مرحبًا بكم فى موقع بيان الإسلام الرد على الافتراءات والشبهات
 بحث متقدم ...   البحث عن

الصفحة الرئيسية

ميثاق الموقع

أخبار الموقع

قضايا الساعة

اسأل خبيراً

خريطة الموقع

من نحن

ادعاء أن القرآن يقر الإنجيل - بصورته الحالية - ويوجب على أهل الأديان جميعا الإيمان به(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن الإنجيل بمضمونه الحالي كتاب سماوي مقدس بشهادة القرآن؛ إذ يقول: )وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة)، والإيمان به واجب على أهل الأديان جميعا.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  القرآن إنما يقر الإنجيل الذي أنزل على عيسى قبل أن يدخله التحريف.

2) الإنجيل بمضمونه الحالي ليس كتابا سماويا، ولو كان الإنجيل كما أنزل من عند الله لما كانت به تلك التناقضات التي لا يقبلها عقل.

3) الإنجيل الصحيح عد القرآن كتابا سماويا خاتما ناسخا لما قبله متعبدا به دون غيره، بعد نزوله وقد بشر هذا الإنجيل بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا خاتما إلى الناس كافة.

التفصيل:

هذه كلمة حق أريد بها باطل، فالإنجيل ككتاب سماوي نزل على عيسى نبي الله - عليه السلام - يلقى - كغيره من الكتب السماوية - اعتبارا وإقرارا وتصديقا من القرآن الكريم، ولكن هل هذا الكلام ينطبق على الإنجيل الموجود بين أيدي الناس الآن؟

أولا. أي إنجيل يقر القرآن؟

حول نظرة القرآن الكريم للإنجيل، وحول المسيحية عموما من وجهة نظر إسلامية يحدثنا د. مراد هوفمان قائلا: إذا سمع مسلم اسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أو قرأه في أي نص، كما في هذا الكتاب مثلا، فإنه يدعو للنبي مصليا عليه صلى الله عليه وسلم، كذلك يصلي المسلم على عيسى إن تلفظ باسمه أو سمعه.

قد يبدو هذا غريبا مفاجئا للقراء الذين ليسوا على علم كاف بطبيعة الإسلام وفهمه لذاته، ذلك أن الإسلام لا يعد نفسه دينا جديدا في مقابل المسيحية لمجرد أنه تاريخيا جاء بعدها، بل إنه يرى نفسه مكملا للدين الداعي إلى الوحدانية المطلقة، التي وصى بها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، ومهيمنا عليها كما نصت على ذلك آيات كثيرة بينة؛ منها قوله سبحانه وتعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: 13)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)( (المائدة).

من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الإسلام بصفته أقدم الديانات الداعية إلى التوحيد، وإن كان في الوقت ذاته أحدثها تاريخيا، إنه إذا غضضنا الطرف عن أخلاقياته ومبادئه الكريمة التي تدعو للتسامح، لا يزعم لنفسه الأحقية المطلقة التي تشجب غيرها من الأديان، كما تفعل الكاثوليكية بموقفها من الديانات الأخرى.

بل إن الأمر أبعد من هذا، فالإسلام يبني صرحه على أسس الديانتين السماويتين اللتين سبقتاه، مشيدا بأنبياء الله، معترفا ومؤكدا لجوهرهما الذي لم ينسخ بالوحي، إن الإسلام رسالة الوحي إلى الناس كافة في المعمورة كلها. ولنتدبر معا: )قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84)( (آل عمران).

ليست صلاحية الإسلام - إذن - ناتجة عن رفضه لليهودية والمسيحية، فالصحيح أن تلك الديانات الثلاث تربطها وشائج القربى، بحيث ترى الفروق التي تفصل فيما بينها أقل بكثير من التي تفصلها عن البوذية والهندية مثلا.

بذا نتفهم موقف الإسلام في اعتبار عيسى - عليه السلام - نبيا من أنبياء الله، فقد أسلم لله كما يدل على ذلك المعنى الحرفي اللغوي للفظة "مسلم" بيد أنه ليس بحال من الأحوال خاتم النبيين.

ومنطلق علم الأصول أو الدين الإسلامي أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرد ذكره في التوراة فحسب، وإنما في الإنجيل كذلك، أي في العهدين القديم والجديد، وقد بشر عيسى نفسه بمقدم الرسول الذي تعني ترجمة اسمه "أحمد" مشتقا من الحمد: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف)، وقد نص في ذلك نصا على أنه آخر الأنبياء وخاتم المرسلين.

يستقى الكثير معرفتهم عن منزلة عيسى ومريم وصورتهما في الإسلام من القرآن خاصة من سورة آل عمران وسورة مريم، ولا يعرف الكثيرون صورتهما ومنزلتهما في الأثر والسنة، حيث يهتم القرآن بالعبرة المستهدفة من إرسالهما، ومن ثم كان إخباره عنهما بشكل أقل من النمط القصصي في السرد، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20)( (مريم)، وقوله سبحانه وتعالى: )قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49)( (آل عمران).

هذه الآيات البينات تجعل المسلم يتيقن أن الله - عز وجل - خلق عيسى خلقا، لا بالتناسل المألوف: )ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3)( (الجن) )لم يلد ولم يولد (3)( (الإخلاص). فولدته أمه العذراء مريم - مؤيدا - بروح القدس، وبالمعجزات، كما في قوله سبحانه وتعالى: )إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)( (المائدة)، ويتيقن المسلم أيضا أن عيسى نشأ في بيئة يهودية، عبدا صالحا مباركا نبيا، وأنه ليس ابنا لله - حاشا لله - وأنه ليس ذا طبيعة إلهية أو جوهرا مشابها لله، أو تجسيدا للناسوت والألوهية في شخص واحد كما يزعمون: )قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68)( (يونس)، )وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89)( (مريم).

أما التثليث فيرفضه القرآن رفضا قاطعا: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)( (المائدة). والآيات نفسها تؤكد بشرية مريم، وترفض تقديسها إلى درجة التأليه: )وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118)( (المائدة).

هذا الإغراق والإفراط في تقديس مريم الذي يحلو للبعض أن يضيفه إليها يبرأ منه الإسلام، فما كانت وابنها سوى عبدين صالحين تقيين، كعباد الله الصالحين، لا أكثر ولا أقل من هذا، أو كما يقول الحق سبحانه وتعالى: )وجعلناها وابنها آية للعالمين (91)( (الأنبياء)، )وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين (12)( (التحريم)، )ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد( (النساء: 171)، إن القرآن يثبت رفع عيسى إلى السماء لكن ليس كما تردد في الأناجيل بعد موته المزعوم على الصليب: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).

الآن وفي أيامنا هذه نتساءل: كيف ينظر الإنسان المعاصر إلى إنكار الطبيعة الإلهية للمسيح والروح القدس، اعتبار الأب والابن والروح القدس إلها واحدا كما يزعم القائلون بالتثليث؟ أما أنا شخصيا - والكلام ما زال على لسان د. مراد هوفمان - فأرى أن نظرة الإسلام التي تنكر الطبيعة الإلهية لعيسى، تلقى مؤيدين يزداد عددهم باستمرار من بين المسيحيين أنفسهم"[1].

هذه هي طبيعة نظرة القرآن للإنجيل وتقدير الإسلام المسيحية، فهل هذا ينطبق عل واقع الديانة النصرانية وكتابها "الإنجيل" اليوم؟ حتى نقول إنهما ما يزالان يتمتعان بهذا التقدير السامي من قبل الإسلام وكتابه "القرآن".

ثانيا. هل لا يزال الإنجيل بمضمونه الحالي كتابا سماويا؟   

تحت عنوان "ما يجب أن يكون في الكتاب الديني من صفات ليكون حجة يحدد الشيخ محمد أبو زهرة مواصفات الكتاب السماوي الصحيح، قائلا: "لأجل أن يكون الكتاب حجة - يجب الأخذ به على أنه شريعة الله ودينه، ومجموع أوامره ونواهيه، ومصدر الاعتقاد وأساس الملة - يجب أن يتوافر في هذا الكتاب أمور:

أحدها: أن يكون الرسول الذي نسب إليه قد علم صدقه بلا ريب ولا شك، وأن يكون قد دعم ذلك الصدق بمعجزة، أي بأمر خارق للعادة قد تحدى به المنكرين والمكذبين، وأن يشتهر أمر ذلك التحدي وهذا الإعجاز، ويتوارثه الناس خلفا عن سلف، ويتواتر بينهم تواترا لا يكون للإنسان مجال لتكذيبه.

ثانيها: ألا يكون ذلك الكتاب متناقضا مضطربا يهدم بعضه بعضا، فلا تتعارض تعليماته، ولا تتناقض أخباره، بل يكون كل جزء منه متمما للآخر ومكملا له؛ لأن ما يكون عن الله لا يختلف ولا يفترق ولا يتناقض، بل إن العقلاء في أقوالهم وفي كتبهم، يتحرون ألا يتناقض قولهم ولا يختلف تفكيرهم.

ثالثها: أن يدعي ذلك الرسول أنه أوحى إليه به، ويدعم ذلك الادعاء بالبينات الثابتة، وهي المعجزات التي بعث بها الرسول ودعا إلى كتابه على أساسها، ويثبت ذلك الادعاء بالخبر المتواتر أو يثبت بالكتاب نفسه.

رابعها: أن تكون نسبة الكتاب إلى الرسول الذي نسب إليه ثابتة بالطريق القطعي، بأن تثبت نسبة الكتاب إلى الرسول، بحيث يتلقاه الأخلاف عن الأسلاف جيلا بعد جيل من غير أي مظنة للانتحال.

وأساس ذلك التواتر أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، حتى تصل إلى الرسول، بحيث يسمع كل فرد من الجمع الراوي عن الجمع الذي سبقه، والذي سبقه كذلك، حتى يصل إلى الرسول الذي أسند إليه الكتاب ونسب إليه، ونزل به الوحي عليه"[2].

فهل تنطبق هذه الشروط على الإنجيل الموجود بأيدينا الآن، يقول الشيخ أبو زهرة: "إن الكتب في الدين هي أساسه، فإن لم تكن مستوفية الشروط السابقة لم يكن الاطمئنان إلى صحتها كاملا وتطرق إليها الريب والظن من كل جانب، وبذلك يتهدم الدين من أساسه ويؤتى من قواعده ولا يكون شيئا مذكورا في الأديان، بل يكون طائفة من أساطير الأولين كتبها طائفة من الناس، وادعوها دينا ونسبوها لشخص معترف به، لتروج عند العامة وتدخل في أوهامهم، ويعتمدون على الزمان في تمكينها في نفوسهم وقلوبهم.

وهل الكتب المقدسة عند النصارى سواء أكانت من كتب العهد القديم أو العهد الجديد مستوفية هذه الشروط، فتكون ملزمة للكافة؟

لا يزعم أن الذين كتبوها من بعد عيسى - عليه السلام - رسل مبعوثون بها يبشرون الناس بما فيها؛ فنبحث هل هؤلاء رسل حقسا وصدقا، قد تثبت رسالتهم بدليل لا مجال للريب فيه؟!

ولقد قلنا إن الطريق لذلك أن يدعوا هم هذه الرسالة ويثبتوها بمعجزة يجريها الله على أيديهم، ويتحدوا الناس ليدفعوهم إلى الإذعان أو ليسجلوا عليهم الكفر بعد أن يقوم الدليل عليهم.

