينه القديم، فيتعرض للاضطهاد والحرمان والمصادرة من أسرته وأهل دينه، فمثل هذا يعطى تشجيعا وتأييدا؛ حتى يتمكن من الإسلام وترسخ قدمه فيه.

إن هذه الدعوى مبنية على ما قال قوم: إن التأليف لا يكون إلا عند ضعف الإسلام وأهله، واشترط آخرون أن يكون المؤلف فقيرا محتاجا. وكل هذا تقييد للنصوص المطلقة بلا حجة، ومخالفة لحكمة الشرع بلا مبرر. وفي عصرنا نرى أقوى الدول هي التي تتألف الدول الصغيرة والشعوب محدودة الطاقات؛ كما ترى في معونة الولايات المتحدة لدول أوربا، وبعض دول الشرق النامية. وما أحسن ما قاله الإمام الطبري في ذلك: "إن الله جعل الصدقة في حقيقتين: إحداهما: سد خلة المسلمين، والأخرى: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغني والفقير؛ لأنه لا يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين؛ وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيا كان أم فقيرا؛ للغزو لا لسد خلة، وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك، وإن كانوا أغنياء؛ استصلاحا بإعطائهم أمر الإسلام، وطلب تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام، وعز أهله، فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد؛ لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى منهم في الحال التي وصفت.

إن الحال قد تغيرت، وأدارت الدنيا ظهرها للمسلمين، فلم يعودوا سادة العالم كما كانوا، بل عاد الإسلام غريبا كما بدأ، وتداعت على أهله الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وقذف الله في قلوبهم الوهن، ولله عاقبة الأمور، فإن كان الضعف هو العلة التي تبيح تأليف القلوب، وإعطاء المؤلفة من الزكاة، فقد وقع، وجاز الإعطاء كما قال ابن العربي وغيره" [27].

وتحت عنوان "من له حق التأليف والصرف إلى المؤلفة"، يقول: "ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء هم الذين يتولون ذلك. وهذا هو الموافق لطبائع الأمور. فإن هذا مما يتصل عادة بسياسة الدولة الداخلية والخارجية وما تمليه عليها مصلحة الدين والأمة، وعند إهمال الحكومات لأمر الزكاة، وأمر الإسلام عامة - كما في عصرنا - فإنه يمكن للجمعيات الإسلامية أن تقوم مقام الحكومات في هذا الشأن.

وإذا لم يوجد حكومة ولا جماعة، وكان لدى الفرد المسلم فضل من زكاته، فهل له أن يتألف به كافرا؟

الرأي عندى أنه لا يجوز له ذلك إلا إذا لم يجد مصرفا آخر، كبعض المسلمين الذين يعيشون في غير دار الإسلام، ولا يجدون من يستحق الزكاة من المسلمين، ولكن رأوا من الكفار من إذا أعطوه استمالوا قلبه للإسلام ولموالاة المسلمين، فلا بأس بإعطائه من الزكاة في هذه الحال للضرورة، مع أن الأولى في مثل هذه الظروف رصد الزكاة لنشر الإسلام إذا لم يمكن إرسالها إلى بلاد الإسلام" [28].

وإجابة عن سؤال: أين يصرف سهم المؤلفة في عصرنا؟ يقول: "وإذا كان حكم المؤلفة قلوبهم وإعطاؤهم من الزكاة باقيا محكما لم يلحقه نسخ، ولا إلغاء، فكيف نصرف هذا السهم المخصص لهم في عصرنا؟ وأين نصرفه؟

إن الجواب عن هذا واضح مما ذكرناه من بيان الهدف الذي قصده الشارع من وراء هذا السهم. وهو استمالة القلوب إلى الإسلام، أو تثبيتها عليه، أو تقوية الضعفاء فيه، أو كسب أنصار له، أو كف شر عن دعوته ودولته.

وقد يكون ذلك بإعطاء مساعدات لبعض الحكومات غير المسلمة؛ لتقف في صف المسلمين، أو معونة بعض الهيئات والجمعيات والقبائل؛ ترغيبا لها في الإسلام، أو مساندة أهله، أو تجنيد بعض الأقلام والألسنة للدفاع عن الإسلام، وقضايا أمته بالحق ضد المفترين عليه، فكثيرا ما يوجد من يقف على الحياد ويريد الدفاع عن الإسلام من غير المسلمين، ولكن تنقصهم المعونة والتمويل، بل إنهم دائما يضطهدون بسبب أرائهم الجريئة، بل حتى المحايدة.

