اسم المقالة:
الزعم بأن المجاز في القرآن من قبيل الكذب
المؤلف:
الزعم بأن المجاز في القرآن من قبيل الكذب
استدلَّ المدَّعون
على هذا ببعض المجازات القرآنية، نحو قوله تعالى: {فَوَجَدَا
فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}(الكهف: 77).
وقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} (يوسف: 82).
قالوا: الجدار لا يريد، والقرية لا تُسْأَل.
وادِّعاء أن المجاز كذب هو الكذب عينه؛ لأن معنى المجاز: طريق القول ومأخذه وضروب
تصريفه، مأخوذ من جاز مجازًا، نحو قام مقامًا1.
وقد عقد ابن الأثير في "المثل السائر" فصلاً للرد على منكري المجاز، وكذا فعل ابن
قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" و ابن جني في
"الخصائص": وغيرهم من علماء اللغة والبلاغة2.
وللمجاز في القرآن الكريم ـ وفي اللغة عمومًا ـ ضوابط، وفوائد، فأما ضوابطه فقد
لخصها ابن قتيبة في قوله: "فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة إذا كان المسمى
بها: بسبب من الآخر، أو مجاورًا له، أو مشاكلاً"3.
ولا بد في المجاز من قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، كي تسقط الشبهة4،
ويتحدد المراد في المعنى المجازي دون الأصلي.
وأما قيمة المجاز وفوائده فيلخصها ابن جني في قوله: "وإنما يقع المجاز ويعدل إليه
عن الحقيقة لمعان (أي أغراض) ثلاثة وهي: الاتساع،
والتوكيد، والتشبيه، فإن عدمت هذه الأوصاف كانت (أي وجبت)
الحقيقة ألبتة"5.
وكل مجاز حسن فهو يُوجِبِ بيانًا لا تنوب مَنَابَه الحقيقة، ولو أغنت الحقيقة عن
المجاز لكانت أوْلَى، وكل ما جاء في القرآن من مجازات لا تقوم الحقيقة مقامه، وهذه
أمثلة من المجاز القرآني كما شرحها "الرماني":
قال عز وجل: {فَاصْدَعْ بما تؤمر} (الحجر:
94). حقيقته: فَبَلِّغْ ما تؤمر به، والاستعارة أبلغ من الحقيقة، لأَن الصدع
بالأَمر لا بد له من تأْثير كتأثير صدع الزجاجة، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكونَ له
تأثير فيصير بمنزلة ما لم يقع. والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أَن الإِيصال
الذي له تأثير كصدع الزجاجة أَبلغ.
وقال عز وجل: {إنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي
الْجَارِيَةِ} (الحاقة: 11). طغى حقيقته:
عَلاَ، والاستعارة أَبلغ لأَن طغى معناه: عَلاَ قاهرًا، وهو مبالغة في عِظَم الحال.
وقال عز وجل: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عَاتِيَةٍ} (الحاقة: 6). عاتية حقيقته: شديدة،
والعتُوُّ أَبْلغُ منه لأَنِّ العتوّ شدة فيها تَمرُّد.
وقال تعالى: {سَمِعُوا لها شهيقاً وهى تفورُ* تكَادُ
تمَيِّزُ من الْغَيظِ} (الملك: 7 ـ 8) شهيقًا
حقيقته: صوتًا فظيعًا كشهيق الباكي، والاستعارة أبلغ منه وأوجز، والمعنى الجامع
بينهما قبح الصوت، (تميز من الغيظ) حقيقته: من شدة
الغليان بالاتقاد، والاستعارة أبلغ منه، لأَن مقدار شدة الغيظ. على النفس محسوس
مدرك مدى ما يدعو إليه من شدة الانتقام، فقد اجتمع شدة في النفس تدعو إلى شدة
انتقام في الفعل، وفى ذاك أعظم الزجر وأكبر الوعظ، وأَدَلُّ دليل على سعة القدرة
وموقع الحكمة. ومنه قوله عز وجل:{إِذَا رَأَتْهُم مِّن
مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} (الفرقان:
12) ، أى تَسْتَقْبلُهُم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزْفر غيظًا عليهم.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 4)،أم الكتاب
حقيقته: أصل الكتاب، وهو أَبلغ؛ لأَن الأمَّ أَجمَعُ وأَظهر فيما يُرَدُّ إليه
مِمَّا ينشأَ عنه.