إننا نبحث في مراجعهم فلا نجد مرجعا صحيحا قرر أن هؤلاء ادعوا مثل هذه الرسالة، ودعوا الناس إلى الإيمان بها ومعهم البرهان عليها والدليل القائم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. نعم قد نجد في رسالة أعمال الرسل ذكرا لأخبار تلاميذ المسيح وأن روح القدس تجلى عليهم، وأنهم كانوا يأتون بأمور خارقة للعادة، وسماهم كاتب تلك الرسالة رسلا، ففيها يذكر أن عدد الأصحاب بعد المسيح أحد عشر وهم: بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلب وتوما وبرثولماس ومتى ويعقوب بن حلفى، وسمعان الغيور، ويهوذا أخو يعقوب، وأن بطرس وقف وألقى في وسط التلاميذ الذين بلغوا نحو عشرين ومائة - خطبة، وأنهم امتلأوا جميعا بروح القدس، وتكلموا بألسنة غير ألسنتهم. ثم يذكر أن بطرس شفي أعرج من عرجه، ومات من كذب عليه، بعد أن كشف كذبه واختلاسه هو وامرأته.

ذكر سفر الأعمال هذا وذكر عجائب أتى بها بولس - في زعمه - في آخر ذلك السفر أيضا، وكذلك نجد في إنجيل لوقا أنه يذكر أن المسيح أرسل سبعين رجلا ليبشروا باسمه، وأنهم عادوا يقولون له: "يارب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك! فقال لهم: «رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا: أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات»". (لوقا 9: 17 - 20).

ونريد أن نناقش أعمال الرسل وإنجيل لوقا في هذا المقام، لنعرف منه من هم هؤلاء الرسل، لم يذكر سفر الأعمال أسماء العشرين والمائة الذين ملئوا من روح القدس، نعم إنه ذكر أسماء الحواريين الأحد عشر، وليس منهم من ينسب إليه كتب أو رسائل، سوى متى وبطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا.. وقد علمت بعض ما في نسبة إنجيل متى ويوحنا إليهما من شك، وأما بطرس والباقون فلهم رسائل، ولم يكن معترفا بصحتها إلى سنة 364، حتى إن مجمع نيقية لم يعترف بصحة نسبتها إلى أصحابها، وقد كان سنة 325.

وإذا كان سفر الأعمال لم يذكر أسماء العشرين والمائة، ولم يذكر كذلك إنجيل لوقا أسماءهم، فكيف تؤمن برسالة رسل لم تعرف أسماؤهم، نعم كانت تذكر بعد ذلك أسماء أشخاص، ويوصفون بأنهم رسل، ولكن لم يذكر أنهم من العشرين والمائة، ومن المؤكد أن بولس لم يكن في العدد الذي ذكر في الأعمال، ولا في العدد الذي ذكر في إنجيل لوقا. ‍

إذن لا مقنع فيما جاء في سفر الأعمال، ولا في إنجيل لوقا؛ لأنه لم يذكر أسماء هؤلاء معنيين[3] بالاسم، ثم من هو مؤلف سفر الأعمال؟ قالوا إنه لوقا صاحب الإنجيل.

إذن فالمصدر هو لوقا في الاثنين، ولوقا قد بينا أنه طبيب وقيل إنه مصور، أو هو طبيب مصور، فهل كان من تلاميذ المسيح، أو كان من تلاميذ تلاميذه. لم يثبت شيء من ذلك.

وكل ما ثبت من صلته برجال المسيحية أنه كان من أصحاب أو تلاميذ بولس، وإذن فروايته عن هؤلاء وعن المسيح ليست برواية من شاهد وعاين، وعلى ذلك يكون السند غير متصل بين لوقا والمسيح أو تلاميذ المسيح.

لم نعرف إذن حقيقة هؤلاء الرسل ومن هم بسند صحيح، فضلا عن أن يكون السند قطعيا، وإذا كنا لا نعرف من هم، فكيف نؤمن لهم بمعجزات؟ إن المصدر الذي ذكر المعجزات هو نفس المصدر الذي ذكر الرسل من غير أن يبين من هم، وهو راو لم يعاين ولم يشاهد، وعلى ذلك يكون الكلام في الإلهام وأنهم رسل ملهمون، لم يثبت بسند يصح الاعتماد عليه والاطمئنان إليه وبناء عقيدة تشرق وتغرب على أساسه.

ولكنا لا نكاد ننتهي إلى هذه النتيجة حتى نجد من مجادلي القوم والمناظرين عنهم، من يزعمون أن لوقا نفسه صاحب سفر الأعمال وصاحب الإنجيل، كان من الرسل الملهمين فهو لا يحتاج إلى سند؛ لأن كل كلامه من الروح القدس الذي ملأه كما ملأ إخوانه الرسل. ولكن أين معجزته التي تثبت إلهامه حتى نصدق كل ما جاء في كتابيه، ويؤمن مؤمن "يحترم الإيمان" بكل ما اشتملا عليه، لم يرد عندهم أي شيء يدل على إلهام لوقا، وأنه كان في العشرين والمائة الذين ألقى فيهم بطرس خطبته وامتلأوا بروح القدس في زعمهم، ولم يكن من السبعين الذين أرسلهم المسيح - كما ذكر في إنجيله - وأخضعوا الأرواح، وأخبرهم أن أسماءهم كتبت في السماء.

ولسنا في ذلك إلا مطالبين بأن يثبتوا إلهام لوقا، لنصدق بإخباره عن الرسل وأعمالهم وعن إلهامهم وامتلائهم بالروح القدس وإعجازهم، لا يوجد أمامنا أي دليل يثبتون به إلهام لوقا فيما كتب، حتى كنا نصدقه في كلامه عن الرسل الذين تجلى عليهم الروح القدس وامتلأوا به، وإن كنا لا نعرف أشخاصهم ولا شيئا عن أسمائهم وأعمالهم.

بل لقد وجدنا من كتاب القوم الباحثين من يصرح بأن لوقا لم يكن من الملهمين وأن إنجيله لم يكن إلهاميا، وبالأولى رسالته لم تكن بإلهام؛ فقد قال من المحدثين واطسن في المجلد الرابع من كتاب الإلهام ما ترجمته: إن عدم كون تحرير لوقا إلهاميا يظهر مما كتب في ديباجة إنجيله، ونصها: "إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المستيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به". ومثل هذا القول من أن ما كتب لوقا ليس بإلهام قاله العلماء الأقدمون من المسيحيين، فيقول أرينوس: إن الأشياء تعلمها من بلغها إلينا.

لم يكن إذن لوقا ملهما؛ لأنه لا يوجد دليل يثبت إلهامه، ولأن مقدمة إنجيله كمقدمة رسالته تدل على أنه لم يكن ملهما؛ ولأن الثقات من العلماء الأقدمين والمحدثين يقررون أنه لم يكن ملهما فيما كتب، بل كتب ما تعلم ولقن، لا ما أوحى إليه به وألهم.

وإذا كانت رسالة الأعمال هي المصدر المثبت لإلهام الرسل وامتلائهم بالروح القدس، فيكون ذلك المصدر قد فقد صلاحيته؛ لأنه لم يكن متصل السند بين لوقا والتلاميذ والمسيح؛ ولأن لوقا لم يكن ملهما، وهذا كله على فرض صحة نسبة ما أسند إلى لوقا، وفي تلك الصحة كلام سنثبته في موضعه.

 ليس عندنا إذن دليل نقلي عنهم يثبت رسالة من يسمونهم رسلا، ويثبت أنهم كتبوا بالإلهام، حتى يعتبر كلامهم وحيا أوحي به، ويجب تصديقه وقبوله، ولا نجد من الكتب ما يؤيد هذه الدعوى ويثبتها، بل إن راجعنا هذه الكتابات لا نجد أن كتابها يدعون لأنفسهم أنهم رسل، ولا من تلاميذه العشرين والمائة، ولا من السبعين الذين ذكرهم لوقا.

وقد رأينا بطرس في رسالتيه يقدمهما بأنه رسول يسوع المسيح، ولم يذكر لنفسه وصف الرسالة المطلقة عن الله، ولا نجد في عباراتهم ما يدل على أنهم كتبوا بالإلهام إلا رسائل بولس، فهو الذي يذكر في رسالته أنه يتكلم عن الله، وأحيانا يقول إنه يتكلم من نفسه.

وإذن نقول إن أصحاب هذه الكتب والرسائل لا يدعون لأنفسهم الرسالة والإلهام، إلا بولس الذي كانت صلته بالمسيحية على ما علمتم، وليس في كتبها ما يشهد له بالرسالة والإلهام إلا سفر الأعمال، وقد علمت قوة الاستدلال به، والاعتماد عليه في الاحتجاج والإثبات"[4].

وبعد أن يعرض المؤلف الإنجيل على محك المقاييس التي سبق وضعها للكتاب السماوي الصحيح، كعدم التضارب، وعدم انقطاع السند، وهو ما ثبت لديه عكسه - يقول مجملا القضية ": هذه كلمتنا في كتبهم، تحرينا فيها أن نكتبها كما كتبها المسيحيون، ونوجه من النقد ما وجهوا، وذلك لكي ننصف القوم.

ولقد ألقينا عليها نظرة فاحصة لنوائم[5] بين أخبارها المختلفة ونجمع بين الأقوال المتضاربة، ونشير إلى حكم العقل المستقيم عليها، أهي صالحة لأن تكون مصدر دين يتدين به ألوف الألوف من البشر وأهل العلم؟ أم غير صالحة؟ إن كتاب كل دين هو الأصل والدعامة والأساس، فإذا كان غير صحيح السند أو غير مقبول لدى العقول كان ثبوت الدين فيه نظر، بل إنه انهار، وفقد أصله ولم يعد شيئا في الأديان مذكورا"[6].

أفدين كتابه المقدس بهذه الحالة من جهالة أحوال من يدعون رسله وافتقادهم للوحي والإلهام والإعجاز، وانقطاع سنده واضطراب متنه، وتناقض أقواله، وهزال[7] بعض أفكاره وسخافة بعضها الآخر - خاصة فيما يتعلق بمقام الألوهية والنبوة - كأنها هلاوس بشر بنصف عقل، فهل دين بهذه الأوصاف يستحق أن يتعبد به بعض الناس، فضلا عن أن يوجب على المؤمنين من أهل الأديان جميعا أن يقرءوا كتابه ويؤمنوا به بوضعه الحالي، ومضمونه المحرف المتهافت؟‍

إذن بنينا موقفنا الرافض لهذا الطلب، المتمثل في الدعوة إلى قراءة الإنجيل الحالي والإيمان به، على أنه محرف وليس باقيا على أصله السماوي الصحيح.

فما مفهوم التحريف وأنواعه وأدلة وقوعه وعوامل ذلك؟

تجيبنا عن هذه الأسئلة، مؤلفة كتاب "موقف ابن تيمية من النصرانية"؛ إذ تقول: "يتهم ابن تيمية النصارى بالتبديل والتحريف لكتبهم، ولا يخص بذلك الأناجيل فقط، ولكنه يضم إليها أسفار التوراة باعتبارها العهد القديم لكتابهم المقدس - عندهم - فيثبت فيها وقوع التحريف على أيدي اليهود، وكأنه يريد أن يقول: إن كتب النصارى سواء منها القديم والجديد قد وقع فيها التحريف.. فالتحريف: انحراف الشيء عن جهته، وميله عنها إلى غيرها، وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق، والمراد به هنا: إخراج الوحي والشريعة، عما جاءت به بالتغيير والتبديل في الألفاظ أو بالكتمان والتأويل الفاسد والتفسير الباطل.

والتحريف الذي يتحدث عنه ابن تيمية نوعان:

الأول: تحريف لفظي: وهو تغيير جميع الألفاظ أو بعضها، سواء كان هذا البعض قليلا أو كثيرا. وهذا النوع تنكره النصارى.

الثاني: تحريف معنوي: وهو تأويل هذه الألفاظ بمعان لا تدل عليها، ولا تحتملها تلك الألفاظ إلا بنوع من التعسف والافتعال.

وهذا النوع تقره وتعترف به النصارى. وكلا النوعين - كما يرى ابن تيمية - واقع في كتب اليهود والنصارى.

ويؤخذ مما تقدم أن ابن تيمية يرى أن التحريف الواقع في التوراة لم يتناول جميع الألفاظ، بل القليل منها، ولا سيما في الناحية التشريعية، وأنه ما زالت هناك بقايا في التوراة والإنجيل طلب من أصحابها الحكم بما أنزل الله فيه، يقول سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم( (المائدة: 68).

وفيما يتعلق بالتحريف المعنوي فإن ابن تيمية يرى أن جميع الطوائف اليهودية والنصرانية، متفقة على وقوعه؛ لأن كل طائفة ترى أن غيرها أول الكلام بما لا تحتمله الألفاظ من المعاني، وهذا يرجع إلى اختلاف فهمهم للعقيدة، واختلاف ما تأخذه كل طائفة من مدلولات هذه الألفاظ.

 ويرى ابن تيمية - كما قدمنا - أن المسلمين يشهدون على النصارى بهذا النوع من التحريف، فيقول: فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها فجميع المسلمين واليهود يشهدون على النصارى بتحريفها وتبديلها، كما يشهد النصارى والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة، وتبديل أحكامها.

وابن تيمية يعني بذلك اتهام أصحاب هذه الأديان بعضهم لبعض - بل أرباب الفرق داخل كل دين - بأنهم ينحرفون في تأويل ما في كتبهم وتفسيرها، بحيث يجعلها كل فريق دالة على مذهبه مهما اختلفت بينهم تلك المذاهب، فكل فريق يتهم الآخر بالتحريف المعنوي لهذه النصوص، وصرفها عما يرى أنه هو المعنى الصحيح لها، بل إنه يصرح بذلك، فيقول: وكل عاقل يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق النصارى، وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف.

ويورد ابن تيمية أدلة كثيرة على وقوع التحريف في الكتاب المقدس - عند النصارى - بعهديه القديم والجديد، سواء كانت أدلة نقلية أو عقلية (واقعية)، بل يستشهد على ذلك بمظاهر كثيرة من مظاهر التحريف الواقعية الموجودة في صفحات هذا الكتاب، فليس اتهامه لهذا الكتاب بالتحريف مجرد دعوى بلا دليل، وإنما يقدم الأدلة والشواهد الكثيرة على ذلك"[8].

وبعد أن يورد ابن تيمية العديد من هذه الأدلة، كاستشهاده بآيات القرآن والأحاديث، واختلاف الأناجيل لفظا ومعنى فيما بينها، وتضمنها عقائد فاسدة وشرائع مبتدعة لم يأت بها المسيح ولا غيره، كعقيدة الصلب والفداء والتثليث وعدم اعترافهم بالبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم... إلخ. تناقش المؤلفة شبهات النصارى على عدم تحريف كتبهم وإبطال ابن تيمية لها فتقول: "الواقع أن النصارى لا يسلمون بالقول بوقوع التحريف اللفظي في كتبهم، بل لقد وجد من المعاصرين من ألف كتابا بعنوان "استحالة التحريف في الكتاب المقدس".

ولكننا في هذا المقام لا يعنينا أن نعرض لهذا الكتاب وما فيه، بل إن مقصدنا فقط هو أن نستعرض ما أورده ابن تيمية ونقله عن النصارى في عهده أو فيما قبله من شبهات؛ دفاعا عن كتبهم وبيانا منهم بعدم تحريفها، ثم إبطال ابن تيمية لشبهاتهم في هذا المقام، وذلك على النحو التالي:

الشبهة الأولى: يذكر ابن تيمية عن النصارى القول باستحالة تحريف كتابهم المقدس المكتوب باثنين وسبعين لسانا والمتعدد النسخ في كل لسان والذي مضى عليه إلى مجيء النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ستمائة سنة، ويتساءلون في ذلك قائلين: إذا كان الكتاب الذي لهم "أي المسلمين" الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله، ولا تغيير حرف واحد منه، فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا؟ وفي كل لسان منها كذا، وكذا ألف نسخة؟!

وجاز عليها إلى مجئ محمد أكثر من ستمائة سنة، وصارت في أيدي الناس يقرءونها باختلاف ألسنتهم على تباعد بلدانهم.

وجماع رد ابن تيمية على هذه الشبهة: إننا لم ندع وقوع التحريف اللفظي في جميع النسخ بجميع اللغات، بل في بعضها لفظيا، وأما وقوع التحريف المعنوي فمسلم به من الجميع، ولا وجه لقياس الأناجيل على القرآن المتواتر المحفوظ في الصدور، وإن كثرة النسخ في اللغات الكثيرة - على عكس ما يظنون - مما يتيح الفرصة للتحريف في كتبهم دون أن يتنبه إليه أحد، بخلاف الحال في القرآن المكتوب بلغة واحدة. هذا بالإضافة إلى أن ما تضمنته هذه الأناجيل من أقوال المسيح كما نقلها عنه أصحابها، إنما هي أقوال مترجمة؛ لأن عيسى لم يكن يتكلم إلا العبرية، ومع كثرة الترجمات يقع التحريف فيما نقل عن عيسى - عليه السلام - لا محالة.

الشبهة الثانية: يحتج النصارى على استحالة التحريف في كتبهم بثناء القرآن عليها وتعظيمه لها، مثل قوله سبحانه وتعالى: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه( (المائدة: 48).

ولله در ابن تيمية في رده لدفاعهم هذا عن كتبهم وتفنيده لشبهاتهم وتأويلاتهم للآيات الكريمة؛ حيث يقول: القرآن أثنى على كتبكم نعم، والإنجيل فيه هدى ونور نعم أيضا، ومحمد ـصلى الله عليه وسلم - صدق ما قبله من الكتب، ومن جاء من الرسل نعم، كل هذا حق وصدق والقرآن ذكر ذلك، ولكن أراد الكتب التي لم تحرف ولم تبدل.

فالقرآن أثنى على توراتهم وإنجيلهم قبل التحريف، وعلى من بقي إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - على نفس الدين الصحيح الذي جاء من عند الله، أما الكتب بعد التحريف والتبديل، فليس لها اعتبار في الإسلام، ولا تدل الآيات التي استشهدوا بها على أن كتبهم صحيحة، وغير محرفة، كيف وقد ثبت فعلا أنها محرفة وشهد القرآن عليها بذلك صراحة في قوله سبحانه وتعالى: )يحرفون الكلم عن مواضعه( (المائدة: ١٣)، وغيرها من الآيات، وقد بين الله أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا [9] على ما بين يديه من الكتب.

وليس المسلمون وحدهم هم الذين يقولون بوقوع التحريف في كتب أهل الكتاب عامة، وكتب النصارى خاصة، بل إن المسيحيين أنفسهم شهدوا على ذلك، ومنهم من هداه الله للإسلام، ومنهم من بقي على مسيحيته رغم اعترافه بالتحريف في كتبهم، يقول هورن: الحالات التي وصلت إلينا في بادئ زمان تأليف الأناجيل من قدماء مؤرخي الكنيسة (بتراء) غير معينة، لا توصلنا إلى أمر معين، والمشايخ الأقدمون صدقوا الروايات الواهية وكتبوها، وقبل الذين جاءوا من بعدهم مكتوبهم تعظيما لهم، وهذه الروايات الصادقة والكاذبة وصلت من كاتب إلى كاتب آخر، وتعذر نقدها بعد انقضاء المدة.

 وهذا أيضا اعتراف آخر، من أحد كبار المؤرخين المسيحيين، وهو ول ديورانت الذي يعترف صراحة بالتحريف في كتبهم، وخصوصا العهد الجديد، لا سيما الأناجيل، فيقول: وترجع أقدم النسخ التي لدينا من الأناجيل الأربعة، إلى القرن الثالث، أما النسخ الأصلية فيبدو أنها كتبت بين عامي 60، 120م، ثم تعرضت بعد كتابتها مدى قرنين من الزمان لأخطاء في النقل، ولعلها تعرضت أيضا لتحريف مقصود.. وملاك القول أن ثمة تناقضا كثيرا، بين بعض الأناجيل والبعض الآخر، وأن فيها نقطا تاريخية مشكوكا في صحتها، وكثيرا من القصص الباعثة على الريبة، والشبيهة بما يروى عن آلهة الوثنيين، وكثيرا من الحوادث التي يبدو أنها وضعت عن قصد لإثبات وقوع كثير من النبوءات الواردة في العهد القديم، وفقرات كثيرة ربما كان المقصود منها، تقدير أساس تاريخي لعقيدة متأخرة من عقائد الكنيسة أو طقس من طقوسها.

ويقول المسيو ايتين دينيه في كتابه "أشعة خاصة بنور الإسلام" ما نصه: "أما أن الله - عز وجل - قد أوحى الإنجيل إلى عيسى - عليه السلام - بلغته ولغة قومه، فالذي لا شك فيه أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر، ولم يبق له أثر، وبعض علماء المسيحية يرون أن أناجيلهم ما هي إلا كتب أدبية أكثر منها دينية، يقول ول ديورانت في ذلك: نقيس الآداب المسيحية في القرن الثاني بالأناجيل والرسائل والرؤى والأعمال.

لكننا مع ذلك نرى أنها ليست أدبية بالمعنى الصحيح، بل هي أدب مفكك تنقصه الاستمرارية، وتتضح فيه التناقضات، وفي ذلك يقول د. موريس بوكاي: اللمحة العامة التي أعطيناها عن الأناجيل، والتي استخرجناها من الدراسة النقدية للنصوص، تقود إلى اكتساب مفهوم أدب مفكك تفتقر خطبه إلى الاستمرار، وتبدو تنقاضاته غير قابلة للحل.

فهذه الأناجيل بشهادة المسيحيين أنفسهم ليست كتبا مقدسة - كما يدعون - وإنما هي كتب أدبية، بلغ أدبها من الركاكة والتفكك مبلغا كبيرا.

يقول شارل دني بير: وتصفح الأناجيل وحده يكفي بأن مؤلفيها قد توصلوا إلى تركيبات واضحة التعارض، لنفس الأحداث والأحاديث، مما يتحتم معه القول بأنهم لم يلتمسوا الحقيقة الواقعية، ولم يستلهموا تاريخا ثابتا، يفرض تسلسل حوادثه عليهم، بل على العكس من ذلك اتبع كل هواه وخطته الخاصة في ترتيب وتنسيق مؤلفه.