كما أن الذين يدخلون في دين الله أفواجا كل عام لا يجدون من حكومات البلاد الإسلامية أي معاونة أو تشجيع، والواجب أن يعطوا من هذا السهم ما يشد أزرهم ويسند ظهرهم؛ كما جاء عن الإمام الزهري والحسن البصري.

بيد أننا وللأسف نجد هذه الصورة واضحة اقتبسها غير المسلمين وراحوا يطبقونها على من يعتنق ديانتهم، ففي المسيحية تقوم الإرساليات التبشيرية[29] باحتضان كل من يعتنق المسيحية، وإمداده بكافة المساعدات المادية والأدبية، ولا عجب؛ فإن هذه الجمعيات التبشيرية المسيحية تمولها وتمدها مؤسسات ودول بعشرات الملايين كل عام، وليس في دينهم ما في ديننا من زكاة مفروضة يصرف جزء منها على تأليف القلوب وتثبيتها على الإسلام.

إن الإسلام بما فيه من وضوح وأصالة وملاءمة للفطرة السليمة، والعقل الرشيد ينشر نفسه بنفسه في كثير من الأقطار، ولكن الذين يعتنقون الإسلام لا يجدون من الرعاية المادية والتوجيهية ما يمكنهم من التبصر في هذا الدين والانتفاع بهداه، ويعوضهم عن بعض ما قدموه من تضحيات، وما لقوه من اضطهاد من عشائرهم أو حكوماتهم.

وكثير من الجمعيات الإسلامية في بلدان شتى تحاول أن تسد هذه الثغرة، ولكنها لا تجد المدد اللازم، والعون الكافي.

إن قارة كإفريقيا يدور فيها صراع سياسي ومذهبي رهيب، حيث تتنافس شتى القوى لكسب حكوماتها وشعوبها وزعمائها، فالتبشير الاستعماري، أو الاستعمار التبشيري من ناحية، والتسلل الصهيوني الإسرائيلي من ناحية ثانية، والتغلغل الشيوعي الماركسي من ناحية ثالثة، كل يريد أن يصبغ القارة بصبغته أو يضمها إلى جانبه.

والإسلام لا يجوز أن يقف مكتوف اليدين إزاء هذا التدخل، أو التسلل، أو التغلغل، إذا أراد أن تكون له دولة تتبنى رسالته وتنشر دعوته وتقيم شريعته في الأرض.

لقد كان الإسلام في موقف الهجوم، فأصبح اليوم في موقف الدفاع، فهو ينتقص من أطرافه، ويغزى في عقر داره، لهذا كان من أولى الناس بالتأليف في زماننا - كما نبه السيد رشيد رضا - رحمه الله - قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم، أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين، وفي ردهم عن دينهم يخصصون من أموال دولهم سهما للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفونه؛ لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه؛ لأجل الدخول في حمايتهم، ومشاقة الدول الإسلامية، أو الوحدة الإسلامية. أوليس المسلمون أولى بهذا منهم؟!

وبعد هذا كله فلسنا نحتم أن يكون كل ما يرصد لتأليف القلوب من الزكاة وحدها، فإن في موارد بيت المال الأخرى متسعا للإسهام في هذا الشأن أو الاستقلال به، وخاصة إذا كان المستحقون للزكاة من الأصناف الأخرى أشد حاجة، وأوفر عددا، فهنا يعمل بما جاء عن الشافعي وغيره، وهو إعطاء المؤلفة من سهم المصالح، ومرد ذلك إلى رأي ولي الأمر العادل، وتقدير أهل الرأي، ومشورة أهل الشورى في الأمة" [30].

الخلاصة:

·   الزكاة لغة: النماء والزيادة، والطهارة، والصلاح. واصطلاحا: هي اسم لما يخرجه الإنسان من حق الله في المال إلى مستحقيه، وهي أداء حق يجب في أموال مخصوصة على وجه مخصوص، ويعتبر في وجوبه الحول والنصاب. والدليل على مشروعية الزكاة قوله عز وجل: )وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (البقرة: ٤٣). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ، حينما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم»[31]. وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوب الزكاة، واتفق الصحابة على قتال مانعيها.

·   شرعت الزكاة لتسود روح المحبة والمعرفة بين أفراد المجتمع، وليتعاونوا ويتكاملوا؛ لمعالجة داء الشح والبخل عند الأغنياء، وتطهير النفس البشرية من رذيلة الطمع والشره والحسد والبغض عند الفقراء، ولمساعدة الفقراء والبؤساء والمحرومين، ولتطهير المال وتنميته وزيادته ووقايته من الآفات، ولتعليم المسلم العفة وعزة النفس، ولتعويد المسلم على أن يتخلق بأخلاق الكرم والجود والبذل والتضحية وحب الآخرين والإحساس بهم والسؤال عنهم والنهوض لنجدتهم.