وقال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ
الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ
يَرْهَبُونَ} (الأعراف: 154)، وحقيقته انتفاء
الغضب، والاستعارة أبلغ لأَنه انتفى انتفاء مُراصدٍ بالعودة، فهو كالسكوت على
مراصدة الكلام بِما تُوجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره،
والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره.
وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} (المدثر:
11). ذرني هنا مستعار، وحقيقته: ذر عقابي ومن خلقت وحيدًا بترك مسألتي فيه،
إلا أَنه أُخْرِجَ لتفخيم الوعيد مخرج: ذرني وإياه؛ لأَنه أَبلغ، وإن كان الله
تعالى لا يجوز عليه المنع، وإنما صار أبلغ لأنه لا منزلة من العقاب إلا وما يقدر
الله تعالى عليه منها أعظم. وهذا أعظم ما يكون من الزجر.
وقال تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ}
(الرحمن: 31)، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن،
ولكن هذا أبلغ في الوعيد، وحقيقته: سنعمد، إلا أَنه لَمَّا كان الذي يعمِد إلى شيء
قد يْقَصِّر فيه لشغله بغيره معه، وكان الفراغ له هو البالغ في الغالب مما يجرى به
التعارف، دلَّنا بذلك على المبالغة من الجهة التي هي أَعرف عندنا؛ ليقع الزجر
بالمبالغة التي هي أعرف عند العامة والخاصة موقع الحكمة.
وقال تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم:
4). أصل الاشتعال للنار وهو في هذا الموضع أبلغ، وحقيقته كثرة شيب الرأس،
إلا أَن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدًا سريعًا صارت في الانتشار والإسراع كاشتعال
النار، وله موقع في البلاغة عجيب، وذلك أنه انتشر في الرأس انتشارًا لا يُتَلافَى
كاشتعال النار.
وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ
فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:
18). فالقذف والدمغ هنا مستعار وهو أَبلغ، وحقيقته: بل نورد الحق على الباطل
فيُذهِبُه، وإنما كانت الاستعارة أبلغ لأن في القذف دليلاً على القهر، فالحق يلقى
على الباطل فيزيله على جهة القهر والاضطرار لا على جهة الشك والارتياب، ويدمغه
أَبلغ من يُذهِبهُ لِمَا في (يدمغه) من التأثير فيه؛ فهو أظهر في النكاية وأعلى في
تأثير القوة.
وقال تعالى: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج:
55)، وعقيم ها هنا مستعار وحقيقته مُبِيرٌ (أى
مُهْلِكَ)، والاستعارة أَبلغ لأَنه قد دل على أن ذلك اليوم لا خير بعده
للمعذَّبين، فقيل: يوم عقيم، أي لا ينتج خيرًا، ومعنى الهلاك فيهما إلا أن أَحد
الهلاكين أعظم.
وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ
النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} (يس: 37)
نسلخ مستعار، وحقيقته: نُخرج منه النهار، والاستعارة أبلغ لأن السلخ إخراج الشيء
مما لابَسَهُ وعَسُرَ انتزاعُه منه لالتحامه به، فكذلك قياس الليل.
وقال تعالى: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ
تُخْرَجُونَ} (الزخرف: 11) النشر ها هنا
مستعار، وحقيقته: أَظهَرْنا به النبات والأشجار والثمار فكانت كمن أحييناه بعد
إماتته، فكأنه قيل: أَحيينا به بلدة ميتًا، من قولك: أَنشر الله الموتى فنشروا.
وهذه الاستعارة أبلغ من الحقيقة لتضمُّنها من المبالغة ما ليس في كلمة "أظهرنا"،
والإظهار في الإحياء والإنبات إلا أنه في الإحياءِ أَبلغ.
وقال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ
تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ
دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (الأنفال: 7) لفظ
الشوكة هنا مستعار، وهو أَبلغ، وحقيقته السلاح، فذكر الحد الذي به تقع المخافة،
واعتمد على الإيماء إلى النكتة، وإذا كان السلاح يشتمل على ما له حد وما ليس له حد،
فشوكة السلاح هي التي تبقى.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ}
(فصلت: 51) عريض ها هنا مستعار، وحقيقته كبير،
والاستعارة فيه أبلغ لأنه أظهر بوقوع الحاسَّة عليه، وليس كذلك كل كثرة.
وقال تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}
(محمد: 4) وهذا مستعار، وحقيقته: حتى يضع أهل الحرب
أثقالها وضعًا لها على جهة التفخيم لشأنها.
وقال تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (التكوير:
18)، تنفس ها هنا مستعار، وحقيقته إذا بدأ انتشاره، وتنفس أبلغ منه، ومعنى
الابتداء فيهما، إلا أنَّ التنفس أبلغ لما فيه من الترويح عن النفس.