وبعد هذا الذي قدمناه من شهادات علماء الأديان من المسلمين، وكذلك شهادات المسيحيين أنفسهم، يمكننا القطع بأنه من الخطأ الكبير أن نعتبر أسفار الكتاب المقدس الموجودة حاليا كتبا سماوية بالمعنى الصحيح؛ فليست إلا من وضع كاتبيها، ولم يحفظوا فيها من الكتب السماوية الحقيقية إلا النادر القليل - كما شاء الله إذا قيس إلى ما أثبتوه فيها من تحريفات وتناقضات ومبتدعات" [10].

هل تريد أخي القارئ أن تطالع الآن نماذج حية من واقع نصوص الأناجيل تشهد على تحريفها والتبديل فيها؟ اقرأ معي قول القاضي أبي البقاء الهاشمي
(ت 668هـ): "نبين - بعون الله - في هذا الباب من تناقض إنجيل النصارى وتعارضه وتكاذبه وتهافته ومصادمة بعضه بعضا ما يشهد معه من وقف عليه أنه ليس هو الإنجيل الحق المنزل من عند الله، وأن أكثره من أقوال الرواة وأقاصيصهم، وأن نقلته أفسدوه ومزجوه بحكاياتهم، وألحقوا به أمورا غير مسموعة من المسيح، ولا من أصحابه، مثل ما حكوه من صورة الصلب والقتل واسوداد الشمس، وتغير لون القمر وانشقاق الهيكل، وهذه أمور إنما جرت في زعم النصارى بعد المسيح، فكيف تجعل من الإنجيل، ولم تسمع من المسيح؟! والإنجيل الحق إنما هو الذي نطق به المسيح، وإذا كان ذلك كذلك فقد انحرفت الثقة بهذا الإنجيل، وعدمت الطمأنينة بنقلته، وقد قدمنا أنه ليس إنجيلا واحدا، بل الذي في أيدي النصارى اليوم أربعة أناجيل، جمع كل إنجيل منها في قطر من أقطار الأرض بقلم غير قلم الآخر، وتضمن كل كتاب من الأقاصيص والحكايات ما غفله الكتاب الآخر مع تسمية الجميع إنجيلا.

وقد ذكر العلماء أن اثنين من هؤلاء العلماء الأربعة، وهما مرقس ولوقا، لم يكونا من الاثنى عشر الحواريين أصحاب المسيح، وإنما أخذا عمن أخذ من المسيح، وإذا كان الأمر كذلك فهذان الإنجيلان ليسا من عند الله؛ إذ لم يسمعا من لفظ المسيح، والحجة إنما تقوم بكلام الله، وكلام رسوله وإجماع أصحاب رسوله، وقد صرح لوقا في صدر إنجيله بذلك، فقال: "إن ناسا راموا ترتيب الأمور التي نحن بها عارفون، كما عهد إلينا أولئك الصفوة الذين كانوا خداما للكلمة، فرأيت أنا إذ كنت تابعا أن أكتب لك أيها الأخ العزيز ثاوفيلس، لتعرف به حقائق الأمر الذي وعظت به. فهذا لوقا قد اعترف أنه لم يلق المسيح، وأن كتابه الذي ألفه إنما هو تأويلات جمعها مما وعظه به خدام الكلمة.

واعلم أن هؤلاء الأربعة تولوا النقل عن رجل واحد، فلا بد أن يكون الاختلاف، إما من قبل المنقول عنه أو من قبل الناقل، وإذا كان المنقول عنه معصوما تعين الخطأ في الناقل.

هذا وقد ظهر هذا الخطأ والاضطراب في مظاهر عدة، منها:

1.  التكاذب: وهو تكذيب بعض الأناجيل بعضا، فمثلا: يذكر متى في إنجيله أنه من يوسف رجل مريم - وهو الذي يسمى يوسف النجار - إلى إبراهيم الخليل اثنتان وأربعون ولادة؛ حيث قال: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم: إبراهيم ولد إسحاق. وإسحاق ولد يعقوب. ويعقوب ولد يهوذا وإخوته. ويهوذا ولد فارص وزارح من ثامار. وفارص ولد حصرون. وحصرون ولد أرام... وأليود ولد أليعازر. وأليعازر ولد متان. ومتان ولد يعقوب. ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح. فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلا، ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلا، ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا". (متى 1: 1 - 17)، بينما يقول لوقا: "لا ولكن بينهما أربعة وخمسون ولادة"، وذلك تكاذب قبيح، ولعل الاستدراك على لوقا أولى؛ لأن متى صحابي، ولوقا ليس بصحابي، إلا أنه لا فرق بينهم عند النصارى.

 وذلك يقضي بانخرام[11] الثقة بكليهما، قال المؤلف: صواب النسب الذي عددته في إنجيل متى تسعة وثلاثون رجلا، وفي إنجيل لوقا خمسة وخمسون رجلا. وذلك من يوسف خطيب مريم إلى إبراهيم الخليل بشرط دخول الجدين يوسف وإبراهيم في العدد، وقد اختلفا في الأسماء أيضا، وذلك زلل ظاهر.

نوع آخر: قال لوقا: "وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف. واسم العذراء مريم. فدخل إليها الملاك وقال: «سلام لك أيتها المنعم عليها! الرب معك. مباركة أنت في النساء». فلما رأته اضطربت من كلامه، وفكرت: «ما عسى أن تكون هذه التحية!» فقال لها الملاك: «لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما، وابن العلي يدعي، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية". (لوقا 1: 26 - 33)، وكذبه يوحنا وغيره فقال: "فحينئذ أخذ بيلاطس يسوع وجلده. وضفر العسكر إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه، وألبسوه ثوب أرجوان، وكانوا يقولون: «السلام يا ملك اليهود!». وكانوا يلطمونه. فخرج بيلاطس أيضا خارجا وقال لهم: «ها أنا أخرجه إليكم لتعلموا أني لست أجد فيه علة واحدة». فخرج يسوع خارجا وهو حامل إكليل الشوك وثوب الأرجوان. فقال لهم بيلاطس: «هوذا الإنسان!». فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا قائلين: «اصلبه! اصلبه!». قال لهم بيلاطس: «خذوه أنتم واصلبوه، لأني لست أجد فيه علة». أجابه اليهود: «لنا ناموس، وحسب ناموسنا يجب أن يموت، لأنه جعل نفسه ابن الله». فلما سمع بيلاطس هذا القول ازداد خوفا. فدخل أيضا إلى دار الولاية وقال ليسوع: «من أين أنت؟». وأما يسوع فلم يعطه جوابا. فقال له بيلاطس: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟» أجاب يسوع: «لم يكن لك على سلطان البتة، لو لم تكن قد أعطيت من فوق. لذلك الذي أسلمني إليك له خطية أعظم". (يوحنا 19: 1ـ 11).

 وهذا تكاذب قبيح؛ لأن أحدهما يقول: إن يسوع يملك على بني إسرائيل، والآخر يصفه بصفة ضعيف ذليل.

موضع آخر: قال لوقا: "وظهر له ملاك من السماء يقويه. وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض". (لوقا 22: 43، 44). ولم يذكر ذلك متى ولا مرقس ولا يوحنا وإذا تركوا ذلك لم يؤمن أن يتركوا ما هو أهم منه، فتضيع السنن وتذهب الفرائض، وترفع الأحكام، فإن كان ذلك صحيحا فكيف تركه الجماعة؟ وإن لم يصح ذلك عندهم لم يؤمن أن يدخل لوقا في الإنجيل أشياء أخر أفظع من هذا، ولعل لوقا قد صدق في نقله، فإن ظهور الملك علامة دالة وأمارة واضحة على رفع المسيح إلى السماء، وصونه عن كيد الأعداء.

ثم إن المسيح عند النصارى عبارة عن لاهوت اتحد بناسوت فصارا بالاتحاد شيئا واحدا، وإذا كان ذلك كذلك فظهور الملك ليقوى من منهما؟ فإن قالوا ليقوى اللاهوت، كان ذلك باطلا، إذ لا حاجة بالإله إلى مساعدة عبده وتقويته. وإن قالوا ليقوى الناسوت، أبطلوا الاتحاد إذ لم يبق ناسوت متميز عن لاهوت حتى يفتقر التقوية والنصرة، ثم ذلك يشعر بضعف اللاهوت عن تقوية الناسوت المتحد به، حتى احتاج إلى التقوية، وكيف يحتاج الإله إلى عبد من عبيده ليقويه، وكل عباد الله إنما قوتهم بالله عز وجل؟

موضع آخر: ذكر متى: "وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة: «هذا هو يسوع ملك اليهود». حينئذ صلب معه لصان، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار. وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: «يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك! إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب!»". (متى 27: 37 ـ40)، وذكر لوقا خلاف ذلك؛ حيث قال: "وكان الشعب واقفين ينظرون، والرؤساء أيضا معهم يسخرون به قائلين: «خلص آخرين، فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله!». والجند أيضا استهزأوا به وهم يأتون ويقدمون له خلا، قائلين: «إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك!». وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية: «هذا هو ملك اليهود». وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: «إن كنت أنت المسيح، فخلص نفسك وإيانا!» فأجاب الآخر وانتهره قائلا: «أولا أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أما نحن فبعدل، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئا ليس في محله». ثم قال ليسوع: «اذكرني يارب متى جئت في ملكوتك». فقال له يسوع: «الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس»". (لوقا 23: 35 - 43).

وهذا تكذيب لقول متى بأنهما معا كانا يعيران المسيح، ويهزآن به، وأغفل هذه القصة مرقس ويوحنا.

ومن المحال أن يحدث مثل هذا في ذلك الوقت، ولا يكون شائعا ذائعا. فإن كان صحيحا فلم تركاه؟ وإن أهملاه سهوا لم يؤمن أن يهملا شيئا كثيرا من الإنجيل ولعلهما لم يصح عندهما، والدليل على عدم صحته تناقض متى ولوقا فيه، فإن اللصين عند متى كافران بالمسيح، وعند لوقا أحدهما كافر والآخر مؤمن وذلك قبيح جدا.

2.    التناقض الواضح بين هذه الأناجيل:

قال لوقا: "قال يسوع: لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص. فمضوا إلى قرية أخرى". (لوقا 9: 56) وخالفه أصحابه فقالوا: بل قال: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا". (متى 10: 34)، وهذا تناقض وتكاذب لا خفاء فيه، ونحن ننزه التلاميذ عن هذا التناقض القبيح، والنقل غير الصحيح، إذ بعضهم يجعله جاء رحمة للعالمين، والآخرون يقولون: بل جاء نقمة على الخلائق أجمعين" [12].

هذا، ولم يقتصر التحريف على العهود الغابرة[13]، بل امتد للعصر الحاضر على يد الصهاينة، يقول الأستاذ أحمد عبد الوهاب: "رأينا فيما سبق أن العقيدة الصهيونية التي تدعو اليهود للسيطرة على العالم، والتحكم في مقدراته، قد حددت وسائلها لتنفيذ ذلك المخطط الصهيوني الرهيب.

ومن أخطر هذه الوسائل ما يتعلق بالخطة الخاصة بهدم العقائد الدينية، والتشكيك فيها عن طريق العبث بتراثها الديني وكتبها المقدسة.