·   الفهم الصحيح لتأليف القلوب وأهدافه النبيلة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنعه بعد انتشار الإسلام وظهور المسلمين كقوة عظمى، ومن ثم فلا حاجة إلى تأليف القلوب. هذا الفهم السليم يزيل هذه الشبهة ويدحضها، ويوضح دواعي الفرض والمنح والمنع؛ لذلك أوقف عمر بن الخطاب هذا المصرف لعدم وجود المؤلفة قلوبهم.

·       لو كان التأليف إغراء ما أخذ المسلمون الجزية من اليهود والنصارى، ولكان الأولى لإغرائهم ترك الجزية.

·   إقبال الناس على الإسلام في العصر الحديث، وخصوصا في بلاد الغرب عن قناعة وحب، وليس عن تأليف القلوب بالمال؛ لأن المسلمين لم يدفعوا مالا للذين يؤمنون به ليلا ونهارا.

·   لا يخلو الأمر - واقعيا - في أي عصر من العصور - تقريبا - من الحاجة إلى التأليف، حتى في حال قوة الإسلام، ولهذا فالضرورة تقدر بقدرها.

 

 



(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. موقع زكريا بطرس.

[1]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: زكا.

[2]. فقه السنة، السيد سابق، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، ج1، ص387، 388.

[3]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، مصر، 1426هـ / 2005م، ج1، ص456.

[4]. فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/1986م، ج1، ص66.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (8)، وفي موضع آخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (122)، واللفظ للبخاري.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1331)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (132).

[7]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق على جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، ط1 ، 1426هـ/ 2005م، ج1، ص415، 416 بتصرف.

[8]. الزكاة: فلسفتها وأحكامها، د. علي محمد العماري، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، ط2، 1414هـ، ص40، 41.

[9]. انظر: فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/1986م، ج2، ص856: 887.

[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الهبة وفضلها، باب هبة المرأة لغير زوجها (2451)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (2423).

[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنه (6792)، وأبو داود في سننه، كتاب الزكاة، باب في الشح (1700)، وصححه الألباني في ابي داود (1489).

[12]. سداه ولحمته: أساسه وجوهره.

[13]. صحيح: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 197) برقم (3315)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2187).

[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب (2393).

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (5717)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس (6701).

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (2310)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (6743).

[17]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند الزبير بن العوام رضي الله عنه (1430)، والترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2510)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2888).

[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه (13)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه من الخير (179).

[19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند القبائل، حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه (27679)، والترمذي في سننه، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (666)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[20]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا قط فقال: لا (6160).

[21]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (14/ 313)، تفسير سورة التوبة (آية 60) برقم (16845).

[22]. فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/1986م، ج2، ص596.

[23]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424 هـ/ 2003م، ص152، 153.

[24]. الإسلام نهر يبحث عن مجرى، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1417هـ/ 1996م، ص138 وما بعدها.

[25]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث تميم الداري رضي الله عنه (16998)، والحاكم في مستدركه، كتاب الفتن والملاحم (8326)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3).

[26]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا قط فقال: لا (6161).

[27]. فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/1986م، ج2، ص606: 608.

[28]. فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/1986م، ج2، ص608.

[29]. التبشير: مصدر الفعل بشر، ويراد به الدعوة إلى المسيحية في مناطق جديدة من العالم، وقد بدأت هذه الدعوة 1492م مع اكتشاف أمريكا.

[30]. فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط16، 1406هـ/1986م، ج2، ص604: 611.

[31]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1331)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (132).

read why women cheat on men want my wife to cheat
click read dating site for married people
signs of a cheater why married men cheat on their wives website
husbands who cheat open my boyfriend cheated on me with a guy
my husband cheated click here open
reasons wives cheat on their husbands what is infidelity why do men have affairs
online redirect read here
go using viagra on females how long for viagra to work
generic viagra softabs po box delivery viagra 50 mg buy viagra generic
where to order viagra online buy viagra free shipping viagra sipari verme
dating a married woman cheat on my wife i cheated on my husband
dating a married woman cheat on my wife i cheated on my husband
read the unfaithful husband click here
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق
نص التعليق
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  13482
إجمالي عدد الزوار
  36583906

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع