التشكيك في إعجاز القرآن الكريم عن الإتيان بمثله(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم ليس معجزة لغوية؛ فمن مارس شيئا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارا في البيان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن**.
وجوه إبطال الشبهة:
القرآن الكريم كتاب الله الذي أعجز البشر أن يأتوا بمثله، وإعجازه لهم من وجوه عدة: لغته، ومعانيه، وبلاغته، وبيانه، وما فيه من تشريعات سنها الله لعباده، وما فيه من حقائق علمية يؤكدها العلم كلما تطورت البشرية.
ويزعم بعض المتوهمين أن القرآن الكريم ليس معجزا في لغته ولا بيانه، ويدعون أن من يتمكن من اللغة العربية وفنونها الأدبية شعرا أو نثرا، ويدرك قدراتها في التعبير يستطيع أن يأتي بمثل القرآن الكريم في نظمه وأسلوبه ولغته، وقد أوقعهم في هذا الوهم الباطل ما لمسوه في القرآن الكريم من وضوح ويسر، وسلاسة في التعبير والبيان.
ويمكننا إبطال هذه الشبهة من وجوه:
1) لقد جاءت كل معجزات الأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - مادية، وهي في عالم المحسوس "الظاهرة التبعية المعجزة"، أما بالنسبة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت معجزته الخالدة هي القرآن الكريم الذي لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بمثله، أو حتى بمثل أصغر سورة منه.
2) إن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن، ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة باد عواره، باق عاره، ولقد سجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم عن ذلك في عصر نزول القرآن نفسه، - وما أدراك ما عصر نزول القرآن - وهو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي - وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها؛ حتى أدركت هذه اللغة أشدها، وتم لها بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.
3) إن التحدي الذي ساقه القرآن منذ أربعة عشر قرنا لا يزال قائما، وعلى الرغم من التقدم الهائل في شتى المعارف البشرية لا يجرؤ أحد على قبول هذا التحدي.
التفصيل:
أولا. لقد جاءت كل معجزات الأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - مادية في عالم المحسوس، أما بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت معجزته الخالدة في القرآن الكريم الذي لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بمثله، أو حتى بأصغر سورة من سوره.
فسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كانت معجزته الخالدة هي القرآن نفسه؛ أي أن القرآن هو التصديق وهو النبوة معا، ولم تأته النبوة والآيات البينات منفصلا بعضها عن بعض، وبما أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، فيجب أن تبقى معجزته خالدة، وكلما تقدمت الإنسانية في المعارف والعلوم يظهر إعجاز القرآن بشكل أوضح، ويتضح ذلك في عدة نقاط وهي:
1. نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي هي القرآن والسبع المثاني سبق فيها الطرح العام المعقول عن المدرك من المحسوس بصياغة مشابهة لما يفهمه أهل ذلك العصر ويعقلونه، فكلما تقدم الزمن تدخل طروحات القرآن ضمن المحسوسات المدركة، وهذا ما يسمى بـ "التأويل المباشر"؛ أي: مطابقة المدرك من المحسوس مع النص، وهذا ما يصدق قول الله عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت)، وهذا هو السبب الثاني في أنه سمي "قرآنا" من الاستقراء؛ حيث إن السبب الأول: هو المقارنة؛ أي قرن أحداث الطبيعة بأحداث التاريخ؛ فقوله تعالى: )كل في فلك يسبحون (33)( (الأنبياء)، والفلك هو الاستدارة، فكل شيء في هذا الكون - من أصغر الجزيئات إلى أكبرها - يتحرك ضمن أفلاك؛ أي: حركة منحنية، هذا ما عرفناه الآن ووصفه القرآن قبل أربعة عشر قرنا في عالم المعقولات، والآن أصبح في عالم المحسوسات والمعقولات معا.
2. لقد حوى القرآن الحقيقة المطلقة للوجود؛ بحيث تفهم فهما نسبيا حسب الأرضية المعرفية للعصر الذي يحاول فهم القرآن فيه، فقد حوى القرآن الحقيقة المطلقة، والفهم النسبي لهذه الحقيقة في آن واحد، وهذا ما لا يمكن لإنسان أيا كان أن يفعله.
3. أما الوجه الثالث من وجوه الإعجاز فهو: أننا نعلم الآن أن هناك نوعين من الصياغة اللغوية: الصياغة العلمية الموضوعية؛ كصياغة إسحاق نيوتن، وألبرت أنشتاين، وابن الهيثم لنظرياتهم، وهناك الصياغة الأدبية الخطابية والشعرية الغنية بالصور الفنية؛ كصياغة شكسبير، وبوشكين، والمتنبي، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن صياغة نظريات نيوتن، وأنشتاين، وابن سينا، وابن الهيثم، صياغة كصياغة المتنبي وبوشكين، وشكسبير، دون أن تؤثر هذه الصياغة على الدقة العلمية، ودون أن تكون على حسابها؟
إلى يومنا هذا لم نر هذا النوع من الصياغة، وهذا هو الوجه الثالث من الإعجاز.
إن كل ما كتب عن إعجاز القرآن عند السلف، إنما يتعلق بالجزء الأدبي من الوجه الثالث للإعجاز. نقول: إنه لو كان الإعجاز فقط أدبيا، وافترضنا أنه لا يمكن تقليد صياغة القرآن من الناحية الأدبية الفنية، فهذا يعني أن الإعجاز واقع على العرب فقط دون غيرهم؛ لأن الصياغة القرآنية جاءت بلسان العرب.
والحقيقة أن هذا الإعجاز واقع على العرب وعلى غيرهم من الأقوام؛ لأن المطلوب هو إتيان الناس بمثله، كل في لغته؛ العربي بالعربية، والفارسي بالفارسية، والإنكليزي بالإنكليزية، وهكذا دواليك. فلو كان المقصود بالإعجاز الصياغة فقط دون المضمون، لأمكن للناس صياغة بعض القطع الأدبية التي تشبه القرآن من الناحية اللفظية فقط[1].
وعلى ذلك: فإن معجزة القرآن اللغوية خالدة على مر الأزمان، ولا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله على الإطلاق.
لقد سجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن - وما أدراك ما عصر نزول القرآن -، وهو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها؟ حتى أدركت هذه اللغة أشدها، وتم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.
ورغم ذلك التفوق تحداهم القرآن أفرادا وجماعات، وكرر التحدي في صور شتى متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف، فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم - بل ورمى العالم كله - بالعجز في غير مواربة فقال عز وجل: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء)، وقال عز وجل: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة)، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز: لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله: )ولن تفعلوا(، ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الأعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سلما يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ: )فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)( (الكهف)، حتى استيأسوا من قدرتهم، واستيقنوا عجزهم، وما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الخوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف، وتلك حيلة يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعا عن القلم واللسان.
ومضى عصر القرآن والتحدي قائم ليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغير سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا على هذا الدين من أساسه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوائلهم لفعلوا، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين، قال تعالى: )وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل( (سبأ:٥٤).
ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد كانوا أشد عجزا، وأقل طمعا في هذا المطلب العزيز فكانت شهادتهم على أنفسهم، مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائما أمامهم من الوجدان والبرهان ولا يزال هذا دأب القرآن إلى أن تقوم الساعة[2].
ثانيا. وإن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة، فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن، ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة، باد عواره، باق عاره وشناره، فمنهم عاقل استحيى أن يتم تجربته فحطم قلمه وصحيفته[3]، ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافة، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين، ومنهم طائش برز بها إلى الناس فكان سخرية للساخرين ومثلا للآخرين.
ومن هذه المحاولات ما ظهر منذ فترة على "الشبكة الإلكترونية" من كلام مسجوع من تأليف عربي يدين بالإسلام، يعيش في أمريكا، يحاول فيه أن يقلد النسق القرآني، من حيث تقسيم الكلام إلى عبارات مسجوعة تنتهي بحرف الميم أو النون مسبوقة بمد يائي، أو واوي، وظن المسكين أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل، كما ظن أنه بعلمه هذا قد أبطل التحدي الذي تحدى الله به الإنس والجن، حين قال عز وجل: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
وكأنه يقول: هاأنذا قد أتيت بمثله، وإذا فقد أبطلت التحدي، وأبطلت دعوى إعجاز القرآن الذي قامت عليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا فالإسلام ليس من عند الله، إنما هو صناعة بشرية قام بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ولعل المسكين لم يعلم أن مسيلمة الكذاب قد قام بمثل هذا العمل من قبل، وأتى بسجعات مثل سجعاته قال إنها مثل القرآن.[4] وكما مر الزمان، وبطلت سجعات مسيلمة، سيظل القرآن هكذا يتحدى الإنس والجن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن حدث نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر، وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستح فليصنع ما يشاء.
ومما سبق ذكره يتبين أن العرب ببلاغتهم وفصاحتهم لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله، مع أن القرآن نزل بلغتهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس).
ومن الآية يتضح التحدي العظيم الذي تحداه القرآن لأعدائه.
وعلى غرار ما ذكر يبرهن القرآن على مدى إعجازه، وأنه لا يمكن لأي مغرور أن يأتي بسورة من مثله، ولو أصر هذا المغرور بما ملك من ملكات أدبية، وكبر عليه أن يقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان؛ ليجرب نفسه، ويبرز قوته، قائلين له: أخرج لنا أحسن ما عندك؛ لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، غير أننا نعظه بواحدة أخرى: ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الرؤية، ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة فإن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه، ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها.
وفي صفحات التاريخ بعض الوقائع غر أصحابها الغرور؛ فانطلقوا يواجهون هذا التحدي، وأولى هذه الوقائع ما حدث مع الشاعر العربي لبيد بن ربيعة، الشهير ببلاغة منطقه، وفصاحة لسانه ورصانة شعره، فعندما سمع بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يتحدى الناس بكلامه قال بعض الأبيات ردا على ما سمع وعلقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازا لم تدركه إلا فئة قليلة من كبار شعراء العرب، وحين رأى أحد المسلمين هذا أخذته العزة فكتب بعض آيات الكتاب الكريم، وعلقها إلى جوار أبيات لبيد، ومر لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي، - ولم يكن قد أسلم بعد -، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى أنه صرخ من فوره قائلا: "والله ما هذا بشر، وأنا من المسلمين"[5].
وكذلك نجد أن القرآن الكريم تحدى الملحدين في بعض من سوره، وفي هذا التحدي ينهج القرآن نهجا تنازليا مع الملحدين؛ حيث يتنزل معهم إلى أقل قدر ممكن من التحدي؛ حتى لا تكون لهم حجة.
ومن هذا المنطلق، يتحدى القرآن كل من تسول له نفسه محاولة الإتيان بمثله، وليستعن على ذلك بمن يستطيع معاونته من البشر.
إن سورة الإسراء تؤكد تلك الحقيقة الناصعة في الإعجاز القرآني، وأن الإنس والجن معا لو اجتمعوا على قلب رجل واحد منهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلن يأتوا بمثله، وفي ذلك تقول السورة الكريمة: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
ولما عجز المشركون عن الإتيان بمثل القرآن تراه يتنزل معهم إلى الأدنى من مثله، فيتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله.
فها هي سورة هود تعرض لذلك التحدي في سخرية ومشاكلة عجيبة تقول: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14)( (هود).
ومن البدهي أن يعجز الماديون المشركون عن مواجهة ذلك التحدي الأدنى، ورغم ذلك يدفعهم العناد، والإصرار على المكابرة، إلى توالى افتراءاتهم وأكاذبيهم على الله، حتى بعد أن تنزل القرآن معهم إلى أقل قدر ممكن يتحقق معه الإعجاز، ومن ثم طلب منهم أن ياتوا بسورة من مثله، أية سورة ولو كانت قصيرة.
وذلك تقول سورة يونس: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس).
كما تؤكد سورة البقرة هذا التحدي فتقول: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).
