مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

الزعم أن التدين سببه خوف الإنسان من التقلبات الطبيعية وفقر الحال (*)

مضمون الشبهة:

يخطئ بعض المغالطين في توصيف مفهوم التدين، ويزعمون أنه ظاهرة ناتجة عن خوف الإنسان من تقلبات الطبيعة، ومن كوارثها، وأنه يرتبط بفقر الحال والانغلاق الفكري والفراغ الاجتماعي؛ لذلك تجد أكثر المتدينين من الفقراء والمنكوبين والمضطرين والمنغلقين وذوي الحاجات والمرض، كما يظنون أن هذه الظاهرة - التدين - سرعان ما تزول بزوال سببها.

وجوه إبطال الشبهة:

1) التدين ليس شيئا عارضا على النفس البشرية، أو مرتبطا بطارئ يزول بزواله، بل هو ضارب في أعماق النفس البشرية؛ لأنه الفطرة السوية التي فطر الله - عز وجل - الناس عليها!

2) الظواهر الطبيعية خلق من خلق الله، والعلم بخلق الله يهدي للإيمان به، ويقود للتدليل على وجوده وطلاقة قدرته.

3)  ثمرة الإيمان بالله في حياة الإنسان في سكينة نفسه، وغذاء روحه.

4) ليس ثمة أدنى ارتباط بين التدين وبين ما اصطلحوا على تسميته بـ "فقر الحال" و "الانغلاق الفكري" و "الفراغ الاجتماعي". وإن هناك ظواهر مستقاة من التاريخ والعقل والواقع المعيشي تؤكد ذلك.

التفصيل:

أولا. أصالة التدين في النفس الإنسانية:

لقد ثبت أن التدين لا تخلو منه أمة من الأمم في جميع أطوارها، سواء في انحطاطها أو تقدمها، أو خوفها أو أمنها، مما يدل على أن التدين ليس شيئا عارضا على النفس مرتبطا بحالة طارئة يزول بزوالها، بل هو ضارب بجذوره في أعماق النفس البشرية، وقد أوحى الله - عز وجل - إلى الأنبياء أن فطرة الناس السوية هي التي تسير إلى التدين سيرا مستقيما.

والفطرة السليمة تقر بوجود الله - عز وجل - من غير دليل، وتوحده بدافع فطري فيها، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)( (الروم)، إلا أن الانحراف بهذه الفطرة وصل اليوم بالبشرية إلى أدنى الدرجات، ومن أجل ذلك، لا بد للإنسان أن يراجع نفسه حتى يجدها، فإن كانت في دروب الضلال، فعليه العودة، وإن كانت في دروب الصواب فعليه العزيمة.

الإسلام موافق لفطرة الإنسان:

الفطرة: ما فطر الله - عز وجل - عليه الخلق من المعرفة به، وقيل: الخلقة التي خلق عليها المولود في بطن أمه، وبه فسر قوله سبحانه وتعالى: )فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله( (الروم: 30)، وفي رواية لأبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»[1]؟

والإسلام علم على هذا الدين الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - قال سبحاته وتعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3)، وقال سبحانه وتعالى: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه( (آل عمران: 85). والدين يشتمل على عقائد وتشريعات عملية، فهل الفطرة هي مجموع ما يشتمل عليه الدين أو بعضه؟

ذهب جمع من المفسرين إلى قصر الفطرة على عقيدة الإسلام، وهي التوحيد، وذهب آخرون إلى أن الفطرة مراد بها مجموع شريعة الإسلام، قال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيأة التي في نفس الإنسان التي هي مهيئة لأن يعرف بها الله تعالى، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه، وقال صاحب "الكشاف": والمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام.

ومن هذا نعلم أن مراد الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)( (الروم)، هو دين الإسلام بمجموعه في اعتقاده وتشريعاته، وأن هذا الدين هو الفطرة. هذا والفطرة ما فطر الله عليه الإنسان ظاهرا أو باطنا، فمشي الإنسان على رجليه فطرة ظاهرية جسدية، ومحاولة مشيه على يديه خلاف الفطرة، واستنتاج المسببات من أسبابها، والنتائج من مقدماتها فطرة باطنية عقلية، ومحاولة استنتاج الشيء من غير سببه خلاف الفطرة العقلية، والجزم بأن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقلية، وإنكار قوم ثبوت ذلك خلاف الفطرة العقلية، فوصف الإسلام بالفطرة لا يقصد به أنه الفطرة الظاهرية الجسدية؛ لأن الإسلام عقائد وتشريعات، وكلها مدركة بالعقل، وإنما المقصود أنه الفطرة الباطنية العقلية.

وعليه فيتعين أن المراد بالفطرة الموصوف بها الدين هي الفطرة الإنسانية، أي الانفعالات الحاصلة لنفوس البشر في حالة سلامة النفوس من التعاليم الباطلة والعادات السيئة، وهي أساس النظم التي أقيمت عليها الحضارة الأولى في البشر من توخى الصلاح، ودرء الفساد، وإصابة الحق، سواء أكان حصولها بالإلهام المودع في الخلقة المشار إليها في مثل قوله سبحانه وتعالى: )قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي( (المائدة: 31)، أم كان حصولها بواسطة تلقين الوحي الإلهي.

ومما نود التنبيه إليه أن وصف الإسلام بالفطرة ليس معناه أن تعاليم الإسلام لا تشتمل إلا على ما هو بالفطرة، أو ما تشهد الفطرة بصدقه، بل المقصود أن الأصول التي جاء بها الإسلام لا تتعارض مع الفطرة، وتتبعها تفريعات هي من المقبولة لدى الفطرة، فالعادات الصالحة الموروثة في البشر مثلا هي من المقبولة لدى الفطرة وليست من الفطرة.

ومعنى وصف الإسلام في الآية الكريمة بالفطرة أنه جار على ما فطر عليه البشر عقلا، فهذا هو المقصود بالفطرة، فلأجل تلبسه بدلائل الفطرة أطلق عليه لفظ الفطرة كأنه هو الفطرة نفسها كما يقال فلان عدل، والحكمة في جعل دين الإسلام الفطرة أنه لما أراد الله تعالى أن يجعله عاما لكل البشر، ناسب أن يجعله سائغا لنفوسهم جميعا، لتكون الجامعة العامة للبشر مشتقة من الوصف العظيـم المشتـرك بينهـم، وهـو وصـف الفطـرة؛ لأن شعـوب البشـر - وهم على ما نعلم - مختلفون في العادات وفي الأخلاق وفي التعاليم، ولا يمكن جمعهم عمليا في جامعة واحدة ما لم يكن عمودها وقاعدتها شيئا مرتكزا في سائر النفوس، وقدرا مشتركا بينهم لا يتخلف ولا يختلف.

ومنه نعلم أن وصف الفطرة للدين مما اختص به الإسلام، فلم يوصف دين من الأديان السالفة بأنه الفطرة، كما لم يوصف أحدها بأنه عام، ولا بأنه دائم. ومن قضايا الفطرة ما هو بديهي، أي واضح لأدنى عقل سليم، ومنها ما هو خفي عن المدركات، ومنها ما تضاءل في النفوس لما غشيها من سلطان الأهواء النفسية والعادات الذميمة.

ومن هنا كانت الفطرة محتاجة إلى تنبيه، ولا يكون ذلك إلا من معصوم عن الخطأ في تعريف قضايا، ومواقع دلالتها، وهو التنبيه المتلقى من الوحي الإلهي ليعصم الفطرة من الميل عن سواء السبيل.

ففي قوله سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله( (الروم: 30) تنبيه للعلماء في فهم الشريعة والتفقه فيها، وفي تنفيذها وسياسة الأمة بها، فعليهم أن يسايروا هذا الوصف الجامع، ويجعلوه رائدهم في إجراء الأحكام.

طريقة القرآن في هداية النفس البشرية وردها عن شتى الضلالات:

يشير الأستاذ محمد قطب إلى ذلك بقوله: إذا تدبرنا القرآن الكريم - وبخاصة الآيات التي تتناول موضوع العقيدة - نجد أنه يستخدم وسائل شتى وأساليب متنوعة لتوضيح العقيدة السليمة، وتصحيح الانحرافات التي يقع فيها الناس حين تستولي عليهم الجاهلية، وتبعدهم عن الهدي الرباني، ثم لتثبيت هذه العقيدة وتعميق أثرها في النفس. من هذه الوسائل:

1.   إثارة الوجدان لتدبر آيات الله في الكون، وإزالة التبلد الذي يقع في حس الإنسان من المشاهدة المكررة، وذلك يشمل الحديث عن الكون بضخامته الهائلة، ودقته المعجزة، وظاهرة الموت والحياة، وإجراء الرزق، وإجراء الأحداث، وقدرة الله التي لا تحد، وعلم الله الشامل للغيب، كل ذلك بطريقة فذة تجعل الإنسان يستقبل هذه الأمور كلها، كأنه يراها ويلاحظها لأول مرة، فينفعل بها وجدانه، ويستيقظ لحقيقة الألوهية.

2. إثارة العقل ليتفكر في خلق الله ويدرك أن لهذا الكون خالقا، وأنه لا يمكن أن يكون له شريك في الخلق، ولا في الرزق ولا في تدبير الأمر، وهذا يشمل كل الإشارات السابقة ولكن بطريق آخر غير إثارة الوجدان والانفعال، هو طريق التفكير والتدبر المنطقي. وإن كان يلاحظ أن الطريقتين كثيرا ما تقترنان معا في آيات كثيرة من آيات القرآن، فيخاطب الوجدان ويخاطب العقل في آن واحد.

3.   مواجهة الإنسان بحقيقة ما يدور في داخل نفسه وقت الشدة من اللجوء إلى الله - عز وجل - ونسيان الشركاء، ومن الغفلة والنسيان والبغي في الأرض بغير الحق بمجرد زوال الأزمة ونجاته من الخطر. وهي حقيقة كثيرا ما ينساها الإنسان فيذكره القرآن بها؛ ليصحح سلوكه تجاه الله، ويستقيم على العقيدة السليمة.

4.   مناقشة الانحرافات التي يقع فيها الجاهلون تارة بالدليل العقلي وتارة بالدليل الوجداني، ودحضها وبيان تفاهتها وعدم قيامها على أي أساس صحيح. ونلاحظ هنا كذلك أنه كثيرا ما يقترن الدليل العقلي بالدليل الوجداني في مناقشة الانحرافات.

5.   التذكير الدائم بقدرة الله التي لا تحد، وعظمته وجلاله حتى يخشع القلب ويستسلم لله.

6.   التذكير الدائم بأن الله مع الإنسان يراه ويراقبه ثم يحاسبه يوم القيامة على ما عمل من خير أو شر، وإشعار الإنسان بعلم الله الشامل الذي لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يخفى عليه من عمل الإنسان شيء حتى السر وما هو أخفى من السر.

7.   التذكير الدائم بالله سبحانه وتعالى في حالتي السراء والضراء، ففيالسراء ينبغي على الإنسان أن يذكر الوهاب المنعم فيشكره. وفي الضراء يصبر لقضاء الله ويتوجه إليه ليكشف عنه الضر.

8.   إيراد القصص التي تثبت الإيمان، بذكر الأنبياء وصبرهم على الأذى ونصر الله لهم في النهاية، والكفار وعنادهم وتدمير الله لهم في النهاية.

رسم الصور المحببة للمؤمنين وصفاتهم، وما ينالهم من جزاء، والصور الكريهة المنفرة للكافرين وما ينالهم من عقاب[2].

 هذه بعض طرق الإسلام في توضيح العقيدة وتصحيح انحرافاتها؛ إذ العقيدة هي الأصل والأساس الذي تبنى عليه الشريعة، ومن ثم فلها مجموعة من الأصول التي تعتمد عليها، أولها الإيمان بالله، وهذا الإيمان يستوجب الاعتراف بوجود الله عز وجل بناء على مجموعة من الأدلة النقلية وغيرها يسوقها إلينا د. شوكت عليان، مذكرا بأن الأدلة على وجوده - سبحانه وتعالى - والتي تدعو إلى الإيمان به كثيرة؛ منها:

1.  الدليل النقلي:

ورد في القرآن الكريم كثير من النصوص التي تتحدث عن الله تعالى، وعن وجوده وعن وحدانيته وعن صفاته، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97) وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98) وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99)( (الأنعام). وقوله سبحانه وتعالى: )الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2) وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3)( (الأنعام). وقوله سبحانه وتعالى: )الله لا إله إلا هو الحي القيوم( (البقرة: 255)، وقوله سبحانه وتعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص). وقوله عز وجل: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190)( (آل عمران)، أي: إن في ذلك لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدانيته وكمال علمه وقدرته.

ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية تبين أن مناط الاستدلال هو التغير، فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها.

2.  الدليل العقلي:

إن أكبر دليل على وجود الله تعالى هو مخلوقاته، وأوثق ما علمنا من حقائق الطبيعة يدعونا إلى الإيمان بأنه لا ريب أن لهذا الكون إلها واحدا.

إن وجود الكون، وهذا النظام العجيب الذي اشتمل عليه، وأسراره الدقيقة - لا يمكن تفسير ذلك كله إلا بأنه من صنعة خالق لا حدود له، فالعالم حادث وكل حادث لا بد له من محدث، ومحدث هذا الكون الله عز وجل.

ذلك لأننا إذا آمنا بوجود هذا الكون فلا بد أن نؤمن بإله لهذا الكون إذ لا معنى لأن نؤمن بالمخلوق، ونرفض وجود خالقه؟! ونحن لا نعلم شيئا جاء إلى الوجود من العدم، دون أن يخلق فكيف بنا نؤمن بأن كونا عظيما مثل كوننا جاء إلى الوجود ذاتيا دون خالق؟!

3.  دليل العناية:

وهذا يظهر في العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله، فجميع الموجودات موافقة لوجود الإنسان، ثم إن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق، والموافقة تحصل باعتبار موافقة الليل والنهار، والشمس والقمر لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الزمان والمكان الذي هو فيه أيضا، والحيوان والنبات والجماد والأمطار والأنهار والبحار والنار والهواء، وما إلى ذلك، وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء الإنسان، وأعضاء الحيوان، أي كونها موافقة لحياته ووجوده.

ومن آيات الله في هذا المجال قوله سبحانه وتعالى: )تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61)( (الفرقان). وقوله سبحانه وتعالى: )ألم نجعل الأرض مهادا (6) والجبال أوتادا (7) وخلقناكــم أزواجـا (8) وجعلنـا نومكـم سباتـا (9) وجعلنا الليل لباسا (10) وجعلنا النهار معاشا (11) وبنينا فوقكم سبعا شدادا (12) وجعلنا سراجا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا (14) لنخرج به حبا ونباتا (15)( (النبأ). وقوله سبحانه وتعالى: )فلينظر الإنسان إلى طعامه (24) أنا صببنا الماء صبا (25) ثم شققنا الأرض شقا (26) فأنبتنا فيها حبا (27) وعنبا وقضبا (28) وزيتونا ونخلا (29) وحدائق غلبا (30) وفاكهة وأبا (31) متاعا لكم ولأنعامكم (32)( (عبس). وقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )أفلا ينظـرون إلى الإبل كيـف خلقـت (17)( (الغاشية).

4.  دليل الاختراع:

 وهو ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، كاختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقلية، ويدخل فيه وجود الحيوان كله، ووجود النبات، ووجود السماوات؛ وذلك أن هذه الموجودات مخترعة، فإنا نرى أجساما جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا أن هناك موجدا لهذه الحياة، وهو الله تعالى، وأما السماوات فنعلم من قبل حركتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة. قال سبحانه وتعالى: )إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له( (الحج: 73).

إن كل مخترع له مخترع، فعلى من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء؛ ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات؛ لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع. قال سبحانه وتعالى: )أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء( (الأعراف: 185)، )فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق).

إن التفسير الحقيقي لهذا النظام هو أن نؤمن بقدرة خارقة وقوة جبارة، وعظمة إلهية بسطت يديها فسيرت الكون على هذا النحو العجيب، فالنظام، والقصد، والانسجام، والحكمة الظاهرة في الطبيعة ومظاهرها المختلفة المتنوعة طرق ظاهرة لإثبات وجود الله عز وجل.

هكذا، لم ينطلق الإنسان المسلم في تدينه من خوفه من التقلبات الطبيعية، ولكنه انطلق من استجابته لنداء الفطرة البشرية، ومن تصديقه للأدلة التي تثبت وجوده - عز وجل - وقدرته[3].

ثانيا. الظواهر الطبيعية من خلق الله، والعلم بها يهدي للإيمان به والتدليل عليه:

نجد في القرآن الكريم العديد من الآيات الكونية، نقرأ منها على سبيل المثال قوله سبحانه وتعالى: )هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجـوم مسخـرات بأمـره إن في ذلك لآيـات لقـوم يعقلـون (12) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (13) وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون (16) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18)( (النحل).

ففي هذه الآيات عرض لبعض آيات الله في الكون بطريقة تزيل عن الحس تبلده إزاء المشهد المكرر، بأن يلفت هذا الإنسان صاحب الحس المتبلد إلى جوانب إما أنه نسيها، وإما أنه لم يلتفت إليها أصلا. فحين يدركها أو يتذكرها تصبح المشاهد جديدة في حسه، وينظر إليها برؤية جديدة غير التي كان يراها بها من قبل، فينفعل بها وجدانه وتتحرك لها عواطفه.

فالإنسان ذو الحس المتبلد قد يرى الماء النازل من السماء فلا يتذكر أن هذا المطر هو الذي يتحول إلى عيون وينابيع وآبار وأنهار يشرب منها. أو هو من الجانب الآخر قد يشرب الماء الذي يجده أمامه ميسرا، وينسى أن هذا الماء لم يوجد في الأرض من تلقاء نفسه، بل أنزله الله في صورة مطر، وهو لا ينزل إلا بقدر، وبحسب القوانين والسنن التي أودعها الله - عز وجل - في الكون، فأجرى بها السحاب وأنزل منه الماء.

فالنص القرآني يوقظه إلى هاتين الحقيقتين في آن واحد: )هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب( (النحل: 10)، كما يلفته أيضا إلى الشجر النابت من هذا الماء، فلا يعد المطر النازل من السماء ظاهرة مكررة مألوفة منقطعة في حسه عن الله - عز وجل - الذي أنزله من السماء، إنما تصبح موصولة بقدرة الله، فتحيا في النفس وتؤثر فيها، بربطها بالله المنعم الوهاب.

ويستمر السياق يعرض أنواعا من النبات الذي أشارت إليه الآية السابقة، فيذكر الزرع بعمومه، والزيتون والنخيل والأعناب: )ومن كل الثمرات( (النحل: 11).

وهذه الطريقة في ذكر بعض الأنواع بالتفصيل، والإشارة العامة إلى بقيتها تجعل الخيال يتحرك لتقصي ما لم يذكر بتفصيله، بعد تتبع المذكور منه بالفعل! وهكذا يشترك الخيال مع الوجدان في تصور المشهد، ويعطي له حيوية جديدة فلا يعود هو المشهد المكرر المألوف الذي تبلد عليه الحس!