ولما كان المؤتمر الديني العالمي الذي عقد بالفاتيكان في الستينيات من هذا القرن، قد أقر - بعد مجادلات وانقسامات لأسباب مختلفة - ما أصبح يعرف باسم "وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح"، فقد أثبتت تلك الوثيقة صدق توقعات معارضيها، من رجال الدين المسيحي، فقد كان رأي أولئك العلماء أن اعتراف المسيحية بما جاء بوثيقة التبرئة إنما يعني بالضرورة إعادة كتابة الأناجيل والأسفار المسيحية المقدسة، حتى تتطابق عقائد الكنيسة في القرن العشرين مع عقائدها في القرن الأول للمسيحية.

وهذا ما حدث بالفعل، فقد تكفلت إسرائيل - التي تمثل تجسيد العقيدة الصهيونية - بذلك، فقامت بإعادة كتابة الأناجيل والرسائل المقدسة وحرفتها بأن غيرت فيها، وبدلت؛ حتى تقترب في صورتها المحرفة مع ما جاء في وثيقة التبرئة. ولقد صدرت هذه الطبعة المحرفة لأسفار العهد الجديد عن "دار النشر اليهودية" بالقدس في عام 1970م، وتقوم بتوزيع نسختها الإنجليزية - التي نعتمد عليها في هذه الدراسة - وكالة ريد بلندن.

تقول مقدمة الترجمة المحرفة لأسفار العهد الجديد - أو ما سوف نصطلح على تسميتها باسم "النسخة الإسرائيلية" وذلك للتمييز بينها وبين الترجمة المسيحية المعتمدة التي سنشير إليها باسم النسخة المعتمدة - ما يلي: إن هذه الترجمة اليهودية والمعتمدة للعهد الجديد يمكن وصفها بأنها: العهد الجديد خاليا من معاداة السامية.

إن التعديلات التي أدخلت هنا على ترجمة عام 1611م الإنجليزية المعتمدة، يمكن إثباتها من المصادر الأولى، وقد اختيرت جميعها لهدف واحد هو: التخلص - بقدر ما تسمح به الحقيقة - مما تحويه تلك الكلمة النكدة والتي تهدف إلى بذر العداوة بين المسيحيين واليهود.

إن تعاليم العهد الجديد الحقيقي تتضمن المحبة، بدلا من تلك الكراهية القاتلة، وعلى هذا الأساس فإن هذه الترجمة اليهودية يحق لها أن يقال بأنها الترجمة المسيحية الصادقة، وفيما عدا ذلك من تعديلات، فإن نصوص هذه الترجمة تبقى كما هي في ترجمة 1611م، ولتجنب أي لبس فإن الحواشي المذكورة في نهاية الصفحات تبين في كل لحظة موضع الانحراف الذي حدث للترجمة المعتمدة، بحيث يمكن القول بأن هذا الكتاب يعتمد على الترجمة المعتمدة والترجمة اليهودية على السواء. إن هذه الترجمة تمثل إعلانا - تأخر كثيرا عن موعده - للتقارب بين المسيحية واليهودية.

من هذا يتبين لنا بوضوح نظرة الترجمة الإسرائيلية المحرفة لمحتويات العهد الجديد الذي قبلته الكنيسة وعلمت به وعملت من أجله طوال تسعة عشر قرنا مضت، كذلك تتحدد الخطة العامة للتحريف التي يستطيع القارئ حين يتصفح النسخة الإسرائيلية المحرفة أن يقرر أنها قد سارت على النحو الآتي:

·  محو كلمة "اليهود" من أسفار العهد الجديد - وهي الكلمة التي تكرر ذكرها 159 مرة - ثم استبدال كلمات مختلفة بها؛ في محاولة لتمييع المسئولية التي تكون قد علقت باليهود من جراء قول أو فعل نسبته إليهم تلك الأسفار، لذلك نجد كلمة "اليهود" قد محيت ثم استبدلت بها كلمات أخرى؛ مثل: مواطني ولاية اليهودية، وفيهم اليهود وغير اليهود، وهؤلاء قد أطلق عليهم "أهل اليهودية".

·  محو ما يتعلق بالشعب اليهودي باعتباره جماعة دينية ترتبط بـ "الناموس" و "المجمع" ويقوم على رأسها "الشيوخ"، و "رؤساء الكهنة" وتعرف بينها طوائف "الفريسيين" وجماعة "اللاويين"، ففي النسخة الإسرائيلية المحرفة نجد "الناموس" قد استبدل به "الكتاب المقدس"، واستبدل بالمجمع "الحكمة"، وبالشيوخ "المتشرعين، " وبرؤساء الكهنة "القسس والكهنة"، وبالفريسيين "المنعزلين" وباللاويين "المساعدين، " كذلك استبدل بمشيخة الشعب اليهودي "مثيري الرعاع"، وبالجمع أو الجميع أو المجموع من اليهود الغوغاء أو الرعاع، و "بخدام اليهود" الخدام، فقط مع إسقاط كلمة "اليهودية".

·  التخلص من كلمة "الصلب" وما يشتق منها، وذلك بتحريفها إلى كلمات أخرى قد تقترب منها في المعنى، أو لا تقترب على الإطلاق؛ مثل استبدالهم بكلمة "اصلبه" كلمات أخرى؛ نحو: "خذه" أو "أبعده"، أو "انفه"، أو "اشنقه".

·  تجنب كلمة القتل وما يشتق منها، وذلك باستبدال كلمات أقل حدة بها؛ ككلمات: يدين أو ينفي أو يأخذ أو يضايق أو ينكر أو يقاوم.

·  محو الفقرات التي تلقى مسئولية دم يسوع على اليهود وأولادهم من بعدهم، واستبدال فقرات أخرى بها تحمل المصلوب وزر[14] دمه المراق.

·  تحميل الرومان مسئولية حادثة الصلب بعد تخليص اليهود منه، وذلك بتحريف الفقرات التي تلصق تلك المسئولية باليهود، أو بالشعب اليهودي، وإلصاقها بالحاكم الروماني بيلاطس، رغم ما تقرره أسفار العهد الجديد بوضوح لا يحتمل اللبس من أن بيلاطس حاول إنقاذ يسوع، وإطلاق سراحه، هدية من السلطة الرومانية الحاكمة للشعب اليهودي في عيده، فلم يصلح حتى اضطر إلى أن أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلا: إني بريء من دم هذا البار.

·  تحريف الفقرات التي خاطب بها تلاميذ المسيح اليهود مباشرة، وأدانوهم فيها لمواقفهم الإجرامية من المسيح، وذلك بتحويلها من صيغة ضمير المخاطب الحاضر إلى صيغة ضمير الغائب، فاستبدل بالضمير "أنتم"؛ الضمير "هو" حتى تضيع المسئولية في تحديد من "هم".

هذا، ولسوف نعرض فيما يلي عينات ونماذج لما أصاب أسفار العهد الجديد من تحريف على يد المحرفين الإسرائيليين، وقد بلغت جملتها 636 تحريفا، مع الإشارة إلى أن الأعداد - التي تبين مقدار ما أصاب أي سفر من التحريف - قد أحصيت من الهوامش المذكورة في النسخة الإسرائيلية المحرفة، وهي لذلك تعتمد على أمانة القائمين على التحريف في رصد تلك الحواشي، إن كان لهم بقية من أمانة يمكن الإشارة إليها في حديث.

ثم يورد الأستاذ أحمد عبد الوهاب نماذج التحريف، التي نقتبس منها ما يلي:

1.       تشتمل الترجمة المحرفة لإنجيل متى على 91 تحريفا موزعة على إصحاحاته الثماني والعشرين، لكن أكثر هذه التحريفات وأخطرها - ولا شك - هو ما حدث للإصحاحات الأخيرة، وخاصة الإصحاح السادس والعشرين والإصحاح السابع والعشرين، وهما اللذان يرويان أحداث الصلب، وما سبقها من دسائس ومؤامرات وفيما يلي نماذج لبعض ما عاناه هذا الإنجيل من تحريف.

تقول النسخة المعتمدة: "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له". (متى2: 1، 2). [15] وفي هذا تقول النسخة الإسرائيلية: "قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهودية". ونقرأ في النسخة المعتمدة: "ولكن احذروا من الناس، لأنهم سيسلمونكم إلى مجالس، وفي مجامعهم يجلدونكم ". (متى10: 17). وهذه تقرأ في النسخة الإسرائيلية: "وفي محاكمهم يجلدونكم".

وتقول النسخة المعتمدة: "من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل، وفي اليوم الثالث يقوم ". (متى16: 21). وهذه يناظرها في النسخة الإسرائيلية: "يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرا من المتشرعين الكهنة والكتبة".

 وفي نذير المسيح إلى الكتبة والفريسيين - فرق يهودية - تقول النسخة المعتمدة: "أيها الحيات أولاد الأفاعي! كيف تهربون من دينونة جهنم؟ لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم، وتطردون من مدينة إلى مدينة". (متى23: 33، 34). لكن النسخة الإسرائيلية تحاول الهرب من كلمة "الصلب" ولذلك تقول: "ها أنا أرسل إليكم أنبياء، فمنهم تقتلون وتشنقون، ومنهم تجلدون في محاكمكم".

ولما قررت العصابة التي تحكم الشعب اليهودي التخلص من المسيح، تجد النسخة المعتمدة تقول: "حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة الذي يدعى قيافا، وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه". (متى26: 3، 4). لكن النسخة الإسرائيلية تحاول التخفيف من هدف المؤامرة على المسيح فتحرف كلمة القتل إلى النفي أو الإبعاد، ولذلك نقرأ فيها الفقرة السابقة هكذا: "وتشاوروا لكي يمسكوا بيسوع بمكر وينفوه".

لقد تظاهر جمع كثير من الشعب اليهودي ضد المسيح ساعين للقبض عليه توطئة لقتله. وفي هذا تقول النسخة المعتمدة: "وفيما هو يتكلم، إذا يهوذا أحد الاثنى عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلا: الذي أقبله هو هو. أمسكوه". (متى 26: 47، 48).

ولما كانت النسخة المعتمدة تقرر أن تلك الجموع الثائرة ضد المسيح هي جموع يهودية كانت تلتقي به في الهيكل وتستمع إلى تعليمه، وذلك حين تقول: "في تلك الساعة قال يسوع للجموع: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني". (متى26: 55).

 لذلك لجأت النسخة الإسرائيلية - في محاولة لتمييع القضية ومنع تحديد المسئولية - إلى استبدال كلمة "رعاع" بكلمة "جمع" مع إسقاط كل ما يشير إلى أن هذا الجمع الكثير من الشعب اليهودي، قد جاء من عند قادته، وذلك بحذف الفقرة التي تقول: "من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب"، وبهذا صارت النسخة الإسرائيلية تقرأ هكذا: "وفيما هو يتكلم إذا يهوذا أحد الاثنى عشر قد جاء ومعه رعاع كثير بسيوف وعصي، والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلا: الذي أقبل هو هو، أمسكوه".

وأخيرا - وليس آخرا - ونحن نأتي إلى المثل الأخير لما أصاب إنجيل متى من تحريف، فإننا نأتي كذلك إلى بيت القصيد الذي من أجله نسجت - ولا تزال تنسج إلى الآن - المؤامرات الدينية والسياسية، ألا وهو تقرير أن دم يسوع يتحمل إثمه يسوع نفسه وليس أحد سواه، ولئن صح ذلك فلا بد أن تزول عن اليهود، وعن أولادهم من بعدهم كل مسئولية تتعلق بتلك الجريمة النكراء، وما على العالم المسيحي - بعد هذا التحريف - إلا أن يبكي على المآسي والنكبات التي ذاقتها اليهود من جراء خطيئة تقرر خطأ - منذ ما يقرب من ألفي عام - تحميلهم تبعتها!!