ثالثا. يقول - عز وجل - عن القرآن الكريم: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
إن التحدي الوارد في هذه الآية الكريمة لا يشمل العرب في زمن نزول القرآن وحدهم، إنما يشمل الإنس والجن في كل مكان وزمان، حتى في وقتنا الحالي وإلى يوم الدين، وهذا التحدي الوارد في الآية والذي يشمل القرآن كله، قد خففه الله تعالى، واكتفى أن يأتي المخالفون بسورة واحدة فقط تماثل سور القرآن المجيد.
يقول تعالى: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثلـه وادعــوا شهداءكـم مـن دون الله إن كنتــم صادقيـن (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).
وفي واقع الأمر إننا نجد أن هذا التحدي المذكور في هذه الآية يمثل أقل بكثير من 1% من القرآن، فالتحدي لا ينص على ضرورة الإتيان بسورة طويلة، بل يمكن للمعارضين والمتشككين أن يأتوا بسورة تماثل السور الصغيرة، وإن أصغر السور وأقصرها هي سورة الكوثر التي تتكون من عشر كلمات عدا البسملة. ولكن القرآن يؤكد على أن المعارضين والمتشككين لن يستطيعوا أن يأتوا حتى بسورة قصيرة من عشر كلمات تماثل سورة الكوثر القصيرة. فإذا عرفنا أن القرآن بأجمعه يتكون من 77845 كلمة، فإن تحدي المعارضين أن يأتوا ولو بسورة واحدة تتكون من عشر كلمات لهو أمر في غاية السهولة واليسر؛ إذ إنه يمثل نسبة 77845: 10، ومع هذا.. فإن الله تعالى يؤكد بكل اليقين على أن الذين في قلوبهم ريب.. لن يستطيعوا أن يقبلوا هذا التحدي البسيط في حجمه.. العظيم في مضمونه[6].
إن هذا هو التحدي الذي ذكره الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن شاعرا ولا أديبا، ولم يحضر ندوات الشعر ولا منتديات الأدب، بل إنه حتى لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة، ومع ذلك تحدى جميع مفكري العالم من الأدباء والشعراء والعلماء والحكماء.. أن يتكاتفوا سويا ويجمعوا جهدهم ويوحدوا طاقتهم ليأتوا بسورة قصيرة.. تتكون من عشر كلمات تماثل أقصر سورة من سور القرآن الكريم، ثم يقول لهم بكل جرأة وبأتم يقين: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)(.
إن الأمر إذا ليس مجرد طفرة بشرية.. وليس بسبب تقدم علمي أو تأخر تقني، فرغم اختراع القواميس الإلكترونية التي هي في حجم الكتيب الصغير، والتي تستطيع أن تترجم أية كلمة إلى عدة لغات بمجرد الضغط على بعض الأزرار، فإن الإنسان لم ولن يتمكن من أن يؤلف سورة تضارع سورة صغيرة من سور القرآن الكريم.. حتى ولو كانت تتكون من عشركلمات فقط.
يقول صاحب الظلال: عند تفسير قوله تعالى: )الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات( (البقرة:257).
"إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء جيئة من هنا وذهابا من هناك، بدلا من التعبير الذهني المجرد؛ إذ لا يحرك خيالا، ولا يلمس حسا، ولا يستجيش وجدانا، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ.
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا ذهنيا أيا كان. لنقل مثلا: الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران.. إن التعبير يموت بين أيدينا، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع"[7].
إن بعض الناس يظن أن القرآن معجزة لغوية فحسب؛ ولذلك فإنهم يتصورن أنه لا يمكن الإتيان بما يشابهه من الناحية البلاغية، وهذا ظن خاطئ عن القرآن المجيد. إن الله تعالى لم يصف أبدا القرآن الكريم بأنه معجزة بلاغية فحسب، بل هو معجزة بلاغية وأدبية وعلمية وتربوية. إنه معجزة من حيث إنه كتاب سماوي يهدف إلى هداية الإنسان إلى طريق الله تعالى. نعم إن البلاغة جزء من الإعجاز ولكنها ليست كل الإعجاز، والتحدي القرآني لا يقتصر فقط على الأسلوب البليغ. إن الأمر ليس مجرد مقارنة كلمات متماثلة، فالقرآن ليس مجموعة من الكلمات البليغة والأساليب البيانية مرصوصة بدون معنى أو بغير مضمون.