ثم يشير السياق إلى الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، وكلها مشاهد مألوفة مما يتبلد عليه الحس بالتكرار، ولكن السياق يذكر أمرا جديدا يغير وضعها في النفس، ويجعلها كأنها تعرض لأول مرة، ذلك هو قوله سبحانه وتعالى: )وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره( (النحل: 12)، فالليل، والنهار، والشمس، والقمر، والنجوم، لم تعد تلك الظواهر الكونية المعتادة التي ألفها الحس ففقدت دلالتها في النفس، إنما هي كائنات مسخرة بأمر الله، ولا شك أن هذا المعنى قد غير صورتها تماما عن الصورة المعهودة التي تبدو فيها هذه الظواهر وهذه الأجرام السماوية كأنها قائمة بذاتها، مستقلة عن أي شيء بحركتها! كلا! إنها تقوم بعمل معين؛ تقوم بتكليف رباني كلفها الله إياه، وإذن فحركتها الدائبة ليست حركة آلية كما يتصورها الحس المتبلد، إنما هي حركة حية ذات غاية وهدف، وكل جزء من هذه الحركة في ليل أو نهار هو قيام بجزء من التكليف الذي يبلغ غايته يوم يغير الله نظام هذا الكون كله في اليوم الموعود. وذلك فضلا عن التذكير بنعمة الله في قوله سبحانه وتعالى: )وسخر لكم الليل والنهار( (النحل: 12)، والملحوظ أن جو السورة كلها هو جو تذكير الإنسان بنعمة الله عليه، لكي يتحرك وجدانه لشكر أنعم الله، بالتوجه إليه وحده دون سواه.

ثم يخطو السياق خطوة أخرى بلفت الحس إلى اختلاف الألوان فيما خلقه الله على ظهر الأرض من كائنات )وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه( (النحل:13)، ونلحظ هنا كذلك نوعا آخر من إثارة الخيال لتتبع المشهد، فالآية تقول: )وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه(؛ وذلك أن "ما" بدون تخصيص شيء بعينه، نباتا كان أو حيوانا أو غيره. تجعل الخيال يتتبع كل ما ذرأ الله في الأرض من الأشياء مختلفة الألوان، فتصبح هذه الأشياء حية في الوجدان، وتتخذ صورة أخرى غير ما كانت عليه في عهد التبلد والنسيان.

ثم يقول الله سبحانه وتعالى: )وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14)( (النحل).

هل يمكن أن يمر الإنسان بالبحر بعد قراءة هذه الآية دون أن يتحرك وجدانه؟

إن البحر هنا كله حركة وحياة، مرتبط بحس الإنسان بصلات قوية، فمنه يستخرج اللحم الطري ليأكل، والحلية ليتزين بها، وفيه تمخر الفلك لتنقل البضائع والأرزاق، إنه ليس ماء وأمواجا فحسب، إنه عالم كامل مليء بالحركة والنشاط، وكله من فضل الله، أفلا نشكر الله على فضله؟

 ثم يذكر السياق من المشاهد الكونية الجبال والأنهار، والطرق، والعلامات، والنجوم بالأسلوب نفسه الذي يلفت إليها الحس، ويحرك الخيال، ويذكر في كل مرة بأنها نعمة من نعم الله على الإنسان.

وبعد هذا العرض الحي لتلك المشاهد، التي تخرج الحس من تبلده، يعود - عز وجل - فيستعرض الأشياء كأنها جديدة عليه، وينفعل بها ويتحرك معها - بعد هذا العرض كله يعقب بالحقيقة الكبرى التي يريد أن ينبه الإنسان إليها: )أفمن يخلق كمن لا يخلق( (النحل: 17) ويجيء السؤال بعد إثارة الوجدان بآيات الله في الكون على هذا النحو، فيتلقى إجابته من داخل النفس مؤكدة لا لبس فيها، لا يا رب! ليس الذي يخلق كالذي لا يخلق! سبحانك أنت الخلاق العظيم.

ويختم السياق بما يزيد الوجدان إثارة ويزيد النفس ارتباطا بالله: )وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم (18)( (النحل).

ونخلص من هذا كله إلى أن الآيات الكونية والظواهر الطبيعية في الكون من حولنا - إن هي إلا عالم من العوالم التي خلقها الله عز وجل وإن كان ثمة علاقة بين هذا العالم وبين ظاهرة التدين - فإن هذه العلاقة لا تتمثل - كما ادعى من أثار هذه الشبه - في أن المتدين - أي متدين - يلتزم بتدينه لخالقه ورازقه ومدبر أمره؛ خوفا منه من تقلبات الطبيعة وكوارثها؛ من زلازل وبراكين... إلخ، وإذا كان ذلك كذلك فلم لم يعبد هذه الظواهر الطبيعية، وتوجه بالعبادة إلى مسببها؟!

إن العلاقة بين تلك الظواهر وهذه الآيات وبين تدين الإنسان تتمثل في أنها تمثل دليلا قويا على وجوده تعالى، وقدرته، وتجعل الإنسان يقف في تدينه على أرض صلبة، لا تهوي به.