وقال تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل: 112)
وهذا مستعار، وحقيقته: أجاعها الله وأخافها، والاستعارة أبلغ، لدلالتها على استمرار
ذلك بهم كاستمرار لباس الجلد وما أشبهه. وإنما قيل ذاقوه لأنه كما يجد الذائق مرارة
الشيء فهم في الاستمرار كتلك الشدة في المذاقة.
وقال تعالى: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء
وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:
214) وهذا مستعار، وزلزلوا أبلغ وأشَدُّ من كل لفظ كان يعبر به عن غلظ ما
نالهم وشدة انزعاجهم واضطرابهم.
وقال تعالى:{ربَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} (البقرة:
250) أفرغ مستعار وحقيقته: افعل بنا صبرًا، وأفرغ أبلغ منه لأن في الإفراغ
اتساعًا مع بيان.
وقال عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا
ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل
عمران: 112) حقيقته: حصلت عليهم الذلة، والاستعارة أبلغ لِمَا فيها من
الدلالة على تثبيت ما حصل عليهم من الذلة كما يثبت الشيء بالضرب؛ لأن التمكين به
محسوس، والضرب مع ذلك يُنْبئ عن الإذلال والنقص، وفى ذلك شدة الزجر لهم والتنفير من
حالهم.
وقال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} (آل
عمران: 187) حقيقته: تعرضوا للغفلة عنه، والاستعارة أبلغ لما للإحالة فيه
على ما قد جرت العادة بمقدار السرور به.
وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آيَاتِنَا} (الأنعام: 68) كل خوض ذمه الله
تعالى في القرآن فلفظه مستعار من خوض الماء، وحقيقته: يذكرون آياتنا، والاستعارة
أبلغ لإخراجه إلى ما تقع عليه المشاهدة من الملابسة، لأنه لا تظهر ملابسة المعاني
لهم كما تظهر ملابسة الماء لهم.
وقال تعالى: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} (الأعراف:
22). وحقيقته صيَّرهما إلى الخطيئة بغرور، والاستعارة أبلغ لإخراجه إلى ما
يُحَسُّ من التدلي من علو إلى سُفل.
قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى
مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ} (التوبة: 109)، وقال
تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً
فِي قُلُوبِهِمْ} (التوبة: 110). كل هذا
مستعار، وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها، وحقيقته اعتقادهم الذي عملوا
عليه، والاستعارة أبلغ لما فيها من البيان بما يُحَسُّ ويُتَصَوَّر، وجعل البنيان
ريبة وإنما هو ذو ريبة، والاستعارة أبلغ، كما تقول: هو خبث كله، وذلك أبلغ من أن
يجعله ممتزجًا، لأن قوة الذم للريبة، فجاء على البلاغة لا على الحذف الذي إنما يراد
به الإيجاز في العبارة فقط.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} (هود: 19) العوج ها
هنا مستعار، وحقيقته خطأ، والاستعارة أبلغ لما فيها من البيان بالإحاطة على ما يقع
عليه الإحساس من العدول عن الاستقامة بالاعوجاج.
وقال عز وجل: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي
إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود: 80) أصل الأركان
للأشياء، ثم كثر واستعير حتى صار الأعوان أركانًا للمُعان، والحُجَج أركانًا
للإسلام، وحقيقته: إلى مُعِين شديد. والاستعارة أبلغ لأَن الركن يُحَسُّ، والمعين
لا يُحَسُّ من حيث هو معين.
وقال تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} (يونس:
24) أصل الحصد للنبات، وحقيقته: مُهْلَكة، والاستعارة أبلغ لما فيه من
الإحالة على إدراك البصر.
وقال عز وجل: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم:
1) كل ما جاء في القرآن من ذكر (من الظلمات إلى النور)
فهو مستعار، وحقيقته: من الجهل إلى العلم، والاستعارة أبلغ لما فيها من البيان
بالإخراج إلى ما يدرك بالأَبصار.
وقال تعالى: {حَصِيداً خَامِدِينَ} (الأنبياء:
15) أصل الخمود للنار، وحقيقته: هالكين، والاستعارة أبلغ لأن خمود النار
أقوى في الدلالة على الهلاك، على حد قولهم: طُفِئ فُلان كما يُطفأُ السراج.
وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ
يَهِيمُونَ} (الشعراء: 225)، وادٍ هنا مستعار،
وكذلك الهَيَمان، وهو من أَحسن البيان، وحقيقته: يخلطون فيما يقولون، لأَنهم ليسوا
على قصد لطريق الحق، والاستعارة أبلغ لما فيها من البيان بالإخراج إلى ما يقع عليه
الإدراك من تخليط الإنسان بالهيمان في كل وادٍ يَعِنُّ له فيه الذهاب.
وقال تعالى: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ
وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (الأحزاب: 46) السراج
ها هنا مستعار، وحقيقته: مبينًا، والاستعارة أبلغ للإحالة على ما يظهر بالحاسة.
وقال عز وجل: {يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}
(يس: 52) أصل الرقاد النوم، وحقيقته: من مهلكنا،
والاستعارة أبلغ لأن النوم أظهر من الموت، والاستيقاظ أظهر من الإحياء بعد الموت،
لأَن الإنسان الواحد يتكرر عليه النوم واليقظة، وليس كذلك الموت والحياة.
وقال تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي
بَعْضٍ} (الكهف: 99) أصل الموج للماء،
وحقيقته: تخليط بعضهم ببعض، والاستعارة أبلغ؛ لأَن قوة الماء في الاختلاط أعظم.
وقال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (الذاريات: 41) العقيم
مستعار للريح، وحقيقته: ريح لا يأتي بها سحاب غيث، والاستعارة أبلغ لأَن حال العقيم
أظهر من حال الريح التي لا تأتى بمطر، لأن ما لا يقع من أجل حال منافية أوكد مما
يقع من غير حال منافية وأظهر.
وقال عز وجل: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء:
29)، حقيقته: لا تمنع عطاءك كل المنع، والاستعارة أبلغ لأنه جعل منع العطاء
بمنزلة غَلِّ اليد إلى العنق، وذلك مما يَحْسُن حالُ التشبيه فيه بالمنع فيهما، إلا
أن حال المغلول اليد أظهر وأقوى فيما يُكْرَه.
وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى
دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} (السجدة: 21)
حقيقته: لنعذبنَّهم، والاستعارة أبلغ، لأَن إحساس الذائق أقوى لأنه طالب لإدراك ما
يذوقه، ولأَنه جعل بدل إحساس الطعام المستلَذّ إحساس الآلام، لأن الأسبق في الذوق
ذوق الطعام.
وقال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ
سِنِينَ عَدَداً} (الكهف: 11)، حقيقته:
منعناهم الإحساس بآذانهم من غير صمم، والاستعارة أبلغ؛ لأَنه كالضرب على الكتاب فلا
يُقْرَأ، وكذلك المنع من الإحساس فلا يُحِسُّ، وإنما دل على عدم الإحساس بالضرب على
الآذان دون الضرب على الأَبصار، لأنه أدل على المراد من حيث كان قد يضرب على
الأَبصار من غير عمى فلا يبطل الإدراك رأسًا، وذلك بتغميض الأَجفان، وليس كذلك منع
الإسماع من غير صمم في الآذان؛ لأنه إذا ضُرِبَ عليها من غير صمم دل على عدم
الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك، ولأَن الأذن لما كانت طريقًا إلى الانتباه ثم
ضُرِبَ عليها لم يكن هناك سبيل إليه.
وقال عز وجل: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} (الأنبياء:
65) هذا استعارة، حقيقته: أطرقوا للمذلة عند لزوم الحجة، إلا أنه بولغ في
العبارة بجعلهم كالواقع على رأسه للحيرة بما نزل به.
وقال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ} (الأعراف:
149) هذا مستعار وحقيقته: ندموا لما رأوا من أسباب الندم، إلا أن الاستعارة
أبلغ للإحالة فيه على الإحساس لما يوجب الندم بما سقط في اليد، فكانت حاله أكشف في
سوء الاختيار لما يوجب من الوبال6.
• وأمَّا ما استشهدوا به من قول الله عز وجل: {فَوَجَدَا
فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (الكهف: 77)،
فهو قمة في البلاغة، ومعنى الإرادة هنا: المداناة والمشارفة، استعيرت الإرادة لذلك،
كما استعير الهمُّ والعزم في نحو قول الراعي:
في مَهمَهٍ قَلِقَت
بِهِ هاماتُها *** قَلَقَ الفُؤوسِ إِذا أَرَدنَ
نُصُولا
وقول حسان:
إنَّ دَهْرًا
يَلُفُّ شملي بِجُمْلٍ *** لَزَمانٌ يَهُمُّ
بالإحسانِ
وتقول العرب: عزم
السراجُ أن يُطْفَأَ، وطلب أن يطفأ.