إن القرآن كتاب، وهو بهذه الصفة يقدم لنا مضامين، ويبرز معاني، ويتناول بالبحث موضوعات. وحين قسم القرآن إلى سور - كما يقسم الكتاب إلى فصول - صارت كل سورة تعكس في جوهرها القرآن ككل، فهي أيضا تحتوي على مضامين تهم الإسلام والمسلمين، وتشتمل على موضوعات تبحث في أمور المؤمنين، وتمتلئ بالمعاني والأنباء عما تأتي به الأيام في مستقبل أتباع هذا الدين... فالتماثل الذي يطلبه التحدي القرآني ليس فقط في الأسلوب البليغ، بل في المعاني التي تبينها آ يات القرآن، وفي النبوءات التي تحتويها تلك الآيات، والتي بتحققها... ولو بعد زمن طويل... يتبين أنها أعظم دليل على أنها فعلا آيات من عند الله تعالى، وليست مجرد كلمات بليغة من قول البشر[8].
ولنعد الآن إلى سورة الكوثر.. إن الآية الأولى فيها تقول: )إنا أعطيناك الكوثر (1)( (الكوثر)، و "الكوثر" اسم مشتق من الكثرة، وليس "الكوثر" اسما فقط لنهر في الجنة لم يره أحد، ولكن الكوثر يدل على الكثرة التي قضى الله تعالى أن يعطيها للنبي صلى الله عليه وسلم.. الكثرة من المؤمنين. فهذه الآية تتضمن نبأ غيبيا للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه سوف يتبعه جمع غفير من الناس، وسوف يؤمن به كثرة عظيمة من الأتباع، رغم أن الكثرة من الناس كانت تعارضه عند نزول هذه السورة التي نزلت في مكة أثناء عصر الاضطهاد والمعاناة في أول مراحل الدعوة. وإذا كان الكوثر اسما لنهر في الجنة أيضا.. فلا يجوز الاعتراض أو الإيماء بأن أحدا لم ير ذلك النهر ولا يعرف ما إذا كان هذا الوجود حقيقيا أم لا؛ لأن تحقق النبوءة التي تحتويها الآية عن نوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للكثرة من الأتباع هو الدليل على وجود ذلك النهر فعلا في الجنة. فالله سبحانه يقول إن في هذه الآية نبأين من أنباء الغيب.. أحدهما أن الله تعالى قد قضى أن يهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكثرة من الأتباع والأنصار، والثاني هو أن الله تعالى قد قضى أن يهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهرا في الجنة، ويمكن الاستدلال على تحقيق النبأ الثاني الذي لا يمكن أن يراه أحد الآن.. من تحقق النبأ الأول الذي سوف يرى الناس تحققه في مستقبل الأيام، فالذي حقق النبأ الأول هو الذي سوف يحقق أيضا النبأ الثاني.
فالأمر إذن ليس مجرد كلمات مرصوصة، وليست هي أسطورة تحتوي على الأنهار أو البحار التي لم يرها أحد ولا هي مجرد وعود بأمور في الغيب تساق بغير دليل على تحققها، وإنما هي "آية" من آيات الله تعالى.. آية من آيات القرآن الكريم، آية تحتوي على مضمون وموضوع وأنباء غيبية، آية من صنع الله تعالى وليست مجرد كلمات بليغة مرصوصة من صنع البشر[9].
والآية الثانية: )فصل لربك وانحر (2)( تحتوي على نبأ غيبي بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سوف يتمكن من أداء فريضة الحج، وسوف يصلي في مكة وينحر الذبائح التي هي منسك من مناسك الحج، الأمر الذي يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يكون له الأمر في مكة، وسوف يستتب له الأمر فيها، رغم أنه حين نزلت هذه الآية كان يلقى اضطهادا شديدا من أهل مكة.. هو والقلة التي آمنت معه. وقد تحققت كل هذه الأنباء الغيبية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاهد الناس تحققها. بل إن فتح مكة وخضوعها لأمر الرسول كان سببا جعل معظم الناس يصلون إلى اليقين بمصداقيته وبحقيقة دعواه، فإنهم سمعوا منه هذه الأنباء الغيبية في أول الدعوة، وظنوا أنها ليست سوى أحلام وأوهام لا يمكن أن تتحقق أبدا، فلما رأوا تحققها بأعينهم.. أدركوا أنها حقائق وآيات من قول الله وليست من قول البشر.