ففي محاولة من الوالي الروماني لفك أسر يسوع وتخليصه من القتل، تذكر النسخة المعتمدة ما جرى بينه وبين اليهود من محاولات كان آخرها حين قال الوالي: "وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا قائلين: «ليصلب!» فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئا، بل بالحري يحدث شغب، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلا: «إني بريء من دم هذا البار! أبصروا أنتم!». فأجاب جميع الشعب وقالوا: «دمه علينا وعلى أولادنا». حينئذ أطلق لهم باراباس، وأما يسوع فجلده وأسلمه ليصلب". (متى27: 23 - 26). أما النسخة الإسرائيلية فإنها تقول: "قال الوالي: وأي شر عمل، فكانوا يزدادون صراخا قائلين: ليمت، فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئا بالحري يحدث شغبا، أخذ ماء وغسل يديه قدام الرعاع، قائلا: إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم، فأجاب الرعاع وقالوا: دمه عليه".

2.       وبلغت تحريفات إنجيل مرقس 52 تحريفا، وكما حدث لإنجيل متى فقد تركزت هذه التحريفات في كل ما يتعلق بأحداث الصلب، وفيما يلي عرض لبعض منها:

تقول النسخة المعتمدة: "وكانوا في الطريق صاعدين إلى أورشليم ويتقدمهم يسوع، وكانوا يتحيرون. وفيما هم يتبعون كانوا يخافون. فأخذ الاثنى عشر أيضا وابتدأ يقول لهم عما سيحدث له: ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم". (مرقس10: 32، 33). لكن النسخة الإسرائيلية خففت الحكم بالموت، وجعلته مجرد إدانة، وفي هذا تقول: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلم إلى الكهنة والكتبة فيدينونه".

3.       وبلغت تحريفات إنجيل لوقا 73 تحريفا أدخل أغلبها على قصة الصلب؛ بهدف إبعاد المسئولية عن اليهود، وإلقاء الشبهة على رعاع ذلك الشعب والطبقة الدنيا منه، مع بيان أن ثورة أولئك الرعاع ضد المسيح لم تكن تبغي صلبه، وإنما كانت تطالب بإبعاده أو التخلص منه بصورة أو بأخرى. وفيما يلي عرض لبعض ما تقوله كل من النسختين - المعتمدة والإسرائيلية - في هذا المجال.

تقول النسخة المعتمدة: "وقرب عيد الفطير، الذي يقال له الفصح. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه، لأنهم خافوا الشعب". (لوقا 22: 1، 2). وتقول النسخة الإسرائيلية: "وكان الكهنة والكتبة يطلبون كيف يضايقونه". وفي بدء أحداث الصلب، تقول النسخة المعتمدة: "وبينما هو يتكلم إذا جمع، والذي يدعي يهوذا، أحد الاثنى عشر، يتقدمهم، فدنا من يسوع ليقبله". (لوقا 22: 47). وتقول النسخة الإسرائيلية: "وبينما هو يتكلم إذا رعاع والذي يدعي يهوذا"، وتقول النسخة المعتمدة: "ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب: رؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوه إلى مجمعهم". (لوقا 22: 66). بينما تقول النسخة الإسرائيلية: "ولما كان النهار اجتمع مثيرو الرعاع والكهنة والكتبة وأصعدوه إلى مجمعهم". ونقرأ في النسخة المعتمدة: "فقام كل جمهورهم وجاءوا به إلى بيلاطس". (لوقا 23: 1). بينما تقرأ ذلك في النسخة الإسرائيلية: "فقام كل رعاعهم، وجاءوا به إلى بيلاطس".

4.       ويعد إنجيل يوحنا أكثر الأناجيل تحريفا، فقد بلغت جملة تحريفاته 135، وما ذلك إلا لأن الخط العام الذي سار عليه المحرفون هو محو كلمة "اليهود" التي تكررت فيه 153 مرة، وهو رقم يزيد عن عشرة أمثال ورودها في أي من الأناجيل الثلاثة السابقة؛ لذلك فاز إنجيل يوحنا بأكبر عدد من التحاريف. وفيما يلي عرض لبعض ما تذكره كل من النسختين - المعتمدة والإسرائيلية - في مختلف المواقف والروايات:

تقول النسخة المعتمدة: "وهذه هي شهادة يوحنا، حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه: «من أنت؟». فاعترف ولم ينكر، وأقر: «إني لست أنا المسيح»". (يوحنا 1: 19، 20). وتقول النسخة الإسرائيلية: "وكان الفصح اليهودي قريبا، فصعد يسوع إلى أورشليم". وتقول النسخة المعتمدة: "كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس، رئيس لليهود". (يوحنا 3: 1). وتقول النسخة الإسرائيلية: "كان إنسان من المنعزلين اسمه نيقوديموس رئيسا للعبريين".

 وحين شفي المسيح مريضا في السبت، تقول النسخة المعتمدة: "ولهذا كان اليهود يطردون يسوع، ويطلبون أن يقتلوه، لأنه عمل هذا في سبت. فأجابهم يسوع: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل». فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضا: إن الله أبوه، معادلا نفسه بالله". (يوحنا 5: 16ـ 18). لكن النسخة الإسرائيلية تقول في ذلك: "لهذا كان أهل اليهودية يطردون يسوع ويطلبون أن يضايقوه؛ لأنه عمل هذا في السبت، فمن أجل هذا كان أهل اليهودية يطلبون أكثر، أن يضايقوه".

كذلك تقول النسخة المعتمدة: "وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل، لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه". (يوحنا 7: 1). بينما تقول النسخة الإسرائيلية: "وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل؛ لأنه لم يرد أن يتردد في ولاية اليهودية؛ لأن أهل اليهودية كانوا يطلبون أن يضايقوه".

5.       وأصيب سفر أعمال الرسل بأكبر عدد من التحريفات، فقد بلغت جملتها 165 تحريفا، وترجع الزيادة في هذا الرقم لنفس السبب الذي ذكر عند الكلام على التحريف في إنجيل يوحنا، ألا وهو كثرة ذكر هذا السفر لكلمة "اليهود"، فقد تكررت 64 مرة، بالإضافة إلى سرده للمحاورات والمواجهات التي حدثت بين تلاميذ المسيح وبين اليهود، وما تطلبه ذلك من تسجيل هذا السفر لما كان يوجه من كلام إلى اليهود بطريق مباشر، أو ما كان يقال عنهم، بطريق غير مباشر.

تقول النسخة المعتمدة: "فوقف بطرس مع الأحد عشر ورفع صوته وقال لهم: أيها الرجال اليهود والساكنون في أورشليم أجمعون، ليكن هذا معلوما عندكم وأصغوا إلى كلامي... أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم، كما أنتم أيضا تعلمون. هذا أخذتموه مسلما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه". (أعمال الرسل 2: 14ـ 23). لكن النسخة الإسرائيلية تقذف بهذا الاتهام الصريح بعيدا عن الإسرائيليين وتلصقه بكل جرأة بالرومان، وذلك حين تقول: "وقف بطرس مع الأحد عشر ورفع صوته وقال: هذا أخذتموه مسلما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وقد صلبته أيدي الرومان وقتلته".

واستمرارا لحديث بطرس السابق إلى الإسرائيليين، تقول النسخة المعتمدة: "فليعلم يقينا جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا، الذي صلبتموه أنتم، ربا ومسيحا". (أعمال الرسل 2: 36). بينما تقول النسخة الإسرائيلية: "ليعلم يقينا أن الله جعل يسوع هذا المصلوب، ربا ومسيحا".

هل - بعد كل هذا - لا يزال هناك موضع ومبرر لعاقل يحترم عقول الناس وأفهامهم لأن يدعوهم إلى تقديس الإنجيل - بوضعه الحالي - والتبرك بقراءته؟‍‍‍‍!! صدق من قال: اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، وربما تصدق أنت نفسك من طول تعهدك الكذب وإلفك إياه.

يا الله يا حي يا قيوم يا واهب الإنسان العقل ومكرم بني آدم به من بين خلقك، أهذا مضمون كتاب - فيه ما فيه من دس وتحريف وخداع وتمويه - يستحق أن ينسب لبشر عاقل. فضلا عن أن يعد كتابا سماويا مقدسا يستأهل من الناس التقديس والاحترام، أم هو مجرد إثبات وجود، وحفاظ على مكاسب، تحققت لفئة من السدنة عبر التاريخ؟!!

ثالثا. الإنجيل الصحيح بشر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا خاتما وبالقرآن ناسخا:

لو كان الإنجيل حقا - بحالته الآن - سليما من عبث العابثين ويستحق التقديس، لآمن أهله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا خاتما ورحمة للعالمين، وبالقرآن كتابا سماويا مهيمنا على ما سبقه من رسالات السماء، وناسخا لما نزل قبله من كتب وصحائف. كما في البشارة عندهم بذلك، وهذا ما لم تستطع يد التحريف إخفاءه إخفاء تاما.

تحت عنوان "ابن الإنسان من هو" يقول الأستاذ محمد فاروق الزين بعد أن يذكر قوله تعالى: )أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين (68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69)( (المؤمنون)، وقوله عز وجل: )لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (29)( (الحديد).

تكررت الإشارة إلى ابن الإنسان في العهد الجديد نحو ثلاث وثمانين مرة في الكلام المنسوب إلى عيسى، فمن هو ابن الإنسان الذي كان يقصده عيسى في كلامه؟ ورد في سفر المزامير بالعهد القديم أنه ابن آدم؛ أي بني آدم، كما يقول مجازا عن جنس البشر؛ ففيه: "فمن هو الإنسان حتى تذكره؟ وابن آدم حتى تفتقده؟ وتنقصه قليلا عن الملائكة، وبمجد وبهاء تكلله. تسلطه على أعمال يديك. جعلت كل شيء تحت قدميه: الغنم والبقر جميعا، وبهائم البر أيضا، وطيور السماء، وسمك البحر السالك في سبل المياه". (المزامير 8: 4ـ 8).

غير أن هنالك تعريفا محددا لابن الإنسان ورد في سفر دانيال بالعهد القديم: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه. فأعطى سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة". (دانيال 7: 13، 14).

وهذا التعريف هو الأساس لفهم شخص ابن الإنسان في الكتاب المقدس، فهو المنقذ من الضلال المخلص، الذي يغير - عند مجيئه - الأوضاع القائمة.

وعموما، فإننا نجد تركيزا في تعاليم اليهود، وكتبهم ونبوءاتهم على مجيء النبي - المنقذ، الذي بزعمهم يجب أن يكون من سلالة داود النبي - الملك، وأنه عند مجيئه سوف يحرر اليهود من مضطهديهم؛ لأن ظفر المنقذ بوصفه نبيا قائدا سيكون دنيويا دينيا في الوقت نفسه.