وإذا كان القول، والنطق، والشكاية، والصدق، والكذب، والسكوت، والتمرد، والإباء،
والعزة، والطواعية، وغير ذلك قد استعيرت للجمادات ولما لا يعقل، فإن الإرادة نحو
ذلك7.
وقد اتَّفق علماء البلاغة على أنَّ المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو سقط المجاز من
القرآن لسقط منه شطر الحُسن، ولو وجب خلوّه منه لوجب خلوّه من الحذف والتوكيد،
وتثنية القصص وغيرها، كيف وهو أشرف أنواع البلاغة وأعلاها؟! حتى لو قال قائل: إنه
أكثر كلام العرب، لم يُبْعِد.
وأمَّا دعواهم بأنه كذب؛ لأن الجدار لا يريد، والقرية لا تُسأل، فهذا من أشنع
جهالاتهم وأدلِّها على سوء نظرهم وقلة أفهامهم، فلو كان الأمر كما ذكروا لكان كل
فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلاً، وكان أكثر كلامنا فاسدًا؛ لأننا نقول: نبت البقل،
وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وثبت الجبل، ورخُص السِّعر.
وتقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا، والفعل لم يكن، وإنما كُوِّن. وهذا له
أمثلة عديدة لا يستطيع المرء أن يحصيها، ولو قلنا للمُنكِر لقول الله تعالى: {فَوَجَدَا
فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ}: ماذا يمكنك أنت أن
تقول في جدار رأيته على شَفَا الانهيار؟ أتقول: رأيت جدارًا، ثم تسكت؟ إنك لَن تجد
مفرًّا من أن تقول: جدارًا يَهُمُّ أن ينقض، أو يكاد أن ينقض، أو يقارب.. وأيًّا ما
تقول فسوف تجعله فاعلاً، ولا نحسبك تصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم إلا
بمثل هذه الألفاظ.
• وأما قوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا
فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (يوسف:
82)، فَمَن ذا الذي يشك أن المراد: اسأل أهل القرية؟ فحذف المضاف (أهل)
وأقيم المضاف إليه (القرية) مقامه. وفي هذا فائدتان:
أولاهما: التوكيد بعموم اللفظ، فكأنهم قالوا: اسأل كل من فى القرية وما فيها لتعلم
صدقنا.
ثانيهما: المجاز، ولا يُنْكَر ما للمجاز من مزايا، حتى ترى به التلميح أحسن من
التصريح، فقد اسْتُخْدِمَ في مواضع كثيرة كان اللفظ الصريح فيها مُسْتَهجَنًا؛ حيث
عُبِّر به عن الجِماع والاست، وعن الفرج، والبول، وكلها ألفاظ كما ترى مما
يُسْتَقْبَح ذكرُه، فأيهما أفضل في التعبير عن التقاء الرجل بالمرأة: التعبير بلفظ
"الجماع"، أم بلفظ "المباشرة"
كما جاء في قوله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187)؛
فلقد ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه. وأيهما أجمل وأبلغ: التعبير بـ"الغائط"
أم بـ"البول" في قوله عز وجل: {أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (المائدة: 6)،
وغير ذلك كثير، وتلك مزية لا يمكن إغفالها عند تعرضنا لقضية المجاز.
ولا يمكن أن يُدرَس المجازُ أيضًا بعيدًا عن القرائن؛ فهي التي تحول دون إرادة
المعنى الحقيقي، وفي قوله عز وجل: {فوجدا فيها جِدَارًا
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} (الكهف: 77)، أضاف
الفعل إلى ما لا يصح منه على سبيل التشبيه، فالقرينة العقلية تحول دون إرادة المعنى
الحقيقي؛ لأن الإرادة من صفات الحي، وإنما وُصف به تشبيهًا لميله للوقوع بإرادته.
****************************
(1) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، ص 76،
المثل السائر لابن الأثير 1 / 105.
(2) انظر: د. عبد العظيم إبراهيم المطعني، المجاز في اللغة وفي القرآن الكريم بين
مجوزيه ومانعيه، ص 61ـ 96، (صفحات
متفرقة)، د. حفني محمد شرف، إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق،
ص 31.
(3) تأويل مشكل القرآن، ص 102.
(4) الخصائص 2 / 442.
(5) نفس الموضع السابق.
(6) من رسالة الرمانى، ضمن كتاب "ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن"،
ص87 ـ 94 (بتصرف وإيجاز).
(7) الكشاف 2 / 494.
|