ثالثا. أثر الإيمان في حياة الإنسان في سكينة نفسه وغذاء روحه:

"المؤمن يرى أن النجاة والفلاح لا يكونان إلا بتزكية النفس والعمل الصالح، وهو على درجة كبيرة وقوة عظيمة من العزم، والإقدام، والصبر، والثبات، والتوكل مع الشجاعة والجرأة؛ لأن الذي يوهن عزمه حبه للنفس والمال، والأهل، واعتقاده بأن هناك غير الله من يستطيع تحقيق ضروراته، وأنه قادر على أن يدرأ عن نفسه الموت بحيلة ما.

فالإيمان بالله تعالى يرفع قدر الإنسان، وينشئ فيه الترفع، والقناعة، والاستغناء، ويطهر قلبه من الطمع، ومن كل الصفات الذميمة، ومن خاف الله تعالى حق الخوف وأحبه حق المحبة عظم قدره عنده عز وجل، فالخوف من لوازم الإيمان وموجباته. وإنما يقدر الإنسان ربه حق قدره بالعلم والمعرفة، وذلك حاصل من تلاوة كتابه الكريم، وفهمه له وتدبر آياته، ومعرفة أحكامه، وأغراضه، وكذا النظر في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما أودع الله تعالى فيهما من الأسرار.

وفي الإيمان بالله تعالى ثبات واستقرار للنفس على طاعة الله وعبادته وحده، فالاستقامة تقتضي الصبر على طاعة الله تعالى، والدوام عليها دون انقطاع بدافع من كسل أو غرض، وتعني الانتهاء عن معاصي الله تعالى دون انقطاع بدافع من هوى أو غرض، والصبر على قضاء الله تعالى والرضا به على الدوام دون انقطاع بدافع من خوف أو جزع، فالاستقامة هي التي تدفع المؤمن ليجعل همه في الحياة واحدا هو رضوان الله تعالى، فالأمر عنده سيان رضي الناس عنه أم سخطوا، فيكفيه الله تعالى هم الدنيا والآخرة، ويجعل قلوب الصالحين تتجه إلى حبه.

والإيمان بالله يجعل الإنسان متقيدا بقانونه - عز وجل - عليه، فهو إن خلا بنفسه ليلا، أو نهارا يعلم أن عليه رقيبا يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة اقترفها، فتراه يسارع إلى التوبة، كما قال سبحانه وتعالى: )والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135)( (آل عمران)، ويسارع كذلك إلى فعل الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فوازعه النفسي يحضه على الخير، وينهاه عن كل نقيصة ورذيلة[4].

وعليه يمكن ذكر جوهر الإيمان وآثاره في النقاط الآتية:

·       الإيمان هو التصديق الثابت القوي بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر، وهو يثمر الأعمال الصالحة.

·       يقوم إيمان المؤمن بالله على الأدلة القاطعة والبراهين القوية، والمؤمن متحرر من كل عبودية لغير الله، وهو يهتدي بهدى خالقه الحق الذي ينجيه من جحيم الاختلافات البشرية.

·       يزيد الإيمان بالملائكة في خشية المؤمنين لله واحترامهم لمخلوقاته، كما يسكب الأنس في قلب المؤمن، وينبه فيه مشاعر الخوف من اقتراف المعاصي، والمسارعة في عمل الصالحات.

من الجهالة عدم الانتفاع بإرشادات الصانع، كما أن من الجهالة الكبرى عدم الانتفاع بكتاب الخالق - سبحانه وتعالى - الذي قد حفظ من كل تبديل أو تحريف.

أرسل الله الرسل ليعلموا الناس كيف يتبعون هدى الله عز وجل وإذا قارنا بين نتائج دعوات الرسل ودعوات غيرهم، وجدنا الإصلاح النبوي شاملا لكل جوانب الحياة، عميقا ينبع من داخل النفس. ويقوم إيماننا بالرسل على الدليل والبرهان.

·       المؤمن يعرف الحكمة من خلقه ودوره في الأرض والعمل الذي يرضى ربه، ويتجنب ما يغضب خالقه، وهو على علم بالمصير الذي ينتظره بعد موته، وهو عارف بخالقه وبرسوله الذي أرسله إليه، أما الكافر فتلفه دياجير الظلام والجهل بكل ما سبق.

·       الإيمان باليوم الآخر يدفع إلى عمل الصالحات، وإلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وإخلاص العمل لوجه الله، فترى المؤمن مصدرا لأعمال الخير والصلاح، والمجتمع الذي يؤلفه الأفراد المؤمنون هو أسعد المجتمعات وأفضلها وأتقاها.

·       يبعث الإيمان بالقدر - في نفس المؤمن - الرضا، والراحة، والاطمئنان.

·       الكفر هو التغطية للحق، والكافر لا يؤمن بخالقه، رغم ظهور آياته في الأرض والسماء، ولا يؤمن برسل ربه رغم ظهور حججهم، وبراهين صدقهم، وتراه عابدا لإنسان، أو وثن، ومطيعا لطاغية، أو دجال دون دليل أو برهان.