أما معلقو الكنيسة فيودون إعطاء الانطباع المباشر أو غير المباشر، أن عيسى في أحاديثه المتكررة عن ابن الإنسان كان يشير إلى نفسه من طرف خفي، هذا على الرغم من أنه كان على ابن الإنسان المنقذ عند مجيئه، أن يفكك الأوضاع والأنظمة القائمة، وينشئ مكانها نظاما جديدا يكون فيه ابن الإنسان منقذا نبيا ملكا، أي ذا سلطة دنيوية، وليست سلطته سلطة دينية فقط، فالمفترض أن تنهار عند مجيئه السلطات الدنيوية بكل ما فيها من شرك ومن وثنية، وبكل ما فيها من إباحية لا أخلاقية وإباحية جنسية. ومن الواضح أنه - خلافا لتوقعات العامة - لم يتحقق شيء من ذلك في زمن عيسى، ولا حتى في زمن أتباعه فاليهود الذين كانوا وقتها يمثلون الديانة التوحيدية الوحيدة لم يحققوا النصر على إمبراطورية روما، مع أنهم كانوا يتطلعون إلى قدوم المخلص المنتظر؛ كي ينقذهم من جيوش روما ومن إمبراطوريتها.

ومع ذلك تلهف مؤلفو أسفار العهد الجديد على تصوير عيسى المسيح بأنه ابن الإنسان - المنقذ المظفر، لدرجة أنهم ابتدعوا في قصة دخوله الأخير إلى القدس لقبا مصطنعا محيرا ومربكا؛ إذ أطلقوا عليه صفة "الدخول المظفر إلى القدس". (يوحنا 6: 10).

رغم أن دخول عيسى إلى القدس، لم يكن له علاقة بأي ظفر ولا نوايا من جانبه لقيادة اليهود ضد إمبراطورية روما، ولا إنشاء نظام سياسي جديد، ولا القيام بأي مهمة من المهام المفترض على ابن الإنسان أن ينجزها. وإذا لم يكن ممكنا الادعاء أن المسيح هو ابن الإنسان الذي تنبأ به دانيال، لذا فقد اللقب - في أذهان مؤلفي الأسفار - أي مفهوم وأي مغزى عسكري له، وبالتالي حاولوا تجريده من أي مغزى أو دلالة سلطة دنيوية، وحولوه إلى مفهوم رمزي داخلي بحت، فأصبح اللقب عندهم رمزيا بحتا مختلفا عن صلة النبي ذي السلطة الدنيوية المشار له في سفر دانيال، وقد وجد بولس لنفسه المخرج من هذه المعضلة بأن دخل في روعه أن المسيح في مجيئه المظفر الثاني سوف يحقق ما لم يستطع تحقيقه في المجيء الأول، وبحيث تطابق أوصافه في المجيء الثاني ما تنبأ به دانيال لابن الإنسان من القوة والسلطان والمجد، وزاد بولس أن المجيء الثاني لن يكون في المستقبل البعيد بل قريبا جدا، قبل أن تدرك المنية بولس الثاني.

غير أن عيسى في أحاديثه كان يتكلم عن ابن الإنسان دوما بصيغة الغائب مشيرا بشكل خفي إلى شخص آخر غيره هو شخصيا، وهذه الصيغة وحدها هي التي يمكن أن تجعل أحاديثه منطقية، ولا بد أنه كان يشير إلى النبي الأحمد، خاتم الأنبياء والرسل - صلى الله عليه وسلم - لأنه في هذه الحالة فقط تتحقق النبوءة عن ابن الإنسان المذكورة في سفر دانيال، إذ محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده حقق صفة النبي ذي السلطة الدنيوية، فجمع بين صفات النبوة والدين والتقى، وصفات السلطة الدنيوية والقوة الظافرة.

أجاب عيسى عن سؤال رسل يحيى قائلا لهم: "فأجاب يسوع وقال لهما: «اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون»". (متى 11: 4، 5).

غير أن يحيى كان يدرك ولا شك أن هذه المعجزات الخارقة، مهما كانت باهرة، ليست كل ما هو متوقع من النبي المنتظر، كان سؤال يحيى ليس واضحا كل الوضوح: هل أنت ذلك النبي أو لا؟ هل أنت المنقذ المخلص؟ هل أنت النبي المنتظر ذو السلطة الدينية والدنيوية معا؟ وكان جواب عيسى بدوره واضحا في مغزاه: المسيح النبي ولكني لست المنقذ المخلص، لست النبي المنتظر ذا السلطة الدنيوية.

 لقد نفى عيسى بكل وضوح أن يكون هو المخلص وفي الواقع لو كان يحيى يعتقد أن عيسى هو النبي المخلص، حقا لما اضطر إلى سؤاله، ولكنه كان يتوقع ويأمل أن يكون عيسى شخصا أكثر من المسيح، كان يتمنى لو كان عيسى هو النبي المنتظر ذا السلطة الدينية والدنيوية معا، ولم يكن يحيى وحده الذي يحتضن هذا الأمل والرجاء، حتى الحواريون أنفسهم بدا عليهم الالتباس، مع أن عيسى كان يؤكد لهم باستمرار وفي أكثر من مناسبة وبلباقة، ويعرض لهم ألا يتوقعوا منه القيام بالدور الذي لم يكن مقدرا له أن يلعبه، الدور الذي كان مقدرا لغيره، كان طبيعيا ألا يقوم عيسى بمهام المخلص؛ لأنه هو نفسه لم يكن المخلص، لقد علم عيسى الناس أن يقبلوا ويتحملوا الاضطهاد، أن يقبلوا الأوضاع الراهنة، علمهم الحلم والخضوع والتوبة والاستقامة، وأن يسعوا وينشدوا مملكة الله القادمة، إذ لم يكن عصره جاهزا لقيام مملكة الله على الأرض التي يعبد فيها الله وحده والتي تمحى منها الأوثان والوثنية. كان عيسى في صلواته يدعو الله قائلا: "ليأت ملكوتك" وكان تعبير "مملكة الله" مألوفا في العهد القديم، ولا شك أن عيسى علم أتباعه أن مملكة الله سوف تتحقق فعلا لا مجازا، ولكن ليس في زمنه هو.

كان عيسى يعلم أنه بصفته المسيح يستطيع أن يجترح المعجزات، أما النبي المنتظر فكان يتوقع منه غير ذلك، النبي المنتظر يجب أن يكون ابن الإنسان المذكور في سفر دانيال، النبي المخلص الذي يفتتح عصرا جديدا في تاريخ البشرية، الذي يقهر أعداءه ويقضي على الشرك والوثنية، وينشئ مملكة الله على الأرض التي لا يعبد فيها إلا الله عز وجل، إنه النبي الأحمد العلم الذي بشر به عيسى بالاسم، وكان مقدرا له أن يبعث بعده بستة قرون.

في بداية بعثته اتخذ عيسى لنفسه مقرا في "كفر ناحوم" وهي قرية على الشاطئ الشمالي لبحر الجليل - بحيرة طبريا - سكانها خليط من الأهالي والرومان والرسميين من الحكام، فلم تكن القرية من هذه الناحية مناسبة لمتمرد أو لثائر أن يتخذها مقرا له، بل على العكس كانت مناسبة لمن أراد التهدئة والدعوة إلى ضبط النفس.

لم يدع عيسى قط أنه النبي المنقذ، إذ لم يكن مقدرا له إنقاذ شعبه من إمبراطورية روما ولا إعادة بناء مملكة داود، وهو طيلة مدة بعثته القصيرة لم يبد من جانبه أدنى ملاحظة أو تلميح في خطاباته وأحاديثه، ولا في أفعاله وتخطيطه لما يوحي بأي دلالة يمكن أن يفهم منها أنه النبي المنقذ، وهو لهذا السبب بالذات تجنب أن يدعو الناس للمواجهة، بل على النقيض من ذلك نرى كل تعاليمه تتركز على المسالمة والتهدئة، وخاصة عند لقائه مع ثوار الجليل، ومع المتحمسين لطرد الرومان من فلسطين، فكان يحذرهم مرة بعد أخرى من الثورة والعصيان المسلح، ومن أقواله: "أحب عدوك ولا تجابه[16] الشر" و "من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أكرهك على السير معه ميلا سر معه ميلين".

لقد أنذر اليهود صراحة وعمدا ألا يسلكوا سبيل العنف، والثورة ولا الرد على الشر بالمثل.

ولا يمكن أن يفوتنا في أحاديث عيسى وخطاباته إنكاره المتكرر لمن اعتقد فيه شخصية المنقذ. وفي حادثة مهمة من هذا القبيل حاول تهدئة مجموعة من الثوار قوامها نحو خمسة آلاف تبعوه إلى الجليل؛ كي يجعلوا منه قائدا لهم، معتقدين أنه النبي المنقذ، وهي الحادثة التي قام خلالها بمعجزة أرغفة الخبز؛ ففي إنجيل يوحنا: "فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه، فقال لفيلبس: «من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء؟» وإنما قال هذا ليمتحنه، لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل. أجابه فيلبس: «لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا». قال له واحد من تلاميذه، وهو أندراوس أخو سمعان بطرس: «هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان، ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟» فقال يسوع: «اجعلوا الناس يتكئون». وكان في المكان عشب كثير، فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف. وأخذ يسوع الأرغفة وشكر، ووزع على التلاميذ، والتلاميذ أعطوا المتكئين. وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا. فلما شبعوا، قال لتلاميذه: «اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء». فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر، من خمسة أرغفة الشعير، التي فضلت عن الآكلين. فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم". (يوحنا 6: 5 - 14).

ومغزى هذه القصة شديد الأهمية، ويتمحور حول قول عيسى للثوار اليهود "ليجلس الرجال"؛ فقد كان هناك مغزى عملى في كلامه شديد الوضوح، لقد أنذر الرجال كي لا يستولي عليهم الوهم، بأن الوقت قد حان لثورة أخرى ضد روما، وكي لا يظنوا أن عيسى جاءهم قائدا عسكريا، أو منقذا لهم من الاضطهاد، فأمرهم أن يجلسوا وأطعمهم من خمسة أرغفة، وسمكتين، أرادهم أن يفهموا أن الوقت لم يحن بعد لمجيء النبي المخلص، وأفهمهم ألا يسلكوا طريق العنف؛ لأنه لا يفيدهم سوى الدمار، وبينما هو يعظهم بمملكة الله القادمة التي لم يكن مقدرا له أن يقودها، كانوا بالمقابل لشدة حماسهم يتوقون[17] أن يكون هو منقذهم ومخلصهم، يتشوقون أن يقودهم ضد إمبراطورية روما دون انتظار، لقد سيطر عليهم الوهم بأنه النبي المنتظر، وهو ما أراد عيسى نفسه أن ينفيه عن نفسه.

كانت رسالته إلى بني إسرائيل مختصرة ومفهومه، قال لهم: "ليجلس الرجال"، فلم يكن عيسى المخلص، ولم يدع أنه المخلص، لقد بشرهم بمملكة الله التي سوف تنشأ في المستقبل، ومن هنا فقط نستطيع أن نفهم دعاءه المتكرر في الصلاة "ليأت ملكوتك" بصيغة المستقبل.

كانت مجموعة الرجال التي حاول عيسى تهدئتها في الجليل نموذجا لشعب إسرائيل المتمرد، ولشدة عنادهم لم يفهموا الرسالة، ولم يستوعبوا كلام عيسى، ولا المغزى من معجزة أرغفة الخبز، وربما فهموا النقيض من ذلك؛ إذ قالوا: "فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: «إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم»، "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا، انصرف أيضا إلى الجبل وحده". (يوحنا 6: 15). أي عندما فشل في إقناع ذوي العقول العنيدة بحقيقة مهمته وبحقيقة بعثته، وخوفا أن يظنوا أنه ملك دنيوي، توارى عنهم نحو الجبل، واختفى عن ناظرهم.