والآية الثالثة: )إن شانئك هو الأبتر (3)( تحتوي أيضا على أنباء غيبية.. فهي تشير إلى أن أعداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - سوف يموتون دون أن يكون لهم ولد من الذكور يخلفهم ويخلد ذكراهم، فسوف ينمحي أثرهم، ولا يكون لهم نسل يفخر بالانتساب إليهم، بينما يزيد نسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتباره الأب الروحي لكل أمته. كان الوليد بن المغيرة وأبو جهل من ألد أعدائه الذين ماتوا وهم كفار.. وكلاهما كان له ولد من الذكور عندما نزلت هذه السورة. الأول كان ابنه خالد بن الوليد، والثاني كان ابنه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، ولكن كلاهما دخل في الإسلام، وكلاهما قطع كل الروابط مع أبيه، وصار لا ينتسب إليه إلا بالاسم فقط؛ لأنه أصبح ينتسب إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام باعتباره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أب لكل أمته.. كما يبين القرآن أن أزواجه أمهات للمؤمنين يقول تعالى: )النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم( (الأحزاب: ٦).
ولقد تحققت كل تلك الأنباء الغيبية، وفي تحققها أبلغ دليل وأقوى برهان على أن آيات سورة الكوثر إنما هي - بحق - من عند الله تعالى، وأنها آيات في كتاب عزيز.. )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).
وهكذا يظهر للعيان كيف أن آيات سورة الكوثر هي فعلا آيات من عند الله عز وجل، وهي آيات القرآن الكريم التي تتضمن الكثير من أنباء الغيب؛ ولذلك فقد وصفه سبحانه بقوله تعالى: )إن هـو إلا ذكر للعالميـن (87) ولتعلمـن نبـأه بعـد حيــن (88)( (ص).
والآن.. إن التحدي الذي ساقه القرآن منذ أربعة عشر قرنا لا يزال قائما..
فهل يجرؤ أحد على قبول تحدى القرآن الكريم؟ وهل يستطيع أحد أن يقدم لنا من كتابه المقدس تحديا مثلما قدم القرآن الكريم؟ )قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)( (البقرة)[10]!
ولعله يحسن بنا أن نؤكد أن القرآن ليس مجرد كلام قد يؤتى بمثله، فهو ليس بكلام بشر، بل هو كلام رب البشر، وإن كان يحلو للمتحذلقين أن يدعوا أن بإمكانهم الإتيان بمثل القرآن في نظمه الذي يخيل لهم أنه سهل المنال، فعليهم أن يعلموا أن معجزة القرآن فاقت معجزة اللغة - وإن كانوا عاجزين عنها وحدها - فاقت ذلك إلى معجزة كلام يستشفى بتلاوته من الأمراض البدنية والنفسية، وإلى معجزة كلام يؤثر في النفوس التي تسمعه، وإن كانت لا تؤمن به، بل ومن لا يفقهون العربية أصلا، وإلى معجزة كلام يؤثر على الجن والشياطين؛ فلا يستطيعون أن يخترقوا حجبه، ولا أن يصمدوا في مواجهته، هذا كله فضلا عن كونه كلاما ينبئ عما يجهله علماء القرن الواحد والعشرين من الأمور العلمية الصرف، هذا بالإضافة إلى ما فيه من الأنباء بالغيب مما مضى ومما يستقبل من الزمان.
فإن استطاع أحد الزاعمين أن يأتي بمثله ولو في سورة واحدة، فقد سلمنا له بأن القرآن ليس بمعجزة، وإن لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا، فحري بالمرء أن يعرف قدره، وأن يقف عند حده.
(*) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1397هـ/ 1977م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420 هـ/ 2000م.