·       على الرغم من أن الكافر لم يخلق لنفسه نعمة من النعم، فهو يجحد فضل المنعم عليه، ويستعين بنعم خالقه على ارتكاب معاصيه؛ لذلك فهو يسبح في ظلمات من الجهل بالحكمة من خلقه ومصيره الذي ينتظره والعمل الذي ينجيه.

·       تعلم الحضارة الكافرة الناس كيف يعيشون فقط، ولكنها لا تدري لماذا يعيش الناس؟

·       حياة الكافر كحياة سبع ضار لا يعرف حلالا أو حراما، همه تحقيق مصالحه ولذائذه قبل أن يدركه الموت، ولا يبالي أن يهلك الحرث والنسل في سبيل تحقيق أهدافه، ومن هذه الصورة السيئة للإنسان يتكون المجتمع الكافر.

·       يغمر القلق والاضطراب حياة الكافر، وتراه مقيدا بسلاسل من العبودية لوهم، أو طاغية، أو دجال، أو هوى.

يجزي الله المؤمنين رضاه والجنة، ويعاقب الكافرين بغضبه والنار، أعاذنا الله من ذلك[5].

رابعا. ليس ثمة أدنى ترابط بين التدين وبين ما اصطلحوا على تسمية بـ "فقر الحال" و"الانغلاق الفكري" و"الفراغ الاجتماعي":

ليس صعبا على كل ذي لب أن يدرك أن مثيري هذه الشبهة قد ربطوا بين شيئين لا علاقة بينهما؛ وذلك حينما عقدوا علاقة بين ظاهرة تدين المرء، وبين ما اصطلحوا على تسميته بـ "فقر الحال" و "الانغلاق الفكري" و "الفراغ الاجتماعي"، ومن ثم راحوا يرتبون على هذه العلاقة نتيجة مؤداها أن أكثر المتدينين من الفقراء والمنكوبين والمنغلقين وذوي الحاجات والمرض.

وإن المرء ليعجب من جرأة هؤلاء الذين تصدوا لمسلمات العقل ورموا بها عرض الحائط؛ وذلك أن هذه المسلمات تنص على أنه لا سبيل لعقد علاقة السببب بالمسبب بين شيئين لا رابط بينهما، ولا أدنى ملابسة.

لقد ادعى هؤلاء أن المتدين يصدر في تدينه عن رغبة منه في أن يرقى بمستواه الاجتماعي والاقتصادي والفكري، لا عن استجابة لما هو ضارب في أعماق نفسه البشرية من تدين لخالقه ورازقه. وقد رتبوا على ذلك نتيجة مؤداها أن هذا المتدين سرعان ما يترك تدينه ويلقى به جانبا، وذلك حينما تتحول أحواله الاجتماعية والاقتصادية والفكرية إلى أضدادها.

وإن التاريخ والواقع المعيشي كليهما كفيلان بأن يردا هذا الادعاء ويدفعاه دفعا. وفيما نأتي نذكر مقتطفات من وقائع التاريخ والواقع المعيشي تؤكد ما نحن بصدده:

·       فالتاريخ يخبرنا أن دينا من الأديان التي أقامت حضارة من الحضارات العظيمة قبل الإسلام - لم يخل أبناؤه من ظاهرة التدين، فهل يعقل أن يوصف أبناء هذه الحضارة أو تلك بأنهم فقراء ومنغلقون فكريا وذوو فراغ اجتماعي.

إن تاريخ الإسلام - وهو الدين المرضي عند الله - عز وجل - يقول سبحانه وتعالى: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: ١٩) - من لدن بعثة النبي - عليه السلام - منذ خمسة عشر قرنا حتى وقتنا الحاضر - يشهد بأن ثمة أناسا يستحيل حصر عددهم دخلوا الإسلام عن اقتناع كامل منهم بأنه الدين الحق وأن النجاة في اتباع تعاليمه، والتاريخ نفسه يشهد كذلك بأن كثيرا من هؤلاء كانوا قبل اعتناق الإسلام من وجهاء بيئتهم وأثريائها، مما يجعل التدين لديهم ليس عن رغبة منهم في أن يرقوا بمستواهم الاجتماعي والاقتصادي والفكري.

وإن تاريخ الصحابة الكرام - رضي الله عنه - الناصع كفيل بأن يؤكد ما نسعى إلى تأكيده وليس ببعيد عنا المكانة الاجتماعية التي كان عليها كبار الصحابة قبل إسلامهم، من أمثال: أبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عقان رضي الله عنه.

·       فإذا ما أتينا إلى العصر الحديث وجدنا أن ثمة أكثر من مستشرق دخل الإسلام رغبة فيه، وذلك حينما سلمت فطرته من الحقد والتعصب، فهل يصح أن يوسم هؤلاء بأنهم صاروا بعد تدينهم وإسلامهم فقراء وذوي انغلاق فكري وفراغ اجتماعي؟!

·       إن تدين المرء يزيده عزة، ومكانته تكمن في أنه استجابة لنداء فطرته النقية التي سلمت من الأدواء والأدران.