فمن المحزن أن إيضاح عيسى المتكرر لجمهوره عن طبيعة مهمته، وتحذيره لهم ألا يسيئوا فهم بعثته وألا يعلقوا عليها آمالا للخلاص من روما عسكريا، ومحاولته أن يوازن تطلعاتهم بشتى الوسائل - كل ذلك لم يفلح لا على المستوى المحلي بين أفراد شعبه اليهود، ولا بعد وفاته على المستوى الهلنستي في العالم اليوناني الروماني، فلم يكتف اليهود بأن أساءوا فهم رسالة عيسى، بل أصروا على تمردهم وعصيانهم المسلح ضد روما حتى سبب ذلك الكوارث لهم في عام 70م، وعام 135م، ومن جهة أخرى في العالم الهلنستي أصر بولس على الاعتقاد أن عيسى كان مخلصا فعلا، ولكن بشكل خفي وغامض وميثولوجي، من حيث إنه خلص العالم من الخطايا، أما الخلاص على الأرض، فكان المفترض أن يتحقق قبل أن يموت بولس - حسب نبوءة بولس نفسه - عندما يعود عيسى في مجيئه الثاني بصورة ابن الإنسان فيهزم روما عسكريا وينشئ مملكة الله على الأرض بزعامته، ثم إن هذا النمط من التنبؤات - رغم فشله - تكرر من قبل يوحنا العراف اللاهوتي في كتابه سفر الرؤيا، الذي صار فيما بعد سفرا من أسفار العهد الجديد.

وهكذا أدى إصرار معاصري عيسى على الخلط بين شخصية المسيح، وشخصية "النبي المنتظر المنقذ" وعدم فهمهم لطبيعة بعثته، بل رفضهم لها - إلى عواقب وخيمة على كل الجهات، ففي فلسطين هزم اليهود والذين رفضوا الإيمان بعيسى على يد الرومان وتشتتوا في أنحاء الأرض، وفي الوقت نفسه تشتت معهم النصارى الذين آمنوا بعيسى على حقيقته، وبسبب تشتت النصارى وظهور بولس على مسرح الأحداث فقد النصارى السيطرة على مجريات الأمور، ففي العالم الهلنستي انحرفت رسالة عيسى عن هدفها الأساسي بالكامل، وحلت محلها ديانة غامضة من صنع بولس، ثم كان على العالم الانتظار ستة قرون لإعادة الأمور إلى نصابها بظهور الإسلام.

ومما يلفت النظر في دخول عيسى المظفر إلى القدس - كما يحلو للكنيسة أن تصفه - بعد معجزة أرغفة الخبز في الجليل ببعض الوقت نقطة ذات شقين:

1.  أن دخول القدس تم بعد أن توارى عيسى عن أنظار ثوار الجليل - خمسة آلاف - الذين حاولوا تنصيبه ملكا، بمعنى أن الذي رفض من الجماهير تنصيبه ملكا لا يدخل القدس بهذه الصفة.

2.  أن عيسى تعمد أن يدخل القدس وهو يركب حمارا - وليس حصانا - مما يعني أنه لم يأت فاتحا لتأسيس مملكة دنيوية، ومع ذلك توهمت الجماهير أنه المخلص النبي المنتظر، فتجمع الناس حوله، وجعلوا يهتفون "أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب! مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب! أوصنا في الأعالي". (مرقس 11: 9، 10). "والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا لابن داود! مبارك الآتي باسم الرب! أوصنا في الأعالي". (متى 21: 9). ذلك بالرغم من نفيه القاطع أن يكون ابنا لداود "ثم أجاب يسوع وقال وهو يعلم في الهيكل: «كيف يقول الكتبة: إن المسيح ابن داود؟ لأن داود نفسه قال بالروح القدس: قال الرب لربي: اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك. فداود نفسه يدعوه ربا. فمن أين هو ابنه؟» وكان الجمع الكثير يسمعه بسرور". (مرقس 12: 35 - 37، متى 22: 41 - 45، لوقا 20: 41).

أراد عيسى بدخوله القدس على حمار أن يفهم اليهود أنه لم يأت فاتحا، أراد منهم أن يتخلصوا من الأوهام، وأعلمهم أنهم يجلبون الدمار إلى أنفسهم بعقليتهم العنيدة وسلوكهم الطائش، وهي الرسالة نفسها التي حاول إيصالها لعقولهم يوم اجتمع عليه في الجليل خمسة آلاف من الثوار فأمرهم بالجلوس وأطعمهم خبزا وسمكا.

وزيادة في الإيضاح فإنه بعد أن دخل القدس لم يزد على أن ذهب إلى المعبد فنظر حوله، ثم غادر مع الحواريين الاثنى عشر "فدخل يسوع أورشليم والهيكل، ولما نظر حوله إلى كل شيء إذ كان الوقت قد أمسى، خرج إلى بيت عنيا مع الاثنى عشر". (مرقس 11: 11)؛ فلم يكن دخوله إلى القدس سوى بادرة رمزية توحي بالسلام، لا الحرب.

وقد نسبوا إلى عيسى القول: "الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه". (متى 11: 11، لوقا 7: 28). وقد أعيت هذه العبارة معلقي الكنيسة لقرون طويلة وحيرتهم، فمنهم من قال هي مقارنة بين مستقبل النخبة وبين عظمة يحيى، وآخرون فهموا مملكة الله، بأنها تشمل أرواح المؤمنين بعيسى بالمقارنة مع حياة يحيى على الأرض، وآخرون اعتقدوا أن عيسى هو الأصغر لجهة كونه عبد الله. وعلى أية حال لا يمكن القبول أن عيسى كان يقصد نفسه؛ لأن مملكة الله لم تتحقق في أيامه، وحتى لو تحققت - كما يزعم البعض - لاستحال أن يكون هو أصغر من فيها؛ إذ يكون عندئذ مؤسسها.

يكمن مفتاح تفسير هذا القول في كلمة "الأصغر"؛ ففي اللغة الآرامية والعربية والعبرية تحمل الكلمة معنى: "الأخير زمنيا" أو "الأصغر في مجموعة مسلسلة". والترجمة الآرامية السريانية للعهد الجديد - الطبعة البسيطة - تستخدم كلمة "زغيرا" التي تقابل كلمة "صغير" بالعربية بمعنى: الأصغر سنا، ولا بد للكنيسة أن تعترف أن عيسى لم يكن آخر الأنبياء، وبالتالي فهو ليس أصغرهم زمنيا، فمن يكون إذن آخر الأنبياء، وخاتمهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنه قطعا وبلا جدال آخر الأنبياء، فهو بالتالي أصغرهم زمنيا، ومع ذلك فهو أعظمهم، مقارنة مع أي منهم؛ لأن العمل الضخم الذي أنجزه أعظم من الأعمال التي قام بها الأنبياء قبله مجتمعين" [18].

فإذا كان الإنجيل الموجود حاليا على هذه الصورة التي تابعناها تفصيلا، من التحريف والتزييف والتبديل والتغيير لفظا ومعنى بشهادات شهود من أهله قبل أهلنا، وإذا كان هذا الإنجيل نفسه - في أصله الصحيح قبل التحريف وفيما لم تستطع الأيدي المزيفة إطفاءه تماما - قد بشر بالإسلام رسالة خاتمة ناسخة وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا خاتما - فهل هناك مجال للقول الآن بأن هذا الإنجيل، بوضعه الحالي، محل للتقديس والتعبد به من قبل النصارى وغير النصارى؟!

الخلاصة:

·   القرآن يقر الإنجيل في أصله السماوي الصحيح، أي الذي أنزل على عيسى - عليه السلام - قبل أن يدخله التحريف.

·   الإنجيل بمضمونه الحالي ليس كتابا سماويا صحيحا؛ فللكتاب السماوي الصحيح مواصفات غير متحققة في الأناجيل الحالية.

·   الأناجيل الحالية أصابها التحريف لفظا ومعنى، وقد اعترف بذلك شهود من أهلها، وأقام علماء المسلمين الشواهد عليه من نصوص الأناجيل، والرسائل في العهدين القديم والجديد.

·   لم يقتصر التحريف على الأزمنة القديمة، بل امتد للعصر الحديث؛ إذ طبعت إسرائيل طبعة محرفة منها، حذفت منها كثيرا مما يمس اليهود، بعد تبرئة الكنيسة لهم من دم المسيح، ولم ترفع الكنيسة صوتا بالاعتراض.

·   الإنجيل الصحيح بشر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا خاتما، وبالقرآن ناسخا، وما زال وميض خافت من هذه البشارة يتردد صداه في ثنايا الأناجيل الحالية؛ إذ لم تستطع يد التحريف طمس الحقيقة تماما، فالأولى بالآخرين اتباع القرآن، لا دعوتنا إلى الإيمان بهذا الإنجيل المحرف المزيف.

 

 



(*) مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2005م.

[1]. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، د. م، ط1، 1993م، ص51: 54.

[2]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص71، 72.

[3]. معنيين: مقصودين.

[4]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص71 وما بعدها.

[5]. نوائم: نوفق.

[6]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص90.

[7]. الهزال: الضعف.

[8]. موقف ابن تيمية من النصرانية، د. مريم عبد الرحمن زامل، معهد البحوث بجامعة أم القرى، مكة الكرمة، ط1، 1997م، ص83 وما بعدها.

[9]. المهيمن: المسيطر.

[10]. موقف ابن تيمية من النصرانية، د. مريم عبد الرحمن زامل، معهد البحوث، جامعة أم القرى، الرياض، ط1، 1997م، ص124 وما بعدها.

[11]. انخرام: افتقاد وضياع.

[12]. تخجيل من حرف التوراة والإنجيل، أبو البقاء الهاشمي، تحقيق: د. محمود قدح، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1998م، ج1، ص283 وما بعدها.

[13]. الغابرة: القديمة.

[14]. الوزر: الذنب.

[15]. إسرائيل حرفت الأناجيل، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1997م، ص41 وما بعدها.

[16]. تجابه: تواجه.

[17]. يتوقون: يتشوقون.

[18]. المسيحية والإسلام والاستشراق، محمد فاروق الزين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2003م، ص193 وما بعدها.

 

redirect how do i know if my wife cheated unfaithful wives
wives that cheat redirect read here
click read dating site for married people
where to order viagra online buy cheap deal online viagra viagra viagra sipari verme
viagra vison loss vasodilator viagra read
why wife cheat percentage of women who cheat why women cheat in relationships
website why are women unfaithful redirect
dating a married woman unfaithful spouse i cheated on my husband
read here my husband cheated on me why women cheat on men
مواضيع ذات ارتباط

أضف تعليقا
عنوان التعليق
نص التعليق
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء كاتبيها فقط ولا تعبر عن الموقع
 
 
 
  
المتواجدون الآن
  14419
إجمالي عدد الزوار
  36584651

الرئيسية

من نحن

ميثاق موقع البيان

خريطة موقع البيان

اقتراحات وشكاوي


أخى المسلم: يمكنك الأستفادة بمحتويات موقع بيان الإسلام لأغراض غير تجارية بشرط الإشارة لرابط الموقع