·   إن أدعياء التصوف في عصرنا الحديث الذين فهموا الزهد والتدين فهما خاطئا، فتركوا أمور معاشهم ونسوا نصيبهم من الدنيا، وزعموا أنهم زهاد متدينون، وقد اتخذوا من الثياب المتهرئة البالية ملبسا وكساء، فأصبحوا عالة على غيرهم، أقول: إن هؤلاء لا يعبرون عن الإسلام ولا عن التصوف الصحيح القائمة أصوله على هدي هذا الدين، وذلك أنهم ضلوا الطريق، فتواكلوا ولم يتوكلوا على رازقهم عز وجل، ولم يفهموا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا»[6] فهما صحيحا.

 الخلاصة:

·       إن التدين ليس شيئا عارضا على النفس، أو مرتبطا بحالة طارئة يزول بزوالها، بل هو ضارب بجذوره في أعماق النفس البشرية، وقد أوحى الله - عز وجل - إلى الأنبياء أن فطرة الناس السوية هي التي تسير إلى التدين سيرا سويا مستقيما.

·       إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله - عز وجل - ويدل على قدرته وعظمته، وعندما يقوم العلماء بتحليل ظواهر الكون، ودراستها، فإنهم يتلمسون فيها نعم الله، وعظمته وقدرته، فالعلم يدعو إلى الإيمان بالله وحده، والجهل يجعل الإنسان يتخبط في الظلمات، وكما قال سبحانه وتعالى: )قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب (9)( (الزمر(.

·       إن العلاقة بين التدين وبين الظواهر الطبيعية تتمثل في أنها تمثل دليلا قويا على وجوده - عز وجل - وقدرته وتجعل الإنسان يقف في تدينه على أرض صلبة لا تهوي به، ولا تتمثل في أن المرء يتمسك بالتدين خوفا من تقلبات الطبيعة وكوارثها.

·       ثمرة الإيمان بالله - عز وجل - في حياة الإنسان تكمن في السكينة والسعادة وغذاء الروح، فالمؤمن ــ كما ذكر ابن القيم الجوزية ــ يرى النجاة والفلاح لا يكونان إلا بتزكية النفس والعمل الصالح، وهو على درجة كبيرة وقوة عظيمة من العزم والصبر والتوكل مع الشجاعة والجرأة، فالإيمان بالله عز وجل يرفع قدر الإنسان، وينشئ فيه الترفع، والقناعة والاستغناء، ويطهر قلبه من الطمع، ومن كل الصفات الذميمة، ومن خاف الله - عز وجل - حق الخوف وأحبه حق المحبة عظم قدره عند الله.

·       ليس هناك علاقة تجمع بين التدين، وبين ما سموه "فقر الحال" و "الانغلاق الفكري" و "الفراغ الاجتماعي"، وإن الأدلة على ذلك كثيرة منها: إخبار التاريخ أن شعوب الحضارات السابقة على الإسلام لم يخل أبناؤها من التدين، وأن تاريخ الصحابة الكرام يؤكد على بلوغهم الغاية العظمى من المجد والإنسانية والثقافة التعاملية،ويؤكد ذلك دخول كثير من المستشرقين الإسلام في هذه الأيام عن رغبة واقتناع وذلك حينما سمت فطرتهم، كما أن التدين يزيد المرء عزة ومكانة وذلك يكمن في استجابته لنداء فطرته.

 



(*) من معالم الإسلام، محمد فريد وجدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000م. الأديان في القرآن، د. محمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة، ط3، د. ت. الدين، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط2، 1390هـ.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ (1292)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى "كل مولود يولد على الفطرة"، وحكم موت أطفال الكفار (6926).

[2]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص20 وما بعدها.

[3]. الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، د. شوكت عليان، دار الشواف، الرياض، ط2، 1416هـ/1996م، ص131 وما بعدها.

[4]. انظر: الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، د. شوكت عليان، دار الشواف، الرياض، ط2، 1416هـ/1996م ، ص134: 136.

[5]. توحيد الخالق والإعجاز العلمي في القرآن الكريم، عبد المجيد عزيز الزنداني، دار السلام، القاهرة، ط5، 1427هـ/ 2006م، ص18، 19.

[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (205)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (4164)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (310).

redirect redirect unfaithful wives
why do men have affairs why do husband cheat why men cheat on beautiful women
wives that cheat link read here
open my husband cheated black women white men
open read here black women white men
signs of a cheater why women cheat website
reasons wives cheat on their husbands what is infidelity why do men have affairs
go using viagra on females how long for viagra to work
viagra vison loss buy viagra online read
why do wife cheat on husband wife cheaters reasons why married men cheat
why wife cheat why do guys cheat why women cheat in relationships
why wife cheat cheat on my wife why women cheat in relationships
read here my husband cheated on me why women cheat on men
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق
نص التعليق
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  15669
إجمالي عدد الزوار
  36601864

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع